Accessibility links

إعلان
إعلان

وجدي الأهدل*

في أحد مقاهي العاصمة – مقهى النخيل إذا لم تخني الذاكرة – التقينا نحن الثلاثة (علوان مهدي الجيلاني، وكاتب هذه السطور، وصديق ثالث أتحفظ عن ذكر اسمه) وقد ضاقت بنا الحال، وانسدت أمامنا أبواب الرزق، فكتبنا بيانًا ظريفًا ومحزنًا في الوقت نفسه، نعلن فيه عن حاجتنا الماسة للعمل الشريف.

أحد أسباب كتابة البيان لقاءنا مع وزير الثقافة آنذاك، وعودتنا خائبين من مكتبه، وكانت خلاصة اللقاء أنه لا وظائف شاغرة في وزارته، وأن الوظيفة الحكومية عبودية لا تجلب سوى الفقر، وضرب لنا مثلًا بنفسه، وكيف أنه مدين لهذا وذاك، وأن مرتبه كوزير لا يكفيه.. كدنا والله من قوة حجته وذلاقة لسانه أن ندخل أيدينا في جيوبنا لنساعده بما تيسر، لولا أن العناكب قد نسجت بيوتها في جيوبنا فلم تدخلها الريالات منذ دهر.

نشرنا البيان في صحيفة الشورى عام 1998، ولشدة فقرنا لم نكن نملك ثمن شراء أية نسخة فلم نعلم أن الصحيفة قد نشرته.

عندما سلمنا البيان المكتوب بخط اليد المذيل بتوقيعاتنا لصحافي زميل، لم نتوقع من ورائه طائلًا، فإنما هو نفثة مصدور كما يقال، وفكرة عَبَرَتْ رأيناها إن لم تنفع لا تضر.

ولكن المفاجأة التي تخطر ببال الثلاثة العاطلين عن العمل، هي أن هناك من قرأ البيان ولم يغمض له جفن، فأرسل من يبحث عنا ويبلغنا أننا مطلوبون على وجه السرعة لمقابلته!

كان هذا الرجل هو الأستاذ أحمد جابر عفيف، رحمه الله، رئيس مؤسسة العفيف الثقافية آنذاك، والذي شغل العديد من المناصب الرسمية الرفيعة، مثل سفير اليمن في لبنان، ووزير التربية والتعليم.

التقانا الأستاذ أحمد في مكتبه بالمؤسسة، كل واحد على حدة، ووجه لنا أسئلة محددة: ماذا تقرأ؟ ماذا تعمل؟ كم دخلك؟ ماذا تتقن؟ ونحو ذلك من الأسئلة. وانتهت المقابلات الشخصية بتوظيف علوان مهدي الجيلاني وتوظيفي في مؤسسة العفيف الثقافية مع فترة اختبار قدرها ستة أشهر.

أثناء العمل في المؤسسة تعرفنا عن كثب على شخصية نادرة لا مثيل في مجتمعنا اليمني، وتعلمنا منه مبادئ العمل الإداري الصحيحة، فقد كان الأستاذ أحمد معروفًا بقدراته الإدارية العالية، وأنه نموذج للإدارة الرشيدة في جميع المرافق الحكومية التي عمل بها، وأن الوزارة أو المؤسسة التي يديرها كانت تعمل في عهده كالساعة من حيث الدقة والانضباط والإنجاز.

هذه الكفاءة الإدارية لم أجد مثيلًا لها عند أيّ مسؤول يمني آخر، ومعاصروه يشهدون له بذلك، وقد ذكر لنا سر تفوقه في الإدارة، والسر ببساطة أنه التحق بدورات تعليم مبادئ الإدارة على حسابه الشخصي في بيروت، أثناء عمله سفيرًا لليمن هناك، ولم يأنف أن يتعلم وهو بمنصب ديبلوماسي رفيع، فكان لهذا التعليم أعظم الأثر عليه، فإذا هو أسطورة في العمل الإداري الناجح.

لم يمسك العفيف بوزارة أو مؤسسة إلا وقادها نحو التطور وتحسين أدائها إلى أفضل مدى ممكن، وتحقيق الأهداف المبرمجة التي تم التخطيط لها.

إن مشكلة اليمن الأزلية هي سوء الإدارة.. وقد اهتم اليمن بالبعثات التعليمية في كافة المجالات، باستثناء علم الإدارة، إذ لم يتوقع صانع القرار السياسي في اليمن أن الإدارة مهمة إلى أقصى حد، وأن الإدارة الاحترافية هي أساس نجاح مؤسسات الدولة في أداء عملها على أكمل وجه.

يظن البعض أن العمل الإداري الناجح كله جدية وانضباط وصرامة.. إلخ.

ولكن تجربتي في العمل مع الأستاذ أحمد توضح أكثر صورة الإدارة الناجحة.. كل ما ذكرناه آنفا صحيح، لقد تعلمنا الجدية والانضباط والصرامة في التعامل مع الوقت والمهام، ولكن أيضًا خارج أوقات العمل هناك نوع من الألفة والرفقة والصحبة التي تهدف إلى توثيق أواصر الفريق الواحد، فكان العفيف، رحمه الله، يدعونا مرة أو مرتين في الأسبوع لتناول الغداء معه في بيته، في الطابق الأسفل من المؤسسة، ومرة واحدة على الأقل في الشهر لتناول الغداء في أحد المطاعم المعروفة.

كان أيضًا يسأل عن ظروفنا واحتياجاتنا، ولا يقصر معنا.

وهذا القرب يهدف إلى كسر العلاقة الجامدة بين الموظف ومدير العمل، وأن يشعر الموظف بأن المؤسسة التي يعمل بها هي أيضًا مؤسسته، وأنه جزء منها وهي جزء منه.

هذه الأساليب في الإدارة أعتقد أنها اندثرت في بلادنا، وكلنا نعلم أن المسؤول أو الموظف، كليهما لا يبالي بنجاح أو فشل المؤسسة التي يعمل بها، فما يهمه أن يحقق المكاسب الشخصية لا غير.

كنا نسابق الزمن للانتهاء من كتاب “شاهد على اليمن، أشياء من الذاكرة”، فاقتضى هذا أن نعمل فترتين صباحية ومسائية، فأتممنا العمل في ظرف خمسة أشهر، وصار المخطوط جاهزًا للطباعة.

الكتاب سيرة ذاتية للأستاذ أحمد جابر عفيف، منذ ميلاده في بلدته بيت الفقيه عام 1929، وحتى لحظة العمل على الكتاب.

وكان الأستاذ يستعيد ذكرياته شفويًا، ويسجلها على أشرطة كاسيت، وكانت مهمتي هي تفريغ أشرطة الكاسيت كما هي، ومن ثم أمرر الأوراق إلى زميلي علوان مهدي الجيلاني ليعيد صياغة المكتوب في الأوراق صياغة أدبية متماسكة البنيان، جزلة البيان.

أهم إنجازات العفيف “الموسوعة اليمنية” التي تقع في أربعة أجزاء، وهي منجز علمي لا تستغني عنه أمة من الأمم، ولولا العفيف والنفقات العظيمة التي أنفقها في سبيل إنجازها،ل ما كان لليمن واليمنيين موسوعة خاصة بهم.

نشرت مؤسسة العفيف الثقافية عشرات الكتب القيّمة، وكانت لديها مكتبة عامة مفتوحة للقراء والاستعارة، كما أقامت برنامجًا سنويًا للفعاليات الثقافية، ساهم بشكل فعال في رفد الحركة الثقافية اليمنية وتطويرها.

ظهرت شائعات كيدية تذكر أن الأستاذ أحمد له ارتباط بالماسونية، وأن المؤسسة تقوم بنشاط ماسوني مشبوه، وذو أهداف خفية!

هذه الأراجيف رافقت المؤسسة منذ تأسيسها عام 1989، وحتى إغلاقها عام 2014.

والسؤال الذي يطرح نفسه، وقد أُغلقتْ المؤسسة إلى أجل غير مسمى، وانطوى صاحبها تحت الثرى، ما هو النشاط المشبوه الذي قامت به المؤسسة خلال فترة نشاطها؟ هل إصدار عشرات الكتب وإقامة الفعاليات الثقافية وإتاحة مكتبة عامة للقراء يخدم أهداف الماسونية في اليمن كما زعموا؟؟.. لقد تورط اليسار، مع الأسف، في تلك الحملة الشعواء ضد العفيف، جنبًا إلى جنب مع التيار الإسلامي المتشدد.

ربما نفهم موقف التيار الإسلامي المعادي للتنوير والعلمانية والليبرالية، ولكنّي حتى اللحظة حائر لم أفهم أسباب جفاء اليسار اليمني للمؤسسة وضلوعه في نشر الدعايات المغرضة.

كنا نعمل في المؤسسة وتلك الشائعات تتطاير من كل الاتجاهات، ونالنا نصيب منها ومن العداء أيضًا.

اليوم وبعد مرور ربع قرن من خوضي تجربة العمل في مؤسسة العفيف الثقافية، أصل إلى استنتاج واضح: هذا الرجل كان يملك رؤية صحيحة لنهضة اليمن، أي عن طريق الثقافة، وبواسطة المثقفين.

وأما اليسار اليمني بمختلف أطيافه فكان يُراهن على العمل السياسي، وأن رجال السياسة هم الذين بيدهم مفاتيح نهضة اليمن.

لم يلتقط النظام السياسي في اليمن، ولا اليسار أيضًا، أفكار العفيف التنويرية، التي تراهن على الثقافة والمثقفين.. وكانت النتيجة ما وصلنا إليه اليوم: النظام السياسي في المنفى، واليسار تلاشى، والغلبة للتيارات الدينية.

تغيير مستقبل اليمن ليس في المعسكرات، ولكن في المكتبات.. ورحم الله الأستاذ أحمد جابر عفيف الذي أرشد قومه إلى المَخرج، ولكنهم لم يلتفتوا له.

* روائي وكاتب يمني

   
 
إعلان

تعليقات