Accessibility links

سيكولوجية الشهرة.. صناعة المشاهير! ما الذي يجعل شخصًا ما مشهورا؟


إعلان

بلقيس محمد علوان*

هل يختلف مشاهير الأمس عن مشاهير اليوم؟

إلى سنوات مضت كانت قوائم المشاهير تتضمن أسماء العلماء والمخترعين والمكتشفين، والرؤساء والقادة، وأهم وأشهر الفنانين والشعراء، والمؤرخين والكتّاب والأدباء، والرياضيين، تلك الأسماء معروفة ومتداولة والبعض يحتفظ بقوائم مكتوبة لأسماء أعلام ومشاهير في كل المجالات، وقد كان النجاح والتأثير والإسهام في حياة البشرية معيارًا للشهرة والتأثير، لكن هذا المعيار لم يعد ذا قيمة.

شكل آخر من الشهرة ظهر حاليًّا ليس النجاح والإسهام في حياة البشرية من بين مقوماته، ليس ميدانه الطب أو التأريخ أو الأدب أو الفن أو الرياضة، بل وسائل التواصل الاجتماعي.

من الواضح أن مفهوم النجاح اختلف في عصرنا الحالي مع ظهور مواقع التواصل الاجتماعي وما رافقها من هوس الأرقام، وملاحقة التريند، فكثيرون اليوم لا يمانعون القيام بأي شيء أو قول أي شيء مقابل متابعين أكثر وتفاعل أكبر وكأن النجاح اختُزل في أن يصبح هذا أو ذاك مشهورًا، له ملايين المتابعين، ولو نظرنا من حولنا وقمنا بتصفح مواقع التواصل الاجتماعي سنجد هناك الكثير من الناجحين غير المعروفين أو معروفين على نطاق ضيق، رغم أن محتواهم هادف ومؤثر، وفي المقابل الكثير من مشاهير اليوم من يدّعون النجاح لا محتوى لديهم، ولا يوجد سبب حقيقي يبرر كونهم مشاهير سوى أن شريحة واسعة في المجتمعات باتت تفضل ما هو سطحي وسريع، وأصبح هناك ترسيخ لمبدأ الفقاعة في كل شيء، وأصبح كثير من المحتوى شكلاً بلا مضمون، وصوتًا عاليًا لمضمون فارغ يُنسى بسهولة، لا فائدة حقيقية منه، وسرعان ما يُنسى لتحل مكانه فقاعة أخرى.

تعتبر مواقع التواصل الاجتماعي أكثر المواقع الإلكترونية شعبية واستخدامًا في جميع أنحاء العالم، لِما لها من مميزات كثيرة، ومن أهمها بناء جسور التواصل مع الآخرين وتكوين متابعين وما يسمى برأس المال الاجتماعي، ويُقصد برأس المال الاجتماعي تكوين شبكة من العلاقات الاجتماعية مع أفراد المجتمع تتسم بمنظومة من القيم الإيجابية في مقدمتها الاحترام والتعاون والتضامن والثقة المتبادلة، ما يضع على عاتق أصحاب الحسابات الإلكترونية عمومًا والحسابات المشهورة خصوصًا مسؤولية أخلاقية تجاه متابعيهم.

غير أن كثيرًا من مشاهير السوشيال ميديا يلهثون وراء الشهرة والربح المادي فقط، بل ويحرصون على تسويق أنفسهم ودعوة مستخدمي الميديا إلى متابعتهم والمبالغة لإضحاك الآخرين، وخلق صور لأنفسهم غير واقعية وحياة مزيفة، كتقديم أنفسهم بصورة منمقة جميلة، ويبدو أن زخم بعض مشاهير التواصل الاجتماعي ذهب أبعد من ذلك، حيث أصبح بعضهم يستعطفون الناس لمتابعتهم لجلب المزيد من الإعلانات ، كما أن محاولة بعض مشاهير التواصل الاجتماعي تبنِّي قضايا مدّعي الحاجة، وربما التكسُّب من ورائهم سبب آخر لجماهيريتهم وشهرتهم مما يستدعي وضع ضوابط لإعلانات المشاهير، وتسولهم لكسب المزيد من المتابعين.

أكد عدد من المختصين أن بعض مشاهير السوشيال ميديا يمارسون التسول الإلكتروني، حيث يعرضون سلوكيات لا تصل إلى حد المهارة لتكون مصدرًا للعيش، ومرورًا باستغلال الأطفال وكبار السن وعرضهم بشكل غير لائق للتربح من ورائهم، وانتهاء بإشاعة العبارات المنافية والمواقف المبتذلة، ومع كل هذه السلبيات تظل الشهرة قاسمًا مشتركًا بين مشاهير السوشيال ميديا، وإذا كانت الشهرة تخص الشخص المشهور فما السر وراء متابعته رغم أن محتواه هزيل أو غير مفيد، بل ويستحق مسميات أكثر واقعية مثل التافه والسلبي والخادش للحياء والقيم كتوصيف للمحتوى المقدم؟، ولِمَ يلتف هؤلاء المتابعون حول هذا المشهور أو ذاك؟

في عام 1976 نشرت الجمعية الأميركية لعلم النفس “APA” دراسةً للسلوك الإنساني في ما يعرف “الفرح بالمجد المنعكس” أو Basking in reflected glory  أجراه عدة أطباء ومختصين على مستوى علم النفس، منهم د. روبيرت كيالديني، و د. ريتشارد بوردن، وطبقت هذه الدراسة على طلاب وطالبات من أكثر من 300 جامعة حول أميركا والعالم، والنتيجة كانت غريبة نوعًا ما، فالنتائج كانت تشير إلى ميل الطلاب للاحتفال بالأمجاد التي لم يشاركوا في صناعتها، هذا ليس عجيبًا، ولكن الأغرب كان استخدام الطلاب للضمير “نحن” في الحديث عن الانتصار الذي حققه فريق الجامعة لكرة القدم، يبدو الأمر سهلاً، لكن لو أمعنت النظر وتفكّرت قليلاً ستجد ميل هؤلاء الطلاب لتقمص دور اللاعب كاملاً، أي دور الفائز، بل دور الشخص الذي بذل جهدًا ليحقق هذا الانتصار، وإذا أردت الشهرة فاعمل بتوجيه آلان دونو” أستاذ الفلسفة الكندي في كتابه “نظام التفاهة”: قم بصدمة الجمهور بقول أو عمل أو تصرف لزيادة المشاهدات وصناعة متابعين من اللا شيء، وهذا الجمهور سيصنع لك المعجزات، فالوصفة السحرية أن تفعل أي شيء غريب، وفي النهاية سيجتمع حولك عدد لا بأس به من الجماهير، وهذه الزاوية هي التي تكشف لنا سر السباق المحموم الذي يتسارع فيه بعض المشاهير نحو التصرفات الغريبة وتعمد إثارة الجدل، فلم تعد للشهادات ولا للخبرات قيمة تذكر، فليس المهم قيمة ما تقدمه، بل كيف تبدو وتظهر، ولذا تجد أن المشاهير أصبحوا يفهمون في كل شيء تقريبًا، ولهم رأي في كل شاردة وواردة، وفي كل حدث قائم، رغم أن أكثرهم لا يملك الأهلّية للحديث عن أصغر المواضيع، ومن الشواهد على ذلك خروج البعض بوصفات علاج حاسمة ونهائية لأمراض لم يصل لعلاجها الأطباء وعلماء الأدوية في عقود من الزمن: وداعًا لمرض السكر.. وداعًا للعقم، حلول سياسية وتحليلات اقتصادية، وعناوين رنانة مثيرة، وأحيانًا كثيرة تصرفات وسلوكيات بقصد الوصول للشهرة والثراء السريع، وأقل ما يقال عنها أنها تافهة ومبتذلة، وقد أثر الابتذال المنتشر على وسائل التواصل على قناعات وثقافات الكثيرين، والغالبية صاروا يساهمون بشكل أو آخر في تعميق وتغلغل التافهين في حياتنا عبر مشاهدتهم ومتابعتهم، وأصبح أبناؤنا يتسابقون لمجاراة ما يتم عرضه عبر هذه الوسائل ومشاهيرها.

إنها شهرة من نوع آخر شهرة يصنعها المتابعون، من خلال المتابعة والاشتراك، بل والتبرع والدعم المالي أيضًا، وأقرب مثل على هذا الدعم السخي الذي يقدمه مشجعو متنافسي “بثوث التيك توك” التي يخوض المتنافسون فيها بدون أي موضوع، ويتنافسون فقط للحصول على الدعم، وغيرها أمثلة كثيرة على محتوى مفرغ من أي معنى أو قيمة، بل العكس قد يكون محتوًى سطحيًّا وسيئًا، لكنه يحصد الملايين من المشاهدات بدافع التشجيع أو الفضول أو التقليد، في مقابل محتويات مفيدة بذل فيها جهد كبير ولكنها لا تظهر ولا تحصل على متابعات فتختفي ويتوقف أصحابها عن الاستمرار وتظهر للسطح وتنتشر محتويات أخرى لا قيمة فيها ولا معنى.

إننا في أمسّ الحاجة إلى تبنّي وتشجيع ودعم المحتويات الهادفة والمساهمة في نشرها، لتزاحم هذا الزخم المتدني من المشاركات، إننا بحاجة إلى أن نتوقف عن دعم التافهين وجعلهم مشاهير عن طريق عدم تناقل مشاهدهم وعدم متابعتهم لتقليل هذا الزخم الطاغي من المحتويات الهابطة، ولإبعاد أصحابها عن المشهد الثقافي والاجتماعي، حتى لا نكون وسيلة لصنع مشاهير من ورق.

أكاديمية وكاتبة يمنية.

   
 
إعلان

تعليقات