Accessibility links

إعلان
إعلان

وجدي الأهدل*

الشعور بالرهبة، ورعشة تضرب الجلد وكأنه سينفصل عن العظام، وتسارع في نبضات القلب، والتعرق الشديد وغيرها من الظواهر الموصوفة هنا وهناك هي الأعراض الملازمة للّقاء الأول مع الموضوع المنزل في منزلة (الجليل).

ملاقاة (الجليل) ليس أمرًا سارًا مثل رؤية موضوع (جميل). نحن نشعر بالسعادة حين نرى منظرًا طبيعيًا، ونصفه بأنه (جميل) وهو يترك في نفوسنا أثرًا جماليًا بيّنًا. وأما (الجليل) فإن جماله خفي، ويثير في نفوسنا أشد حالات الاضطراب، ولذا فنحن نهرب منه ونتحاشاه، لأنه يشكل مصدر خطر علينا.. وحتى اليوم يبدو هذا الخطر غير مفهوم لنا.

التعريف الأكثر تداولًا لمعنى الجليل في الفلسفة والتصوف: ما جاوز الحد من نواحي الفن، والأخلاق والفكر، رائع يأخذ بمجامع القلوب.

ولدى الفلاسفة بحوث مسهبة حول (الجميل) و(الجليل) والفرق بينهما، ولعل الفارق الأهم الذي أميل إليه، هو أن (الجميل) محدود، و(الجليل) لا محدود.  

النبي (إبراهيم) عليه السلام شعر بالخوف حين اكتشف أن ضيفيه لم يكونا بشريين. قال تعالى: “فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ”. سورة هود، الآية 70. 

والرسول صلى الله عليه وسلم عانى أقسى درجات “الرهبة” حين لقائه الأول بالناموس الأكبر، وقد عاد من ذلك اللقاء خائفًا مذعورًا إلى زوجته وكان يرتجف فقال لها “زمّليني، زمّليني”. وهذا يُبين كم هو صعب على الكائن البشري أن يقيم اتصالًا مع (الجليل) وأن ذلك شاق جدًا ولا يتحمله العقل البشري إلا في حالات نادرة.

لذلك كان اتهام القرشيين للنبي صلى الله عليه وسلم بأنه مجنون بناءً على تقديرهم بأنه ما من رجل يقيم اتصالًا مع (الجليل) ويبقى حيًا أو على الأقل محافظًا على سلامة قواه العقلية.

سافر النبي يعقوب في البرية، فلما وصل إلى موضع خلاء نام فيه، ورأى في الحلم سلمًا منصوبة على الأرض ورأسها يمس السماء والملائكة صاعدة ونازلة عليها والله يتخاطب معه.

جاء في سفر التكوين (28): “فاستيقظ يعقوب من نومه وقال حقًا إن الرب في هذا المكان وأنا لم أعلم! وخاف، وقال: ما أرهب هذا المكان! ما هذا إلا بيت الله، وهذا باب السماء”.

وهذا الموضع صار لاحقًا مدينة القدس. والجدير بالملاحظة أن معراج الرسول عليه الصلاة والسلام إلى السماوات لم يكن ممكنًا من أيّ موضع في الأرض إلا من مدينة القدس.

وكما أن الجسم المادي للإنسان لا يتحمل الحياة في الفضاء، ولديه حدود حيوية لا يمكنه تجاوزها، فكذلك الدماغ البشري لا يطيق مقاييس معينة من الوجود، إذ تكوين الدماغ محدود أيضًا، ومتناسب مع ظروف الحياة داخل الغلاف الجوي لهذا الكوكب الذي وجدنا أنفسنا فيه.

أراد النبي موسى عليه السلام تجاوز هذه الحدود الفيزيائية دون أن يدرك محدودية وجوده.. فطلب أن يرى الله! قال تعالى في سورة الأعراف، الآية 143: “وَلَمَّا جَاءَ مُوسَىٰ لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَٰكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّىٰ رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَىٰ صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ”.

بالنسبة للإنسان العادي فإنه ملاقاة (الجليل) تحدث عند الوفاة، وربما لهذا السبب يتجنب الإنسان الموت ما وسعه، ربما خوفًا ورهبة من هذا اللقاء.

الحياة جميلة ونحن نحبها لأنها محدودة، وأما الموت فجليل ونحن نرتعب منه لأنه لا محدود.

أيّ شيء نسعى إليه ولا نخشاه فهو في منزلة (الجميل)، وأما الذي نسعى إليه ونخشاه فهو في منزلة (الجليل).

إذا افترضنا أن هناك فتىً اسمه مهران، وهذا الفتى يحب ابنة الجيران، فإنه ولا شك يأمل أن يصادفها في الشارع أو في أيّ مكان، لأنها موضوع (جميل) في نفسه، وأما أستاذه في المدرسة الذي يحمل له التوقير والاحترام، فإنه يتجنب مصادفته في الشارع، وإذا حدثت مصادفة كهذه فإنه يفر من ملاقاته، لأن أستاذه موضوع (جليل) بالنسبة له.

الموضوع (الجميل) واضح وغير معقد، الموضوع (الجليل) غامض وعلى قدر كبير من التعقيد.

تقع الكتب المقدسة ضمن دائرة (الجليل)، والأدب ضمن دائرة (الجميل)، ونادرًا ما تمكن أديب من التغلب على محدوديته البشرية والسمو بأدبه إلى مرتبة (الجليل).

يتوق الفنان والفيلسوف والصوفي إلى ملامسة الجليل عن طريق عمله واجتهاده وتأملاته، وهذا يحتاج إلى مكابدة روحية عظيمة، وقد يزل به عقله إلى درب الهلاك، لأن الطريق شديدة الخطورة والوعورة، فلا ثمرة تأتي هكذا مجانًا.

كأن الحل الوحيد ليتجاوز الكائن البشري محدوديته يأتي عن طريق (الشطح). يمكن للفنان المحدود الرؤية الذي يفضل السلامة أن ينتج عملًا جميلًا، لكن ماذا بشأن الفنان الذي لديه رؤية أوسع وإرادة صلبة في المغامرة؟ لن يتمكن من إنتاج عمل فني (جليل) إلا عن طريق الشطح، فما هو الشطح؟ جاء في الويكيبيديا:

“حال صوفية فيها رعونة، ودعوى يُفصح بها العارف من غير إذن إلهي، تصدر من أهل المعرفة باضطرار واضطراب، وهو من زلات المحققين. ومن الشطحات المشهورة ما ورد على لسان البسطامي والحلاج والتستري. والمسلمون إزاءها فريقان: فريق يؤيدها ويحاول تفسيرها، وفريق يرفضها وينكرها”.

وهذا التعريف لا يخص الصوفية وحدهم، بل يشمل كل مغامرة مادية أو روحية أنجزها الإنسان.

رواية “أولاد حارتنا” لنجيب محفوظ فيها شطح، لذلك ظلت هذه الرواية محل جدل منذ نشرها مسلسلة على حلقات في صحيفة الأهرام، وستظل كذلك حتى آخر قارئ يُقلب صفحات الرواية.

إذا تأملنا النظرية النسبية لأينشتاين، سنجد أنها شطحة من شطحات العقل البشري التي لا تصدق.. لكن الأدلة العلمية تؤيدها عامًا تلو الآخر، ومع ذلك ما تزال العقول البشرية المحدودة غير قادرة على استيعابها وفهمها.

وكذلك الأمر بشأن نظرية الكم لماكس بلانك، وهذه نظرية فيزيائية فيها شطح لا يتحمله العقل البشري.. حتى إن أينشتاين أعظم عقل بشري على مرّ التاريخ رفضها.

يبدو كما لاحظنا أن الجميل يقبله العقل البشري والذوق البشري، وأما الجليل فهو يتحدى العقل البشري ويشقلب الذوق البشري..

هذه ليست ثنائية على غرار الأبيض والأسود، والخير والشر، والملاك والشيطان ونحو ذلك.. ولكنها مجالات طاقة إذا لم يخُنِّي التعبير، ولكل إنسان قدرات معينة في السحب منها.

لا يوجد صراع بين (الجميل) و(الجليل)، ولكن الأول يقود إذا تطور بصورة صحيحة إلى الثاني بالضرورة.

يخوض الإنسان صراعًا مريرًا ليُخلص نفسه من القبح القابع في داخله، وقد ينجح ويصير إنسانًا جميلًا محبوبًا من الناس، وأعتقد أن الذهاب إلى ما هو أبعد لا يتأتى بإرادة ذاتية، ولكن عبر عنصر لم يخطر بالبال يأتي من خارج النفس.

* روائي وكاتب يمني

 

   
 
إعلان

تعليقات