Accessibility links

إعلان
إعلان

وجدي الأهدل*

تفرض الأديان السماوية (الصوم) على أتباعها، مع اختلافات معينة من دين لآخر، ولكن يظل الغرض من الصوم هو نفسه تقريبًا في كل الأديان.

يهدف الصيام في الديانة الإسلامية إلى تطهير الإنسان روحيًّا عن طريق تقليل كميات الطعام، والكف طوعيًّا عن تناوله أثناء القيام بالأنشطة اليومية المعتادة.

فرحة المسلمين بقدوم شهر رمضان في كل الدول الإسلامية وفي الدول التي فيها أقليات مسلمة، دليل على الأثر الحميد لهذه الفريضة، وأن الصوم يساهم فعلًا في تغيير الشخصية لتصبح أفضل وأجمل وأنقى وأصدق.

لن أتحدث عن الشعوب الأخرى، ولكن سأتحدث عن الشعب اليمني الذي أعرفه لأنني أعيش في وسطه، وأبسط في هذه المقالة رأيي عن الفهم الخاطئ لمعنى الصيام عند جزء من اليمنيين، هذا الجزء الذي استفحل كثيرًا حتى كاد يعم، وكيف حوّل بعض اليمنيين هدف الصوم إلى الاتجاه المعاكس ففقد معناه مع الأسف، وانقلب الهدف إلى ضده، وهذه عادة يمنية دارجة في وقتنا الحاضر، أيّ إفراغ الأوامر الإلهية من محتواها وتحويلها إلى أغراض أخرى تخريبية، أغراض تُقعد الروح ولا تساعدها على النهوض.

الظاهرة الأولى التي تُلاحظ في رمضان عند بعض اليمنيين هي سُوء الخلق، وسرعة الغضب، وبروز شخصية عنيفة نزقة يمكن أن تنجر للشجار وسفك الدماء لأبسط الأسباب، يحدث هذا التحول المريع في الشخصية في نهار رمضان، وخصوصًا في العصر وعند دنو وقت الإفطار، كل ذلك بسبب نقص بسيط في التهام الطعام! إنه لأمر مقزز أن يؤدي الامتناع عن الطعام لساعات محدودة إلى تحويل بعض الناس إلى حيوانات متوحشة غير قادرة على ضبط انفعالاتها.

مؤكد أن الغرض من (الصوم) هو تهذيب النفس البشرية، وجعلها أكثر سلامًا مع نفسها ومع من حولها، وتغليب طبع الطيبة والمحبة على الطبائع الخبيثة العدوانية.

أحيانًا تومض في ذهني فكرة أن فريضة الصوم لها هدف خفي غير معلن: فضح النفوس التي تبدو ظاهريًّا متوازنة ومستقرة نفسيًّا، فإذا تأخر موعد إطعامها بضع ساعات عن الموعد المعتاد، إذا بها تنقلب إلى وحوش هائجة، وتتكشف عن شخصية معتلة غير سوية، تبحث عن متنفس لغضبها المكبوت المتراكم، فتفرغه في أول ضحية يتصادف أن يتعثر بها هذا الغضوب المستتر!

هذه الفئة التي تقع بسهولة في براثن الغضب المتفجر، وكأنما الصوم شرارة تسقط في برميل وقود، لا يصح لها إطلاقًا الصيام، لأنها فئة متدنية روحيًّا، ودفع الضرر مقدم على جلب المنفعة، فلا يحق لها أن تؤذي المجتمع بسبب امتناعها عن تناول الطعام، والأولى بهؤلاء (المرضى) تناول وجباتهم الثلاث في مواعيدها الثابتة دون تغيير.

يمكن لمن يصر على الصيام رغم عجزه عن كف جماح غضبه وسُوء خلقه أن يُقرن الصوم بالاعتكاف، فهذا أحد الحلول الناجعة لعزل نفسه وترويضها.

الظاهرة الثانية هي التبذير، واستهلاك مقادير من المواد الغذائية أكثر من المعتاد في باقي شهور السنة، ويتضاعف فائض الطعام الذي يذهب إلى حاويات القمامة.

وهذه الظاهرة تلاحظ بوضوح في اليوم الأخير من شهر شعبان، حيث يهجم اليمنيون على المتاجر ويشترون كميات كبيرة من المواد الغذائية، وكأن البلد سيعاني في اليوم التالي من مجاعة، أو كأن رمضان كارثة مدمرة سيؤدي إلى توقف مظاهر الحياة، فتُغلقُ الأسواق وتتوقف السلاسل الغذائية.

لا أظن أن أجدادنا كانوا يفكرون في (رمضان) على هذا النحو، أيّ تدليل المعدة بأطعمة متنوعة، وإنما كانوا يفكرون فيه كمناسبة منتظرة بفارغ الصبر لتصفية النفوس من الأحقاد والكراهية والعودة إلى الله.

يدعونا رمضان إلى التقشف في المأكل والمشرب، وتقليل كميات الطعام التي نتناولها طوال أيام السنة إلى النصف تقريبًا، وهذه الراحة التي يمنحها الصوم للمعدة مدة شهر، ذات فوائد طبية أجمع عليها الأطباء في كل أنحاء العالم، ولكن البعض يقلب الآية، فيتخم معدته بالطعام، ويضيف إلى ذلك النوم في النهار والخمول في الليل، فإذا هو في حال أبعد ما يكون عن الصحة، ولذلك تكثر وفيات اليمنيين في شهر رمضان وأيام العيد.

الظاهرة الثالثة ملتبسة قليلًا.. الذي أعرفه أن المسلمين مثلهم مثل غيرهم فيهم من يشرب المسكرات ويتعاطى المخدرات، ولكن عند حلول الشهر الفضيل، يكف هؤلاء طوعيًّا عن الشرب والمخدر احترامًا لقدسية رمضان، وبعد انقضائه لهم شأن آخر، وأما اليمني فيحضر القات في ليالي رمضان كلازمة لا فكاك له منها.. قد نتفق وقد نختلف حول تصنيف (القات) ضمن المسكرات والمخدرات، أيّ ضمن المواد الضارة بالإنسان، ولكن على الأقل سننظر إليه من زاوية محددة هي زاوية ضرورة تركه واجتنابه في شهر رمضان.. ليس الهدف من فريضة الصوم لمدة شهر الامتناع عن الأكل فقط، فهذا هدف تافه، ولكن الهدف إحداث تغيير جذري في العادات اليومية للإنسان وطرائق تفكيره.. بالنسبة للإنسان اليمني تحديدًا يمكن أن يكون شهر رمضان فرصة ليقلع عن عادة تعاطي القات.. شهر رمضان يمنحنا 29 – 30 يومًا، وهي كافية للشفاء من إدمان القات.

لكن الذي يحصل على أرض الواقع هو تهافت اليمنيين على مضغ القات أكثر في شهر رمضان، وربما ضاعفوا من إنفاقهم على شرائه أكثر من باقي أيام السنة، فإذا هم واقعون في أسوأ العادات، وأرذل أنواع الصوم، فنوم في النهار وسهر في الليل لمضغ أوراق القات، وبهذا الإيقاع دمروا تمامًا المعاني الإيجابية التي من أجلها فُرض الله الصوم.

شهر رمضان هو فرصة سنوية لكي يغيّر الإنسان عاداته اليومية ويستبدلها بعادات جديدة أكثر نفعًا، وأن يفكر فيما هو أبعد من المعدة والمطبخ، فيما هو أبعد من المتع المعتادة، وأن يفكر في مباهج أكثر سموًّا وإنسانية.

* روائي يمني.

   
 
إعلان

تعليقات