Accessibility links

إعلان
إعلان

وجدي الأهدل**

استلم (لي كوان يو) السلطة في جزيرة سنغافورة عام 1959 وهي دويلة فقيرة، معظم سكانها يعيشون في الأكواخ، وتنتشر في شوارعها أكوام القمامة، فكيف تمكن هذا الرجل من انتشالها من دول العالم الثالث إلى العالم الأول خلال فترة حكمه التي امتدت لثلاثين عامًا؟

نجد الجواب في مذكراته المعنونة بـ”قصة سنغافورة”*، وهي مذكرات يفضل أن يقرأها بعناية أيّ شخص يزعم أن له صلة بالسياسة.

(لي كوان يو) هو أول رئيس وزراء لسنغافورة، شخصية اشتراكية، من مؤسسي حزب “العمل الشعبي” وأول أمين عام له، أصعب تحدٍّ واجهه في مشواره السياسي لم يكن تطوير سنغافورة، ولكن تحدي إبعاد شبح الحرب الطائفية التي كادت تنزلق إليها الجزيرة في الأعوام التي آذنت برحيل الاستعمار البريطاني ونيل الاستقلال.

سنغافورة هي كومة من المشاكل التي لا يصدقها العقل، وفي ستينيات القرن الماضي طُردت سنغافورة من الاتحاد الماليزي، فالقادة في كوالالمبور رأوا فيها مصدرًا للاضطرابات العرقية، والضرر الذي يأتي منها أكثر من نفعها، علمًا أن (لي كوان يو) ناضل بقوة لتبقى سنغافورة ضمن الاتحاد الماليزي، وعندما أُجبر على الانفصال، أعلن في 31 أغسطس 1963 استقلال سنغافورة في مؤتمر صحفي، فغلبته دموعه، وانتظر الصحفيون وكاميرات التلفزيون 20 دقيقة حتى استرد رباطة جأشه وتابع قراءة البيان الرسمي.

المعضلة التي واجهها (لي كوان يو) هي التعدد العرقي في سنغافورة، فالجزيرة فيها ثلاثة أعراق رئيسية، هي: الملايو وهم السكان الأصليون وعددهم 40%، والصينيون وهم مهاجرون جاءوا من البر الصيني ونسبتهم 40%، والبقية من جنسيات أخرى معظمهم من الهنود.

الكارثة أن لكل عرقية لغتها الخاصة، ونسبة بسيطة كانوا قد تعلموا الإنجليزية، وأصبحوا يتخاطبون بها.

الهنود يتكلمون لغة تاميل، والصينيون يتكلمون ثلاث لغات صينية، وهي لغات مختلفة وليست لهجات، وأصحاب الأرض لديهم لغتهم الخاصة بهم.

كانت المهمة الصعبة أمام أول رئيس وزراء لسنغافورة هي تحقيق الوحدة الوطنية بين الأعراق الثلاثة الرئيسية، وإخماد نيران الفتنة الطائفية، لكي يتفرغ بعد ذلك لتحقيق برنامجه الطموح في تطوير سنغافورة.

ساهم أندونيسي من أصل يمني في تأجيج الفتنة الطائفية بين الملاويين والصينيين، بل كان رأس الحربة في التحريض الطائفي، ونتيجة لخطبه النارية ومقالاته العنصرية وقعت أحداث عنف طائفية راح ضحيتها العشرات من القتلى، ومئات إن لم يكن آلاف الجرحى، وقد نشر (لي كوان يو) الاسم الكامل لهذا اليمني وصورة واضحة له، ولا شك أن مقالاته المنشورة في الصحف اليمينية المتطرفة ما تزال محفوظة في أرشيف دولتي ماليزيا وسنغافورة، وبحسب ما ورد في المذكرات، فإن (لي كوان يو) طلب من قيادة الاتحاد في كوالالمبور إيقاف هذا الشخص الذي كان يشغل منصبًا رفيعًا في حكومة الاتحاد، ليكف عن التحريض الطائفي ضد الصينيين كشرط للاندماج مع ماليزيا، ولكن رئيس وزراء ماليزيا حينذاك (عبدالرحمن التونكو) لم يستجب لمطالبه، ولم يسكت ذلك البوق الداعي للفتنة، ثم تصاعد العنف بصورة غير مسبوقة، وأصبح الوضع مواتيًا لطرد سنغافورة من الاتحاد.

هل كان رئيس وزراء سنغافورة متحاملًا على صاحبنا اليمني عندما حمَّله المسؤولية عن أبشع حوادث العنف الطائفية في تاريخ بلاده؟ لا نستطيع أن نعطي حكمًا جازمًا حتى نستمع لوجهة نظر الطرف الآخر، وإنْ كانت معرفتي بالشخصية اليمنية المُغرقة في التعصب ضد أتباع الأديان الأخرى تجعلني أُرجح أن ما ذكره صحيح مع الأسف.

لقد كان في جنوب شرق آسيا يمني واحد لديه فكر عرقي عفن، وتسبب في حوادث قتل وإحراق بيوت ونهب متاجر ورحيل العائلات من الأحياء المختلطة إلى أحياء مغلقة على عرقها، وهي مشكلة احتاجت سنغافورة إلى عشرات السنين لمحو آثارها وخلق مشاعر الأخوة بين كافة الأعراق.

وأما اليمن فأظن أن فيها آلافًا من عينة ذلك اليمني الذي مزق الأواصر الإنسانية بين الطوائف والأعراق في سنغافورة.. وهل وصلت اليمن إلى الحضيض الأسفل إلا بسبب المحرضين الطائفيين والمناطقيين؟؟

من جانب آخر نجد (لي كوان يو) يتحدث بإنصاف عن الرئيس المصري جمال عبدالناصر، ويذكره بالخير:

“وصلت مطار القاهرة في الصباح حيث كان في استقبالي نائب الرئيس، ثم نقلت إلى أحد قصور الملك السابق فاروق، والذي أصبح بمثابة بيت للضيافة. وفي تلك الليلة استقبلني الرئيس عبدالناصر في بيته المتواضع.. كان لقاءً جيدًا، والتفاهم كاملًا، فعندما وصلت كان في استقبالي عند الباب الأمامي وحولنا المصورون.. كان وديًّا للغاية وقد رحب بي أجمل ترحيب.. وطوال زيارتي التي دامت خمسة أيام كان المصريون يفرشون لي السجاد الأحمر. ودعيتُ إلى زيارة القاهرة ثانية كي ألقاه في أي وقت، وقال عبدالناصر إنها زيارة شخصية.. فقد أحببت الرجل وأحببت ابتسامته وأسلوب حياته البسيط، ورغبته الشديدة في تغيير كل ما هو سيئ وفاسد في أيام حكم فاروق” ص 424- 426.

إذن بعد أن أزاح (لي كوان يو) ذلك المحرض على الفتنة من أمام شعبه، تفرغ لخطة تطوير سنغافورة بالاعتماد على المبادئ التالية: الديمقراطية، العدالة، الاشتراكية، المساواة.

النقلة التي أحدثها هذا الرجل في سنغافورة تبدو ضربًا من الخيال، فهذه الدويلة الصغيرة التي تساوي مساحتها نصف مساحة البحرين، صارت الآن تقارع الدول العظمى، مع العلم أن مواردها الطبيعية شحيحة جدًّا، حتى إنها تستورد المياه من دول الجوار، ولضيق مساحتها اضطرت إلى ردم البحار المحيطة بها لتتوسع مساحة الأراضي، فهي أيضًا من أعلى دول العالم من حيث الكثافة السكانية.

نجد تشابهًا مثيرًا للانتباه بين شخصيتيّ (لي كوان يو) والرئيس جمال عبدالناصر، فكليهما من أنصار الاشتراكية (الاجتماعية)، وكانا معادين للشيوعيين، وهما زعيمان إصلاحيان ركزا على محاربة الفساد في مؤسسات الدولة، ولكن الخطأ الذي وقع فيه عبدالناصر هو أن (الديمقراطية) لم تكن ضمن برنامجه للإصلاح السياسي، لذلك بمجرد وفاته لم تكن هناك مؤسسات دستورية ذات تقاليد سياسية راسخة تحافظ على المكاسب التنموية التي تحققت في عهده، وتواصل برنامجه الطموح لتطوير مصر.

عندما تقاعد (لي كوان يو) وترك السلطة لم تنتكس سنغافورة، بل واصلت نموها التصاعدي، وحافظت على سياسة تطهير مؤسسات الدولة من الفاسدين وتعقبهم ومعاقبتهم بأشد العقوبات، وأما الأداء الاقتصادي فظل مزدهرًا كواحد من أفضل البيئات الاقتصادية الجاذبة للاستثمارات الأجنبية على مستوى العالم.

منذ عام 2018 يصنف الجواز السنغافوري كأقوى جواز سفر في العالم، وتتصدر سنغافورة الترتيب العالمي من حيث جودة التعليم، وتحتل سنغافورة المركز الثالث عالميًّا من حيث دخل الفرد من الناتج المحلي، بعد قطر ولوكسمبورغ، بمعدل يتجاوز 64 ألف دولار سنويًّا.

وفي جميع الإحصائيات المتعلقة بالاقتصاد والإدارة والصحة والمجتمع سنجد سنغافورة تحتل مراكز متقدمة على كثير من دول العالم، بما في ذلك دول أوروبا الغربية.

ماذا فعل (لي كوان يو) ليمحو الصورة السلبية عن سنغافورة كبلد قذر؟ لقد نزل إلى شوارع سنغافورة وهو يحمل مجرفة، وبدأ حملة في عام 1969 تحت شعار “حافظوا على نظافة سنغافورة”، واستمرت تلك الحملة دون توقف حتى عامنا هذا (2022) رغم أن من أطلقها قد مات وشبع موتًا، فهل نجحت الحملة؟ بحسب تقرير الـ”بي بي سي”، المنشور في 14 أبريل 2021، فإن سنغافورة بلد لا مثيل لها في النظافة، والشعب السنغافوري مولع بالنظافة: “اشتهرت سنغافورة على مستوى العالم بطرقها المرصوفة بإتقان، ومتنزهاتها العامة المشذبة بعناية، وشوارعها النظيفة الخالية من القمامة، ووصفتها جريدة نيويورك تايمز بأنها مكان “شديد النظافة إلى درجة أن العلكة فيه تعد من المواد الخاضعة للرقابة”.

ربط (لي كوان يو) بين تنظيف المدينة من القذارة وتنظيف المؤسسات الحكومية من الفساد، ربما يبدو هذا الربط غريبًا بعض الشيء، ولكن عندما نرى النتائج الباهرة التي تحققت، فحينئذ لا نملك سوى أن نصفق بإعجاب، ونثني على صحة هذا الربط.

رئيس الوزراء السنغافوري (لي كوان يو) هو نموذج للقائد الناجح الذي كنا نأمل أن يحكم في اليمن وفي دول عربية أخرى، فقصة نجاح سنغافورة وصعودها من الحضيض الأسفل إلى قمة شعوب العالم وأغناها ودون موارد تُذكر سوى الموارد البشرية، هي إنجاز بارز في تاريخ البشرية الحديث.

* قصة سنغافورة: لي كوان يو، مذكرات، ترجمة د. هشام الدجاني، العبيكان للنشر، الرياض، الطبعة الأولى، 2007.

**روائي وكاتب يمني

   
 
إعلان

تعليقات