Accessibility links

إعلان
إعلان

وجدي الأهدل **

ربّتني أمي تربية أخلاقية صارمة. وزرعتْ في داخلي منذ نعومة أظافري المبادئ والمُثل العليا، وآداب السلوك والمعاملة المستقيمة، فتشرَّبْتها ولم أحِدْ عنها يومًا. لقد رضعتُ منها الضمير الحيّ الذي أحمله معي الآن كألماسة ثمينة، تهبني القدرة على التمييز بين الحق والباطل. 

أبي رغم تعلّقي به ومحاولتي تقليده لم يترك أثرًا عميقًا في نفسي. أمي هي التي في مواقف محدَّدة علمتني ما هو الصواب وما الخطأ، ووهبتني ببساطة بكلام يسير أو بتصرّف حاسم المعاني النبيلة التي سوف تكتسب في المستقبل بدنًا خارجيًّا من حروف وكلمات، كالشرف والعدل والرحمة والاستقامة والصدق والأمانة والاعتزاز بالنفس.

ذهبتُ إلى المدرسة ووجدتُ تلك الكلمات منقوشة في الكتب، ولكنها فاقدة لمعناها، باهتة وتخلو من المصداقية. من احتكاكي بالبشر لقيتُ أنّ تلك المعاني مفقودة وغريبة عنهم، لأنهم يتحدثون عنها بحماس ويتشدقون بها في كلّ موضع وحين، ولكنهم مداهنون، يحملونها كزينة يتزينون بها، ويستخدمون الكلمات الرفيعة لأغراض وضيعة. إنهم مراؤون، والكلمات التي ينطقون بها ليل نهار في كلّ أيام حياتهم لا تتطابقُ مع أسلوب معيشتهم وطريقة تعاملهم مع الآخرين.

في حالات نادرة جدًّا قد يلتقي المرءُ بمعلِّم يمكنُ أنْ يؤثِّر تأثيرًا إيجابيًّا في سلوكه فيعدّله نحو الأفضل. وتبقى “الأم” هي المعلّم الأكثر مهابة، وهي التي تخلقُ الضمير في وجدان الإنسان وتنفخ فيه من روحها مرة واحدة وإلى الأبد، وبعد ذلك لا شيء يمكنُ أنْ يُضافَ سوى القشور والطلاء الخارجي المستعار من الأديان والنظريات الأخلاقية.

أبي كان من أنصار عزلي في البيت، ومنَع مؤثرات البيئة المحيطة من الوصول إليّ، ويُعلِّلُ ذلك بأنّ أولاد المدن فاسدين وسيمسخونني لا محالة. إلا أنّ أمي كانت تخالفه الرأي، فتدفع بي للّعب في الشارع للاختلاط بأترابي من أطفال الحارة بهدف اكتساب الخشونة والجرأة. وكان الوقت المعطى لي للعب في الخارج يمتد من العصر إلى المغرب. كنتُ إذا تعرضتُ لاعتداء من فتى أكبر مني وأتيت إليها شاكيًا باكيًا تتحول إلى لبؤة شرسة، تخرجُ للبحث عن غريمي وتؤنبه بكلمات قاسية ووعيد شديد كان يعطي مفعوله في ردع خصمي.

أنجبتْ أمي سبعة أبناء، وكان ترتيبي الثالث بين إخوتي. كانت إذا فرغتْ من أشغال تلاعبنا، فتغطي رأسها بقطعة قماش بيضاء، وتُمثّل دور الوحش وتلاحقنا، فنفرّ منها ونختبئ في زوايا بيتنا الواسع، وفي مرة من المرات أمسكتْ بي فبكيتُ من شدة الخوف، فإذا بها تطرحُ الغطاء بسرعة عن رأسها لأطمئن، واحتضنتني وهي تربت عليّ بكلمات رقيقة ووجهها المحبوب يفيض بالحنان والألفة.

وجبتي المفضلة في الطفولة هي الحجارة! كانت أمي تقطع الكبد قِطعًا كبيرة وتقليها في الزيت، ثم تضعها في صحن مرشوش بالملح، فآخذه منها متلهفًا وأقعد على عتبة باب بيتنا، أتفرج على السابلة وأنا أمضغ باستمتاع وبطء وكأنني أقوم بنزهة أو أشاهد فيلمًا في صالة السينما.

وجبتي الثانية التي أدمنتها في طفولتي هي البيض المقلي بزيت الزيتون والبصل والطماطم والصلصة، كانت أمي تطبخ هذا الطبق بمهارة خارقة فلا أملُّ من تناوله، وإلى اليوم ما زلت شغوفًا بهذا الطبق، ولكن مثل إتقان أمي لم أجد.

حاولتْ أمي تحفيظي سورة الفاتحة فلم أتمكن من حفظها. شقيقي (أنعم) الذي يصغرني بعام كان يسترق السمع فتمكن من تلاوتها وكأنه آلة تسجيل! غِرْتُ منه غيرة شديدة، وتسرَّبَ إليّ شعور بأنني مخلوق غبي. انتبهتْ أمي إلى ما أصابني من كرْب وغمّ، فأخذتني من يدي وخرجنا إلى السوق واشترت لي ساعة في مينائها صورة لشخصية (بوباي) الكرتونية وحزامها أحمر اللون. شعرتُ بالفخر والاعتزاز وأنا عائد إلى البيت وتلك الآلة تُقعقِعُ في معصمي، وراودني شعور بأنني غدوتُ رجلاً، وصرتُ كلما نظرت إليها أنفخُ صدري متبرّمًا مقلّدًا الكبار!

وقعتُ في الحب وذقتُ آهات عذابه وتباريح الهيام بالمحبوب وعمري يناهز الخمس سنوات! الأنثى التي أُغرِمتُ بها لم تكن في مثل سِنّي، كانت امرأة مطلّقة في الثلاثين من عمرها، اسمها (سلمى) سمراء مكتنزة، فوق شفتها العليا شامة الحسن، شعرها أسود متموج وطويل يصل إلى فخذها، تفيض رقة وأنوثة وحلاوة. لم أكن أشبع من التطلع إلى وجهها، وكانت أسعد أوقاتي حين تقبّلني وتجلسني في حجرها. كانت صديقة أمي المُقربة، وما كانتا تفترقان يومًا واحدًا. (سلمى) هي ابنة جارتنا العجوز سعيدة التي يقعُ بابها مقابلاً لباب بيتنا. آل (البطاش) عائلة عريقة ومن السكان الأصليين للمدينة. اشترى والدي البيت منهم بسعر زهيد، لِأنهم أُعجبوا بحسن أخلاقه، وهو أمر كان مهمًا في ذلك الزمن. وبعد أنْ رمَّم البيت جلَب أمي من الجبل.

سمعتُ أمي تحكي أنّ أبي تزوجها وهي في الثانية عشرة من عمرها – كجاري العادة في الجبل – ودخل بها حين بلغَتْ. وبعد إنجابها لأخي الأكبر (جمال الدين) استقرتْ في المدينة.

تعرفتْ على نساء عائلة آل البطاش وغدتْ (سلمى) التي كانت تماثلها في السِّن – خمسة عشر عامًا – توأم روحها. كانتا تلعبان بالدمى وتغنّيان وتسجّلان أغانيهما في مسجلة تملكها (سلمى) وتمثّلان مشاهد مقتبَسة من الأفلام الغرامية، وتخرجان معًا للتسوق وحضور المناسبات، تتقاسمان كلّ شيء بما في ذلك أدوات الزينة والحلي الذهبية والملابس والعطور.

لم يكن أبي يطيق صديقة أمي – رغم الاحترام الذي يكنّه لآل البطاش- وكانت سببًا للخلافات بينهما. كان أبي يكره أن يرى أمي تتبرج وتتعطر كبنات المدينة، وترتدي فساتين قصيرة تُجاري الموضة، وكان يهددها دومًا بأنه سيعيدها إلى الجبل.

تزوجتْ (سلمى) وانتقلتْ إلى حيٍّ بعيد، فارتاح منها والدي مؤقتًا، لكن زواجها لم يدُم، إذ طلّقها زوجها بسبب تحررها الزائد – بحسب معايير ذلك العصر – فعادتْ إلى بيت أهلها ومعها طفل منه.

دارتْ أقاويل أنه أنكر أُبُوّته للطفل، ورفضَ أنْ يدفع لها النفقة، ووصلتْ الأمور بينهما إلى المحاكم، ثم حُكِم عليه بدفع نفقة شهرية وحرمانه من حضانة ابنه. هكذا نشأ (فهيم) أعز صديق في طفولتي دون أب. نحن أيضًا كنا لا نفترقُ عن بعضنا، نلعب معًا من الصبح إلى المساء، ولا يفرقنا سوى أن يأوي كل واحد إلى مضجعه. كان يأكل معي في بيتنا، وآكل معه في بيته، يلعب بألعابي وألعب بألعابه، كنت أتفقُ معه أكثر من اتفاقي مع إخوتي، كان في مثل سِنّي، وكانت أمي ما تفتأ تطلب منا أن نقف كتفًا لكتف لترى مَن الأطول. ولدتُ قبله بأيام، وأرادتْ أمه أن يكون سميي، لكن والده أصرّ على تسميته باسم (فهيم).

إنّ هذا لمن عجائب الأقدار، أمي وأمه خليلتان ما كان لشيء أنْ يفرقهما عن بعضهما إلا الموت، وأنا و(فهيم) صديقان كأننا روح واحدة وانقسمتْ إلى نصفين.كنا حديث الحارة ومثار نميمتها ونحن لا نعلم. كنتُ مُغرمًا بأمه، فهل كان (فهيم) مثلي مُغرمًا بأمي؟ حينها لم أفكر في الأمر، لكنني الآن حين أسترجعُ الماضي أجد الدلائل تؤكد المشاعر العشقية السرية التي كان يحملها في قلبه لأمي. كان يطيل النظر إليها، وكان يطيعها أكثر مما أفعل أنا ابنها الذي خرج من بطنها، وكان يحرصُ كل الحرص على إرضائها. كثيرًا ما كانت أمي تحتاج غرضًا عاجلاً من البقالة، فأُماطلها في الذهاب، وخصوصًا في أوقات الظهيرة والشمس في عزّ جبروتها، فينبري (فهيم) لتلبية طلباتها، وينفذ ما تأمره به بإخلاص مثير للإعجاب.

يتعلم الإنسان الحبّ قبْل أنْ يتعلم الكلام. الحبّ هو الفكرة الأصلية التي نشأتْ منها النفس. وفي خريطة الحب الصحيحة حتى الحجَر يمكنُ أنْ يجدَ له مكانًا يتموضعُ فيه.

*فصل من رواية.
** كاتب يمني.

   
 
إعلان

تعليقات