Accessibility links

إعلان
إعلان

وجدي الأهدل*

رافاييل غايار طبيب نفسي فرنسي، شغل منصب مدير المركز الجامعي للطب النفسي في مستشفى سانت آن وجامعة باريس، وأصدر كتبًا عديدة في مجال اختصاصه، أهمها كتاب عنوانه “شطحات العقل بين الإبداع والجنون”، صدر بالفرنسية عام 2022، وترجمته إلى العربية بديعة بوليلة، وصدرت النسخة العربية عن دار الساقي ببيروت عام 2023.

لقد قرأت بضعة كتب تناقش موضوع العلاقة بين الإبداع والاضطراب العقلي، ولكن هذا الكتاب مختلف من أوجه عديدة.

بصورة عامة يبدي الغرب اهتمامًا ملحوظًا بالعباقرة، ويسعى جاهدًا إلى اكتشاف سر العبقرية.

لقد راجت في القرن العشرين تحديدًا فكرة أن كل مبدع لابد أن يكون مريضًا بمرض نفسي ما أو مصابًا بخلل عقلي ما، وأن هذا العيب العقلي أو النفسي هو المحرك الخفي وراء إبداعه.

لقد شعرت دائمًا بالارتياب من هذه الأطروحة، وأن وراء الأكمة ما وراءها، وإذا نظرنا إلى إبداعنا المحلي في اليمن، فنحن على يقين تام بأصالة الإبداع الذي أنتجه شاعرا اليمن العملاقان؛ عبد العزيز المقالح وعبدالله البردوني، وكان كلاهما على قدر عظيم من رجاحة العقل، والسلامة النفسية، ونحن الذين عاصرناهما ندرك أن مسار حياتهما يخلو من أيّ اضطرابات عقلية أو نفسية، فهما نموذجان راقيان لنضج الشخصية الإنسانية، وتمام الصحة العقلية والنفسية.

يعود رافاييل غايار -كعادة علماء الغرب- إلى الحضارة اليونانية ليؤسس لأطروحته، وينهل من الفيلسوف اليوناني أرسطو:

“لماذا يبدو جميع الرجال الذين أصبحوا استثنائيين (عباقرة الفلسفة والسياسة والشعر والفنون) ملنخوليين: وبعضهم إلى درجة الإصابة بأمراض متصلة بالسوداء”ص50.

وفي مقطع آخر ينقل حكمًا مبرمًا عن أرسطو: “لا عبقرية دون لمسة جنون”ص49.

ولع علماء الغرب بالإغريق وإرثهم، قد يفسر سر تعلقهم بمسألة ربط الإبداع بالجنون، لأن الإغريق ربطوا الإبداع بـالمالنخوليا.

الأدلة الجديدة التي أتى بها رافاييل غايار لدعم ملاحظات فلاسفة الإغريق جاءت من طريق العلم، واسترشادًا بنظرية تشارلز داروين:

“لماذا هذا القدر من التواتر للاضطرابات النفسية؟ الفرضية الأولى لشرح هذا التواتر الكبير والمطرد في جميع أنحاء العالم هي اعتبار وجود منفعة في الإصابة باضطرابات نفسية، على مستوى النوع البشري، أي أنها متواترة لأنها قد تكون مرتبطة بخصائص تعود بالنفع على استمرارنا بوصفنا بشرا. وعلى غرابتها، تخضع هذه الفكرة إلى منطق يدخل في فهمنا لعالم الأحياء اليوم: الداروينية”ص15.

وهذه الفرضية الغريبة غير المسبوقة بناها غايار استنادًا على بحث قام به فريق من مجموعات باحثين دولية، بإدارة النرويجي أولي آندريسن، للمقارنة بين جينات الإنسان البدائي (المنقرض) وجينات الإنسان العاقل (البشر المعاصرون)، وكانت النتيجة كما يشرح غايار:

“إن المتغيرات الجينية المرتبطة بخطر متنامٍ للفصام موجودة في الغالب في أجزاء المجين الموجودة عند الإنسان العاقل والتي يختلف فيها عن مجين الإنسان البدائي. بتعبير آخر، ترتبط هذه المتغيرات بما يجعل منا إنسانًا عاقلًا أكثر من أن نكون إنسانًا بدائيًا”ص35.

يبدو هذا دليلًا علميًا حاسمًا، أن تطور دماغ الإنسان قد يصاحبه تزايد في الجينات المسؤولة عن الاضطراب العقلي والنفسي.. وهذه مسألة تبدو منطقية، ونحن نرى في واقعنا أن الإنسان كلما ارتفع في سلم التحضر والمدنية أصبح أكثر عرضة للأمراض النفسية والعصبية، ومثال ذلك من بيئتنا المحلية، إذ لم يسبق أن شوهد مجنون من فئة المهمشين السود، المعروفين في اليمن باسم (الأخدام)، وهم الذين حتى الآن لا يبدو أن لديهم اهتمامًا بترقي السلم الاجتماعي وخوض الصراع الطبقي.

يناقش رافاييل غايار مشكلة الاكتئاب الشائعة بين فئة الأدباء والفنانين والمفكرين، وهناك أطنان من الأبحاث التي تناقش هذه الظاهرة وتثبتها، ولكن رافاييل غايار يطرح ملاحظة ثاقبة؛ وهي لماذا لا يكون الاكتئاب نتيجة للإبداع الأدبي والفني وليس سببًا له؟ ولعله توصل إلى هذه الملاحظة -التي أراها صحيحة بالمناسبة- من خلال ممارسته الطبية لعلاج آلاف المرضى النفسيين في مستشفى سانت آن بباريس.

الحقيقة أن الاكتئاب وسواه من الأمراض النفسية تعيق الإبداع، وتخنق المبدع، وقد تئد موهبة كبيرة من التجلي بكامل قوتها ودهشتها وأصالتها.

في أوروبا وربما في الولايات المتحدة الأمريكية أيضًا، كان يُنظر إلى الشخص غير المتوازن نفسيًا وعصبيًا على أن فيه بذرة إبداع، وقد يكتسي مُدَّعي الموهبة الفنية هالة من القدسية إذا هو تظاهر بالجنون!

وسادت هذه (الموضة) لفترة في اليمن، خصوصًا في القرن الماضي، ولكنها تلاشت ولم تعد ملحوظة كما كانت.. والأمر يحتاج إلى تفصيل وبحث لا يتسع له هذا المقال المتواضع.

إذن شاعت في الأوساط الأدبية والفنية ظاهرة تبجيل المبدع الممسوس، ولم يأتِ هذا التبجيل من فراغ، ولكن لأن العديد من التيارات الأدبية والفنية تبنت هذا الطرح، ففي عام 1928 أصدر السورياليون بيانًا وردت فيه هذه الكلمات:

“نحن، السورياليين، نود أن نحتفل بخمسينية العصاب الهستيري، أكبر اكتشاف شعري في نهاية القرن التاسع عشر، وهذا في اللحظة نفسها التي يبدو فيها أن بتر مفهوم الهستيريا قد تحقق”.

وعلى غرار السوريالية، ظهرت في القرن العشرين العديد من التيارات الأدبية الفنية التي تمجد الهستيريا والعصاب، التي ترى أنها مفتاح الإبداع الأعظم، والبوابة الذهبية للعبور إلى عالم اللاوعي.

يُراوح غايار بين الأخذ بفائدة المرض النفسي أو عدمه من الناحية الإبداعية، ولا يعطي رأيًا حاسمًا.. يقول مثلًا:

“أحيانًا، يبدو هذا الألم منشطا للإنسان الذي يتنزل عليه، فهو يركز علاقته بالعالم إلى درجة جعله يتحرك. وهو يعطي بالمحصلة انطباعًا، للمفارقة، بأنه مثمر”ص54.

وفي موضع آخر يقول:

“تقضي ظلمات الاكتئاب على كل أمل. لا حياة مهنية، ولا حياة عاطفية، ولا حياة ممكنة: يكون الانتحار هو آخر هذا الطريق. يتعارض فناء جميع القوى الحيوية هذا مع أي فكرة إبداع. بكونه قوة تدمير حصرًا، يزيح الاكتئاب في أقصى حدته كل منظور، وأي عملية تحول. في أحسن الحالات، فإنه يجمد الحياة، في هيئة جامود (catatonie): يتجمد المريض ولا يعود قادرا حتى على الحركة”ص82-83.

إنما خبرته الطويلة في التطبيب النفسي هي التي جعلته يختم كتابه بترجيح أن لا خير يُرجى من المالنخوليا والاكتئاب والعصاب والهستيريا في خلق إنسان عبقري:

“يبدو أن الفنانين أنفسهم هم الذين يعلموننا ماهية الجنون. ليس لأنهم مصابون به، ولكن لأنهم شهود على ما يحمل بذرة الجنون والعمل الإبداعي معًا. إنه سر وضعنا البشري”ص237.

الكتاب جدير بالقراءة، ومهم لكل مهتم بالإبداع والفنون، إذ يلقي نظرة شاملة على مسار وتطور هذا النشاط الذي تميز به الإنسان عن سائر المخلوقات.

* روائي وكاتب يمني.

   
 
إعلان

تعليقات