Accessibility links

إعلان
إعلان

كوثر الشريفي
“أنت لا تفهم.. كيف يمكنك أن تفهم أساسًا ونحن نختلف بيولوجيًا؟! من الصعب جدًّا أن تكون امرأة في هذا العالم”.. قالت لي وهي تغالب دموعها المتكومة على مقلتيها.. تبدو شبه منهارة اليوم.. لن أقول على عكس العادة، فانهياراتها كثيرة ومتوقعة معظم الوقت، ولكنها مختلفة هذه المرة.. كانت عنيفة للغاية، وكنتُ أنا لأول مرة في تاريخ مهنتي، التي يحتقرها بنو قومي، غير قادر على التعاطف فيها مع هذه التجاعيد، أو هذه الخصلات الرمادية المبعثرة.. لم يكن سبب تحجّري هو رؤيتي للدموع أكثر من مرة يوميًّا على الأقل؛ فما زال هناك شعور ضئيل من الرطوبة داخلي حين أرى دموعًا معينة ومختلفة. تحجّري هذه المرة غريب عليّ، غريب عني دون سبب أستطيع التوصل إليه.

أجلس أمامها يابسًا كدُمية، هامدًا كقطعة قماش بالية.

– حاولتُ إنقاذها.. قلتُ لك إنني حاولتُ إنقاذها؟!

– نعم، قلتِ لي ذلك.

– إنها قطة حمقاء وغبية.. بل أنا الغبية! أنا.. أنا التي…

قاطعتُها بآلية ناسيًا أبجديات مهنتي:

– كم كان عمرها؟

نظرتْ إليّ متفاجئة، مستغربة من وجهي الخالي من التعبيرات. تجاهلتني قليلًا، وقامت بالتقاط منديل جديد من الطاولة أمامها.. مسحت دموعها المتبقية:

– لا أعلم.. كانت عندي لعام كامل منذ أن كانت هرة صغيرة.. أعتقد أن عمرها لا يتجاوز العام.

– أنا آسف حقًّا لفقدكِ وخسارتكِ.

ما إن انتهيتُ من قول هذا، حتى أجهشتْ بالبكاء من جديد.

– أنا آسف حقًّا.. أعلم أن الفقد صعب.

ردتْ عليّ بهيستيرية الفاقد الذي لا يرى سوى فقده في هذا العالم:

– لا أحد يعلم كم هو صعب، لا أحد. 

– لِمَ تظنين أن لا أحد يعلم؟

– لأن هذه الحقيقة!

– هل تذكرين اتفاقنا الأخير يا آنا؟

حدّقت فيّ للحظات ووجهها خاوٍ من التعابير، حتى جعلتني نظرتُها أشعر بأن ما قلتُه ربما لم يكن مناسبًا… لا أعرف حقًّا.. 10 أعوام من الخبرة في مجال مستهجن للكثيرين ولم تفهمه والدتي حتى الآن، وأرتكب خطأ متدربٍ بدأ يعمل في المجال منذ أسبوع فقط.. كنتُ مغيبًا تمامًا اليوم عن تفاصيل مهنتي، وجودي… عن كل التفاصيل التي تجعلني أنا.

– حتى أنتَ لا تفهم على ما يبدو! مثلهم أنت!

أجابت بصوت عالٍ ودموعها لا تتوقف.. كيف أسكتها وقد بقيت ربع ساعة فقط؟ من أصعب اللحظات التي تمر على الطبيب والمعالج النفسي هي هذه اللحظة.. أن يتبقى وقت قصير من وقت الجلسة، ومريضك في وضع يرثى له.. الأمر أشبه بجراح يبدأ بقطع جسد مريضه، ثم يتوقف تاركًا مفعول المخدر يتلاشى.

– أنا آسف مرة أخرى.. أخبريني، كيف يمكنني أن أساعدك؟

– لمَ أتيتُ إليك إن كنت أعرف كيف ستساعدني؟! أتيتُ إليك حتى تساعدني وكفى! 

أردفتْ بعدها بنبرة خافتة:

– أخبرتهم أنني بحاجة إلى امرأة تفهمني وأفهمها، لا رجل! كلكم الرجال لا تفهمون أبجديات التعامل مع المرأة.

نظرتُ نحوها بشرود.. كيف أهدئ من روع امرأة عجوز غير متصالحة مع فقدٍ كهذا، وقد أصبحتْ حياتي أنا عبارة عن مقبرة إلكترونية كبيرة؟ نتبادل العزاء على فضاء الإنترنت الرحب، ولم يسعنا مكان على هذه الكرة الأرضية.. نوزع الدموع خلف الشاشات دون أن يراها سوانا.

حدقتُ في قدميّ، لاحظتُ أنني قمتُ بلبس جرابيْن يختلفان عن بعضهما البعض في اللون.. كيف أكون معالجها النفسي وأنا أحاكمها الآن؟ نظرتُ إلى الساعة فوق رأسها دون أن تفطن للأمر، فتلك من أبجديات المهنة؛ ألّا يشعر مريضك بأنك تحصي الدقائق عليه.. بقيتْ 10 دقائق..

– لو كنتُ في الصالة، لكانت لا تزال تتنفس الآن.

– ولكنكِ لم تكوني في الصالة.

– نعم، كنتُ نائمة، ولكن هذا ليس سببًا كافيًا.

– لِمَ؟ يبدو كافيًا بالنسبة لي.

– لا يهمني إن كان كافيًا بالنسبة لك.

تابعتْ بعدها وهي تنظر إليّ بحدة:

– تركتُ باب الشرفة الزجاجي مواربًا.. لو لم أتركه مفتوحًا، لما حدث هذا.

– ولكن الجو كان حارًّا كما قلتِ لي.. أليس كذلك؟

– من تحدث عن الحرارة الآن؟!

– ألم تقولي بأنكِ تركتيه مفتوحًا حتى يصبح جو الصالة أفضل؟ الصيف حار هذا العام.

أجابتْني وكأنها لا تعبأ بتعليقي الأخير:

– أنا التي قتلتها… أنا.

ماذا أفعل الآن؟ الوقت ينفد، وعيناها محمرتان فوق العادة. أشفقت على وجهها الأبيض الذي أصبح قرمزيًّا مع نحيبها.. هل تبدو الحاجّة فاطمة هكذا اليوم؟ أسميها دائمًا “الحاجة فاطمة” بدلًا عن “يماه” أو “أمي”.. كان هذا يضايقها، ولكنها تواءمت مع الأمر بعد أن مرت عليها سنين عجاف.

لا أعتقد أنها تبدو هكذا اليوم، عدا أن الحاجة فاطمة شحيحة في البكاء وفي ردود الفعل، فبشرتها قمحية لا تصبح إلا أكثر سمرة مع الشمس ولا تتغير مع النحيب، كما أن الحاجة قد فقدتْ قدرتها على البكاء منذ أن توفيت جدتي التي كانت “سندها الوحيد” على ما يبدو.. فلا، لا أعتقد أنها تبدو كآنا اليوم.. أتذكر ما أسرّته لي في مرة: “أنا كنت أكثر بياضًا من أبيك، ولكن الشمس سودتني”.. لم أكن أدرك أهمية الأمر سابقًا، حتى قدمتُ إلى هذه الأرض التي يكثر فيها اللون الأبيض فأصبح بلا معنى.

أعادتني العجوز لواقعي الذي لا أفهمه مرة أخرى وصوتها يرتعش:

– هل تفهمني الآن؟ أنا التي قتلتُها.

– نعم، فهمت.

كيف كذبتُ بكل وقاحة وسرعة وقلت بأني أفهمها؟ ما الذي أفهمه أصلًا؟! أو ربما أنا أفهمها بالفعل بعد مكالمة هذا الصباح.. كان صوت الحاجة ملطخًا بالدموع على غير عادتها الجافة.. بدا الأمر سرياليًّا وهي تقول بلهجتها القروية البسيطة:

– مختار “سرح”  خلاص.

تحول صوتها إلى نحيب طويل لا يهدأ رغم محاولاتي لفهم ما يحدث.

سألتها وكأنني أتلقى الحدث عن شخص آخر، لا يربطني به شيء آخر:

– ماذا أخبركِ الطبيب؟ 

– أقلك: مختار سرح!

شعرتُ بأنني أحضر مسرحية ميلودرامية، أو أقرأ إحدى تلك الروايات المأساوية العبثية خلال سنوات حياتي الأولى هنا حتى لا أجن من شعوري القاتم بالوحدة.. حاولتُ أن أكرر نفس السؤال، فتلك عادتي مع كل المرضى الذين كان يأتي بهم والدي ليستشيروني في أشياء لا أعرفها حقًّا، حتى أضطر لاستشارة أصدقاء ينتمون لقبائل طبية مختلفة عني تمامًا.

أنا الذي قررت فجأة بعد سنين من الطب وإعيائه أن أسلك منحنى غير متوقع لأحد، خاصة والدي الذي رأى أني “صمتَ لتفطر على بصلة!” بعد سنوات علقم من الغربة، أصبحتُ “طبيب مجانين” برأيه. كدتُ أن أعيد السؤال على أمي، ولكنني وجدتني أكرر بآلية غير مصدقة:

– مختار أبي؟

علا نحيب أمي حتى انقطع الخط دون رجعة.. عاودتُ الاتصال، فلم يجبني أحد.. مختار “سرح” إذن.. لمَ لمْ تقل والدك وتنهي هذه الحيرة التي أشعر بها؟ وهل هناك مختار آخر أصلًا؟

أعادني صوت آنا إلى اللحظة الحاضرة وقد فقدت للحظات طويلة الإحساس بما حولي.

– ولكنني لم أقصد قتلها!

حدقت فيها للحظة.. كانت نوبات بكائها لا تزال تشتد ثم تخفت، كان عليّ أن أتفوه بأي شيء، ولكنني كنتُ فارغًا من التعبير؛ أشعر بأنني ألوك جرحًا نيئًا في مراحل تكوينه الأولى، ولكن يتحتم عليّ أن أخبرها أيّ شيء، أيّ شيء… 

– لمَ تظنين أنكِ قتلتِها؟

– ألم تكن تسمعني؟!

– بلى، ولكنني…

أجابتْ مقاطعة بحدة:

– لم تكن تسمعني جيدًا على ما يبدو! قلتُ لك أنني تركت باب الشرفة مواربًا لأن الهواء كان يبدو أقل رطوبة، فتسلسلت هي إلى هناك، و…

أعادتْ القصة كلها على أسماعي من جديد، ولم أقاطعها، شعرتُ بحاجتها للكلام، وحاجتي أنا للصمت… لم أسمعها حتى النهاية، للأسف.. شردتُ حتى أيقظتني في آخر قصتها:

– لكنني لم أقصد قتلها! كنتُ متعبة جدًا حتى أنني لم أقم بغسل الأطباق التي أكلتُ بها في البارحة.. هل قتلتُها؟

نظرتُ إليها، ثم إلى الساعة فوق رأسها.. لم يتبقَ سوى 3 دقائق أو أقل، وهي ما تزال بهذا الحال المزري.. حاولتُ تغيير سياق الكلام بسرعة:

– تذكرين اتفاقنا الأخير؟

– أي اتفاق؟

– أن تسجلي الأفكار التي تشعرين بأنها سلبية على ورقة، ثم…

قاطعتني بعصبية:

– لا أريد أن أسجل شيئًا.. أريد لهذا الشعور أن يذهب.. بلغتُ الـ 70 من عمري، أليس هذا كافيًا ليذهب بعد كل هذه السنوات؟

– ولكنه بدأ منذ فترة يا آنا، لا طيلة حياتك.

– وما الفائدة؟ ما الفرق؟ ألا تستحق عجوز مثلي أن تموت بسلام؟

تنهدتُ مستسلمًا.. يحق لكِ أن تموتي بسلام يا آنا، كما كان يحق لمختار أن “يسرح” بسلام.. كان في الستين، هل تعلمين هذا؟ لم يكن كبيرًا بالمقاييس البيضاء هنا.. هل قضى آخر أيامه على فراشه، أم أنه آثر أن يقضيها مع غنمه وبقرته التي يصر بأنها حلوب؟ لم تكن حلوبًا منذ البداية مع تقشف الحياة هناك، ولكنه آثر الاعتراف بذلك.

أرسل بالمصاريف لهم كل شهر، ولا يريد أن يترك القرية: “سأعيش وأموت فيها”.. ها قد تحققت أمنيته.. أنظر إلى آنا وأتفحص تجاعيدها جيدًا… كانت ملامحها تشي بجمال أخمده الوقت.

– أعلم أن وقت الجلسة قد انتهى.

نظرتُ إليها بارتباك متذكرًا ما أخبرني به أحد دكاترتي في الجامعة حين تأخرتُ في إحدى جلساتي كمتدرب: “عليك أن تساعد مرضاك كي يساعدوا أنفسهم”.. (المرضى)، (العملاء)… أسماء كثيرة تدل على نفس الأمر: أناس يأتون إليّ يتأملون أني أمتلك العصا السحرية التي تخلصهم من آلامهم كلها.

لم أجبها، فبدأتْ ترتب حاجياتها حاشرة إياها في شنطة جلدية سوداء. يبدو الجلد متقشرًا من مكاني.. أنا الذي لا ألاحظ كل التفاصيل دائمًا، رغم مهنتي التي تتطلب الكثير من التفاصيل.

سمعتُ صوت الجرس الذي ينذر بانتهاء الجلسة.. قمتُ لفتح الباب ممهدًا لخروج آنا.. لا أستطيع القيام بجلسات أخرى بعد هذه، فشعرتُ بالامتنان على أنها الجلسة الأخيرة في هذا اليوم.

لكنني ما إن نظرتُ في عينيها، حتى واجهتني رغبة مختلفة ومغايرة للعادة… تجاهلتُ صوت دكتوري في الجامعة: “عليك أن تحفظ بعضًا من الحدود لنفسك”، وجدتُني أقول بصوت خافت:

– يمكنكِ أن تبقي لنصف ساعة أخرى إن أردتِ يا آنا.

تجمدتْ خطواتها القادمة نحوي، وكأنها تتأكد من كلامي مرة أخرى. 

– ولكن ألم ينتهِ الوقت؟

– نعم، ولكن يمكنكِ البقاء هذه المرة.

بدتْ مترددة في قبول عرضي، وكأنني ربما سأمتهن كرامتها إن قبلتْ به بعد ذلك.. تابعتُ وقد لحظتُ ترددها وأنا أتوجه إلى الكرسي مرة أخرى:

– هيا تعالي يا آنا.

شعرتُ بالندم قليلًا حين راقبتُها تعود إلى كرسيها.. ما الذي كنتُ أفكر فيه حين قررت شيئًا فجائيًا كهذا؟ هل نصف ساعة تمحو صباحي بكافة تفاصيله؟ لكنني لا أريدها أن تذهب.. لا أستطيع مواجهة نفسي، ليس بعد.

– هل هناك شيء آخر تريدين قوله؟

– ما الذي جعلك تصبح معالجًا نفسيًّا؟ 

فاجأني سؤالها.. ما الذي جعلني أصبح طبيبًا ومعالجًا نفسيًّا؟ بالنسبة لمرضاك، فأنت إنسان مُجرّد من التجارب، أو أنهم يعرفون أنك غير مجرد من التجارب كلها، ولكنهم يظنون أنك قد وصلت للحظة التنوير التي من بعدها لا تبدو الحياة معقدة أبدًا، بل يظنون أنك مُجرّد من المشاعر الإنسانية، فيصبحون هم محور الكون وقتها، ولكن ألا يستحقون أن يكونوا محور الكون ولو للحظات؟

– لأني فشلتُ في الجراحة، فقررت القيام بشيء أقل صعوبة.

ابتسمتُ حين بدت المفاجأة على وجه آنا حتى ضحكتْ هي.

– حقًّا، لماذا؟

– لديكِ نصف ساعة أخرى وتختارين التحدث عني؟

– هل والداك هنا؟

– لا.

– أين؟

– في بلدي.

تنظر إليّ بعمق، وكأنه من الغريب أن يتعرف المرء على طبيبه عن كثب.

– ومنذ متى رأيتهما في آخر مرة؟

– لم أعد أذكر.. منذ سنوات طوال.

حاولتُ تغيير دفة الحديث، ولكن وكأن الأمر أعجبها، فسألتْ أكثر:

– ولمَ لم تزرهم كل هذه السنوات؟!

لو تعرفين أنني لا أعرف لِمَ لمْ أزرهم قبل هذه السنوات الأخيرة؟ كنت أقول في كل مرة أنني سأعود لأراهم حين يتوفر المال أثناء دراستي، ثم أصبح العذر حين يتوفر الوقت بعد أن بدأت العمل، والآن توفر الوقت والمال ولم يعد اللقاء ممكنًا الآن.. شعرتُ بالسخط وأنا أتذكر رفض أمي التام للقدوم إلى هنا مع أبي ودون أخوتي.. “أخواتي مسؤولية أزواجهن”، أفصحتُ بصريح العبارة.. كيف آتي بأخواتي الخمس إلى هنا؟ هل هذا يعقل؟!

– أنت تعال لرؤيتنا، لن أتزحزح من مكاني في هذا العمر لأذهب إلى بلاد لا أعرفها!

توفر كل شيء ولكن مختارًا أبى إلا أن “يسرح”. 

– هل آذيتك بسؤالي؟

حساسية آنا المفرطة أعادتني لتوي من جديد.

– لا أبدًا.. لم تكن هناك فرصة متاحة لزيارتهم آنذاك، للأسف.

– لمَ لا تزورهم الآن؟

ابتسمتُ لها بدفء وببعض من السخرية المريرة التي لا أظن أنها فهمتها.

– هذه الجلسة عنكِ يا آنا، لا عني.

– يحق لي أن أعرف عنك أكثر حتى أستطيع تقييم مدى قدرتك على علاجي.

– أنتِ تراوغين يا آنا.

أعجبتني مراوغتها.. أعجبني أن أصبح أنا مركز الكون للحظة… دائمًا ما كنتُ أنا الذي يتلقى ما يأتي من الآخرين، لا في عملي فقط، بل في كافة علاقاتي… في حياتي بأكملها. “أنت مستمع جيد” كانت الجملة التي يشهرها الجميع في وجهي، حتى اعتدتُ أن أنسى كيف أتحدث عني.. “ما الذي تشعره أنت؟” كان يسألني دكتوري الذي أذهب إليه في كل مرة للاستشارة في بداية مهنتي. أتجنب أي شيء يؤدي إلى هذا السؤال، فلم أعد أتقن التحدث عما أشعر به. أود للحظات أن أصبح مركز الكون.. ولو لدقائق فقط.. كل علاقاتي الفاشلة كان سببها أنني سمعتُ أكثر من اللازم.

– هيا، لمَ لا تذهب إليهم؟ أتخيل مدى فرحتي لو كان ابني يأتي ليزورني أكثر من مرة في العام مثلًا…

– ولكنه يتصل بكِ أكثر من العادة مؤخرًا، أليس كذلك؟

– لا تراوغ أنتَ الآن وأخبرني، لمَ لا تزورهم؟

لو تعلمين يا آنا أنني في بعض الأحيان أشعر بأنني – والكثيرون أمثالي – لا نملك ترف الاكتئاب.. ربما الأمر جيد، فهناك عالم لا يمل من الحركة، يبتلعنا على طريقه طيلة الوقت.. أو ربما نحن غير مكتئبين حقًّا، مجرد بشر جُردنا من الكثير من المشاعر حتى غدونا لا نعرف كيف نتصل بها مجددًا؟ كيف لا أعرف ما أبحث فيه منذ أعوام؟!

– توفي أبي هذا الصباح يا آنا.

حدجتني بنظرة غريبة غير مصدقة.. هل أنا غبي إلى هذه الدرجة؟ كيف أخبرها هذا؟!

– والدك توفي اليوم؟!

– فجرًا…

– وأتيت إلى هنا…

– الجلسة عنكِ، لا عني يا آنا.

لأول مرة أرى في وجهها تعبيرات مختلفة، كأنها وجه العملة الآخر من الحاجة فاطمة.. الوجه الذي يتيح لك أن ترى ما تريده هي فقط. قالت بصوت أقرب إلى الهمس:

– وكيف توفي؟

– لا أعلم.

كنتُ أعلم.. يسمونها الجلطة الدماغية هناك، وأسميها أنا “السكتة الدماغية”.. كان يمكنهم إنقاذه لو لم يتهاوَ ذلك المستوصف الوحيد في القرية بعد الاشتباكات الأخيرة.. أسكتتْ هذه الجلطة أحلام اليقظة التي كنتُ أخطط لها منذ أشهر.

– أنا آسفة جدًّا.

– لا بأس عليكِ.

– ألن تذهب إلى جنازته؟ 

– لا.

– لِمَ؟

ها قد عدنا إلى محاولة شرح وضع معقد شائك أتجنب شرحه لأحد. أتذكّر حين كان يسألني زملائي وأصدقائي كل إجازة عن سبب عدم سفري إلى بلادي.. كيف أشرح لهم أنني لا أستطيع السفر متى اشتهيت؟ كيف أشرح لهم أن الإجازة بأكملها قد تنتهي وأنا في الطريق إلى قريتي، أو أني قد أفقد إقامتي هنا إن غبتُ لوقت طويل؟ كيف أشرح لأناس يمنعهم المال في العادة من السفر في كل مرة، لا أكثر؟

– هل يمكنني ألّا أجيب عن هذا السؤال يا آنا؟ 

– بالطبع.

تداركتُ الأمر حين لحظتُ شعورها بالحزن من ردة فعلي:

– لا أقصد أن أجعلكِ تستائين، ولكن الأمر معقد قليلًا بالنسبة لي، وهذه الجلسة ليست عني يا عزيزتي.

– لمَ هو معقد؟ 

– لا أدري.. هو هكذا… معقد.

ازدرتُ ريقي، وتابعتُ محاولًا لملمة أشلائي، محاولًا تدارك أخطائي السابقة:

– أنا آسف حقًّا يا آنا، ولكنني هنا لمساعدتكِ أنتِ.. أشعر بألمك.

– منذ أن رحل فرانك وأنا لا أجيد أبجديات التحدث إلى أحد.

كانتْ تلك أول مرة تخبرني فيها عن فرانك.. زوجها.

– كنتُ مدللته، يقوم هو بكل شيء من أجلي، ولكنه كان يقوم بكل هذا بطريقة تعيقني عن أن أكون أنا.. هل تعرف كم هذا صعب؟

– قولي لي أكثر يا آنا.

– هل تعرف كم هو صعب أن أعترف بأنني أخاف حتى الخروج من المنزل بسببه؟ حتى إنني أخجل من نفسي حين أرى الأطفال يلعبون في الحديقة وحدهم من شرفتي.. أنا سجينة خوفي.

هل كان على مختار أن “يسرح” حتى تتكلمي أخيرًا يا آنا؟ كانت عيناها تكتمان ما تبقى من دموعها هذه المرة، وكأنها ملّت من ذرفها طيلة الجلسة.. غيرتْ دفة الحديث وهي تمسح عينيها بمنديل مهترئ بين كفيها:

– على أية حال، أنا آسفة حقًّا.. كان عليك أن تلغي جلستنا.

– لمَ يا آنا؟!

– كيف تسألني لمَ؟! والدك توفي!

سكتُّ للحظات، وزفرت الجملة بمرارة:

– وهل سيعيده هذا من الموت؟

رمقتني وكأنها غير مصدقة.

– أعتقد من الأفضل أن أذهب.

– لا يا آنا.. اسمعيني…

تنهدتُ بقوة أكبر.. كنتُ متماسكًا تمامًا، فبعثرتني آنا.. أو أنني مبعثر من بداية هذا اليوم الهلامي؟

– تذكري لحظاتكِ الجميلة مع قطتك.. لقد ذهبتْ، سواءً أكنتِ قد تركتِ باب الشرفة مفتوحًا أم لا، سواءً أكنتِ حبستها في المطبخ أم في غرفتك.. كُفّي عن لوم نفسكِ على كل شيء.. فرانك كذلك…

نظرتْ إليّ وقالت بهمس:

– ما أدراك؟

ما أدراني؟ مختار كان سيموت إذا تركتِ الشرفة مفتوحة أم لا.. مات لأن الوقت لإسعافه لم يكن ممكنًا في بلد انعدمتْ فيه كل الأساسيات. ولكن ربما كان ما تستطيعين تغييره هو قضاء وقت أطول معه… أو ربما الكف عن تأجيل حيوات تستقيم فيها ما نطلق عليه “الظروف”. ربما هذا الذي كان سينقذه من الموت قبل الموت؟ لا أعرف.. تخيلتُ نفسي أقول لها كل هذا، فوجدتني أصمت ثم أقول:

– لا أعرف حقيقة.. ولكن ما الفائدة في التفكير في “ماذا لو”؟ الأمر قد انقضى.

– هل يمكنني أن أحتويك بين ذراعي؟

صعقتْني المفاجأة.. لم يطلب مني عميل هذا الطلب من قبل.

– ولكن هذا ضد كل ما اتفقنا عليه منذ أول جلسة واللوائح…

قاطعتْني بصرامة:

– فلتذهب اللوائح إلى الجحيم، فقدتَ والدك اليوم!

نظرت نحوها وقد شعرت بدمع يوخز عينيّ الجافتين.. وجدتُني كشخص منوَّم مغناطيسيًّا يتجه نحو المرأة العجوز التي لا ترى فيّ سوى شاب أحمق ببشرة قمحية أتى من وراء البحار والصحاري ليستمع إليها وإلى غيرها.. اقتربتُ من جسدها الواهن وأغمضت عينيّ.. تراءى لي وجه الحاجة فاطمة وهي تعانقني بحنوّ لم أستشفه في أيّ من جلساتنا المطولة.. هل كانت الحاجة فاطمة ستوافق أن أعانقها هكذا؟ بجسدها السبعيني النحيل؟ برائحتها التي تشبه المشموم  والأرض التي تحرثُها؟ هل كانت ستأتي إلى طبيب ومعالج غريب عنها لتحكي قصتها أصلًا كآنا؟ 

ذبتُ في تفاصيل العناق، حتى تراءت لي بقرة مختار وأغنام أمي وهي تلاحقها من مكان إلى آخر… تنفستُ بعمق، فغمرتني رائحة هذا الجسد الذي بدأ يشبه المشموم قليلًا.

   
 
إعلان

تعليقات