Accessibility links

“فاكهة للغربان” رواية فاضحة للارتهان السياسي العربي


إعلان

الغربي عمران*

عتبات مهمة يجب المرور عليها بداية بعنوان الرواية “فاكهة للغربان”.. ويمكن اعتبار عنوان رواية الكاتب أحمد زين نص قائم بحد ذاته لما يثيره من تساؤلات، دافعاً بالمتلقي لاستدعاء ثقافته حول الغربان، وخاصة ما يتعلق بأسطورة هابيل وقابيل.. إذ أن قاتل أخيه عجز تفكيره عن إيجاد وسيلة للتخلص من جثة القتيل، إضافة إلى ما يعكس لونه وصوته على المعايشين له، وما يسكننا من تطيّر ورمزية لكل ما سبق ذكره.

طائر يُقاسم سكان عدن مدينتهم، ولكثافة وجوده كثيراً ما يُطرح بداية وفوده عديد روايات، منها أن الإنكليز من جلب هذه الكائنات للتخلص من تكاثر القوارض في المدينة إلى رواية أخرى تقول إن أول مَن جلبه هندي قادم من شبه القارة الهندية، إلى حكايات أخرى… ونسي الجميع أن هذا الكائن كبقية الطيور ينتقل من مناطق ووديان إلى أخرى ولا يحتاج إلا إذن من أحد أو الاستعانة بمن ينقله.

سكان عدن يتطيرون منه ككثير من مجتمعات الأرض؛ لأصواتها المزعجة، وكذلك لكثرة مخلفاتها، ولغاراتها على الثمار والمحاصيل ومعروضات بائعي الفاكهة والخضار على الأرصفة. كل ذلك وغيره جعل من عنوان الرواية نصاً رامزاً للكثير مع رمزية عدن بالفاكهة وعناصر الحزب الحاكم حينها بالغربان، “لا صوت يعلو فوق صوت الحزب” دلالة واضحة لما سلكه الرفاق من تسلط وبطش بمعارضيهم ليشمل رفاقهم ؛ لتنتهي المدينة إلى شبيهة ببقايا فاكهة نخرة، وقد سلبوها خلال سنوات قليلة رخاءها وتمدنها بتعميم الفقر وتكميم الأفواه واعتماد التصفيات متوجين ذلك بمجازر 1986م لتنتهي عدن من مدينة إنسانية إلى مدينة تتحكم فيها العصبية القبلية والجهوية، لتصبح، حينها، جزءاً من محيطها الريفي بما يحمله من توجهات قبلية.

العتبة الثانية: غلاف الرواية بلوحته المعبرة لغراب عملاق بعينه الحمراء وحول ساقيه يوجد غربان بأحجام صغيرة في أوضاع خانعة وذليلة ذي عين حمراء رُسم شكله العملاق بزوايا حادة ومنقار أقرب إلى حواف السكاكين.

 عتبة ثالثة: “إلى بشرى المقطري…العيد والذبيحة!”. إهداء لأديبة ومناضلة لها حضورها المتميز، ناشطة حقوقية بارزة تعرضت لمضايقات وملاحقات بسبب مواقفها المناهضة للظلم والتسلط السياسي والديني.

تأتي تلك العتبات كإشارات وامضة لما عالجه الكاتب في روايته الصادرة حديثاً عن منشورات المتوسط محورها سنوات تجربة الحزب الاشتراكي اليمني وأثر ذلك على مدينة عدن، التي كانت على مستوى جزيرة العرب تأتي الأولى في التمدن والحرية والنهوض الاقتصادي بقوانين وقيم تعايشت بموجبها ملل وأجناس مختلفة من قارات الأرض مثلها مثل الإسكندرية ومدن أتسمت بالإنسانية قبل الجلاء، مسلطاً الضوء على سنوات حوّلها الحزب لمدينة تجمّع لقبائل الطوق، وكأن رسالته ترييفها، فكل أجنحته المتصارعة ظلت تحشد القبائل تحت غطاء المشاركة في إداراتها، لتخبو قيم المدنية ويتعظم تنمر كوادر الحزب.

الكاتب جعل أصداء نعيق الغربان يتردد على مدى صفحات الرواية التي تجاوزت الـ 240 صفحة.. ذلك الرمز المجسّد لأبعاد كثيرة وفاكهتم عدن التي شوهوا كل جميل ليحيلوها إلى كائن كسيح ومعطوب.

 “لن تكون هذه النهاية.. القادم مأسوي بدرجة مريعة… لقد استبدلتم التاج البريطاني بالمطرقة والمتجل … من مستعمر جاء على رأس جيشه إلى آخر ذهبتم بأنفسكم إليه وسلمت البلاد والعباد له ” كلمات يرددها أحد شخصيات الرواية في أحد الحوارات.

الرواية هي حكاية “نورا” وعلاقتها بجياب. نورا ذات النشأة  الانكليزية.. وجذور رأس مالية تحمل قيم التحرر والفن، لكنها خنعت لجبروت وتسلط شكل باهت ومشوه لاشتراكية اقتاتت على أنقاض ما خلفه المتسعمر الإنكليزي.

نورا تملي ذكرياتها على صلاح مكلفاً من حبيبها جياب والمخفي قسرياً.. الذي ارتبطت بعلاقة غامضة معه، فلا تعرف هل تم تصفيته أم أنه لا يزال يرزح في أحد المعتقلات السرية كضحية من ضحايا الصراع بين أجنحة الحزب. “لم يعد له سوى بحثه عن رفيق لا يعرف على وجه اليقين.. إذا ما يزال يعيش أو أنه اغتيل.. أو أنه لم يكن له وجود أصلاً على هذه الدنيا”.

تتمنى على صلاح الذي يزورها بين يوم وآخر أن يدون ما تتفوه به… في الوقت الذي ترجوه البحث عن مصير رفيقه “جياب”.. بدوره يسأل ولا يجد أي خيط يدله على مصيره. “يا صلاح عندما كان رفاقك يحاربون الاستعمار كان لديهم مُثل نبيلة وقدام أعينهم مثال أعلى.. بعد الاستقلال ظنوا أن المُثُل لم تعد تلزمهم وأنهم أصبحوا المثال الأعلى “. كلمات نورا حين يعود إليها صلاح خالي الوفاض، وقد ارتسمت الحيرة في عينيه.

نورا المقعدة بعد أن كسروا ساقيها ترمز إلى عدن بماضيها وحاضرها الدموي ومستقبلها الغامض، وقد ارتبطت بماركسي “جياب” تصفه بصفة الحبيب العنيف والطموح. رغم أنه مَن سرح شقيقها من الجيش كونه خريج كلية إنكليزية، وهو من أمر بتأميم ممتلكات والدها عضو المجلس التشريعي تاجر المواشي الذي أنعمت عليه إليزابيث بوسام في الخمسينيات حين زيارتها لعدن نظير خدماته للتاج البريطاني …ما يحفز على التأمل إزاء تلك العلاقة بين نورا وجياب.

مجتمع الرواية مجموعة من الأصدقاء: صلاح، سناء،نضال،عباس ،بقطاش، نوال. ودوماً ما كانت لقاءاتهم في إحدى الأندية الليلية..  أو في فيلا عهِد الحزب بإدارتها لصلاح، وقد خصصت لاستضافة الوقود من خارج البلد “يسمر مع رفاقه في هذه الفيلا التي استولى عليها الثوار بعد الاستقلال.. مع غيرها من فلل وبنايات شيدها البريطانيون وملاك مصارف وشركات أجنبية في منطقة معاشيق وخور مكسر والمعلا”.  يتعرف المتلقي إلى مجتمع يتكون من: صلاح يمني ريفي ألتحق بالحزب، عباس عراقي هارب من بطش السلطة في بلده، نضال وسناء فدائيان فلسطينيان  ضمن معسكر في أطراف عدن، إلى جزائري، وروسية..  وخبير روسي والمانية.

نورا كانت الأبرز بين شخصيات الرواية فهي الساردة، وهي من جابت عواصم المنظومة الاشتراكية كنجمة رقص ضمن فرقة الفنون الوطنية.

الكاتب حشد كم من المعارف ذات الصلة بمحور الرواية، وفي أمكنة متعددة دارت  أحداث الرواية بداية بأحياء عدن: التواهي، معاشيق، فندق ،الروك هوتيل، شارع مدرم، جولد مور، ساحة العروض، شارع أروى، المعلا، خور مكسر. إلى عواصم ومدن عالمية مثل: وهران، موسكو، دمشق،ظفار،هافانا، بغداد، بيروت، الجزائر،  طشقنط، براغ، يونس اباد، كيرلا، كفل حارس. إلى شخصيات سياسية فاعلة في سبعينيات وثمانينات القرن الماضي مثل سالمين، فتاح، حبش، وديع حداد، كاسترو، بيرجنيف ،وانداربوف.

فضحت الرواية مجتمع عدن الاشتراكي حين قدّمته بقشور هشة وضجيج إعلامي مدوي بعد تحويل عدن لمدينة للشيوعيين العرب، وكذلك تستقبل وفود منظمات اشتراكية من كافة قارات العالم لينعم صلاح وأصدقاؤه ببقايا موائدهم “يحتسون ما يخلفه الوفد وراءه من أنوع جيدة من الخمور ويجربون تدخين بقايا السيجار مع سجائر إمبريالية أخرى: مارلبورو، كنت،روثمان. كل ذلك يتركه خلفهم الرفاق الأكثر كلفة كما تقول عنهم سناء. في الوقت الذي زاد من تنمر الحزب على كل من يخالفه في الداخل “يخوض نضالاً حازماً ضد كافة النظريات المعادية للاشتراكية العلمية وضد كل الانحرافات اليمينية واليسارية”.

تمر السنوات ليزداد بؤس المجتمع وفقره… بدوره صلاح الحزبي الريفي.. كان انفصام شخصيته ونفسيته يزداد، وهو يعيش الفقر والفاقة “لا صوت يعلو فوق صوت الحزب. سيتملكه زهو بل حدود، وهو يقرأ تلك العبارة على جدران العمائر. ثم ينكفئ بصره إلى داخل الحافلة التي تقله.. ليجد نفسه محشوراً بين ركاب …تتمايل أجسادهم بينما يفكرون في رطوبة لزجة… تخنق أنفاسهم… نساء ورجال وأطفال وجنود وضباط برتب عالية…”.  ليدرك بأن الحزب يسير في طريق نهايته، فكل يحشد رجال منطقته…والكل يستعد ليوم الحسم، وقد تشظى الحزب إلى أجنحة “وراح سالم متأثراً يتلو على صلاح عددا من الأسماء لأقاربه ورفاقه… إما ماتوا أو لا يعرف أحد على وجه اليقين مصيرهم… وقال :لا أحد يصدق أن ثوار الأمس تحولوا إلى مجرد قتلة لرفاقهم”.

دوماً يتردد صوت نورا الذي يُحدث في وجدانه هزة تلو أخرى وهي تسرد ذكرياتها عليه… يأتيها صوتها وهو في الشارع وفي العمل.. وأثناء تناوله الطعان “ولم يقدر صلاح أن يفهم لم خطرت له الآن.. بينما يراقب طبق الفاصوليا الناشفة على طاولات خشبية تعج بالذباب يجلس حولها عمال وضباط كبار وموفين مثله… يفكر الآن أن قطعة السمك تلك غاية أمانيه”. ليدرك بأن ضجيج الإعلام لا يمكن أن يخفي تلك الكوارث والفواجع، مدركا أن من يتلو عليه ذكرياته هي عدن في صورة نورا القعيدة.. المعتدى عليها بالعصي حتى حطموا ساقيها. “يرفع بصره إليها وينتبه إلى أنها فقدت نظارتها.. التجاعيد زادت أسفل عينيها بدت تنتمي إلى زمن قديم وبال.. وليس سواها.. رائحة العفونة”.

ينهي الكاتب روايته باشتباكات عام 1986 بعد أن أنقسم الحزب إلى طغمة وزمرة .. لتدور معارك اشتركت فيها الدروع ثم القطع البحيرة وينهيها الطيران. “إنما آلاف الرفاق ذهبوا قرابين لك يا يناير.. وافترست جثامينهم الكلاب والغربان التي اعتادت التغذية على الزواحف”.

تلك المجازر كانت فاصل بين عهد انتهى وعهد بدأ بعد أن دمروا عدن وعلى بقايا أمل سكنها “فيبدوا المنظر قدامه شاحباً.. كثيراً ما ينتابه يقين أن ينال الرفاق من بعضهم البعض بوحشية هو المبدأ الوحيد الذي لا يسعهم تغييره… تغذية ثأرت قبائل وضغائن مناطقية أكثر من أي اختلاف إيديولوجي…”. حين فرز الآلاف وأعدموا وطردت كثير من الأسر بموجب وثائق الهوية دون سبب إلا لأنهم من مناطق من هزموا في الأحداث. “ثم تناهى إلي صوت أحدهم، وهو يطلب بلهجة آمرة إخلاء البيت “مضيفا” أن كل سكان الحي غادروه سيراً على الأقدام…”.

في الأسطر الأخيرة يختم أحمد زين بظهور شبح أمل… كسراب واه.. وهو يحدثنا عما تتخيله به نورا بعد أن أمست بدون مأوى “عندها تخيلت قدميها تستيقظان من سباتها تنفضان عنها الرائحة اللزجة تتحرران من الأربطة المبقعة وتصورتهما تقومان أخيرا بحركة راقصة”.

 الرواية تستحق الفوز بأكثر من جائزة لموضوعها الذي يعبر عن مأساة إنسانية لا تخص عدن بل تشمل مجتمعات وعواصم عربية عدة تعاني من توحش الحزب الواحد وديكتاتورية العسكر وفسادهم. رواية نسجها كاتبها بأسلوب مشوق يرافق القارئ من سطرها الأول وحتى نهايتها.

*روائي يمني

   
 
إعلان

تعليقات