Accessibility links

حوار مع الأستاذ المفسر محمد الطاهر بن عاشور


إعلان

وضاح عبد الباري طاهر*

لطالما كان صاحب الكشاف الإمام العلامة جار الله الزمخشري، وكتابه “الكشاف” الذي ينطبق عليه وصفه في أبيات له، وهو أنه كالشافي من أدواء الجهالة، وقد صدق فيه ظنه، وتحقق قوله لمن غاص في قعره، واستخرج درره، وقدح به ذهنه حين تنازله أسئلة الكتاب العزيز اللائحة كعرائس حسناوات بين دفتيه.

ولما كنت قد قرأت قديمًا في كتاب (معيد النعم ومبيد النقم) للقاضي عبد الوهاب السبكي، ص80-81، لم ينقضِ عجبي من قول السبكي في القدح في هذا الإمام وتفسيره حين قال: “اعلم أن الكشاف كتاب عظيم في بابه، ومصنفه إمام في فنه، إلا أنه رجل مبتدع متجاهر ببدعته، يضع من قدر النبوة كثيرًا، ويسيء أدبه على أهل السنة والجماعة، والواجب كشط ما في كتابه الكشاف من ذلك كله، ولقد كان الشيخ الإمام يقرِئه [يقصد والده]، فلما انتهى الكلام على قوله تعالى في سورة التكوير: (إنه لقول رسول كريم). الآية، أعرض عنه صفحًا، وكتب ورقة حسنة سماها “الانكفاف عن إقراء الكشاف”. 

يالَله ولِلِعلم! أهذه طريقة العلماء المتبحرين حين يواجهون ما لا يتفق مع آرائهم؟ ألم يكن من الواجب على الشيخ العلامة علي بن عبد الكافي السبكي أن يرد على الزمخشري، وأن يناقش حجته بحجة أقوى منها، وأدمغ لها، ويدفع البدعة التي يرى أنها بدعة بالسنة التي يذهب إليها عن طريق الأدلة والبراهين؟

يكثر الزمخشري ويحسن في تفسيره بذكر الأسئلة، ويحسن أيضًا الإجابة عنها، وقد حاول العلامة المفسر ابن عاشور – بحسب رأيي – أن يحذو حذوه، وينسج على منواله مختطًّا لنفسه طريقًا مستقلاً، فنراه يصيب حينًا، ويخطئ حينًا آخر، شأن البشر الذين يصيبون ويخطئون، والكمال عزيز، وهو لله وحده.

تفسير التحرير والتنوير تفسير عظيم، ومصنفه من العلم والتبحر بمكان، وإن مثلي أقل من أن ينبه عليه، ولولا تنبيه والدي، ولفت انتباهي له، وتعريفي بمكانة صاحبه العلمية، ومنزلته في علوم الشريعة والتفسير، لما كنت وقفت على ساحله، والتقطت من غرر فوائده. 

رجعت كعادتي للتحرير والتنوير؛ لأرى ما قاله ابن عاشور في تفسير قوله تعالى في شأن قصة الإفك: (إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم)؛ لأرى جوابه على السؤال الذي جال في خاطري، وهو قوله تعالى: (إذ تلقونه بألسنتكم). كيف يكون التلقي عن طريق اللسان؟! فلنصغِ الآن لابن عاشور في تفسيره لهذه الآية، ولنتابع بما وَجَّه به من آراء في تفسيرها، مع نقل الآية التي شرع في تفسيرها:

قال تعالى: (ولولا فضل الله عليكم ورحمته في الدنيا والآخرة لمسّكم فيما أفضتم فيه عذاب عظيم، إذ تلقونه بألسنتكم، وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم، وتحسبونه هينًا وهو عند الله عظيم). [النور:14- 15].

قال رحمه الله في (التحرير والتنوير): “(إذ)، ظرف متعلق بــ (أفضتم). والمقصود منه، ومن الجملة المضاف هو إليها استحضار صورة حديثهم في الإفك وتفظيعها.

وأصل (تلقونه) تتلقونه، بتاءين، حذفت إحداهما. وأصل التلقي أنه التكلف للقاء الغير، وتقدم في قوله تعالى: (فتلقّى آدم من ربه كلمات). [البقرة: 37]؛ أي علمها ولقنها، ثم يطلق التلقي على أخذ شيء باليد من يد الغير، كما قال الشماخ:

إذا ما راية رُفعت لمجد/ تلقاها عَرابة باليمينِ

وفي الحديث: “من تصدق بصدقة من كسب طيب، ولا يقبل الله إلا طيباً، تلقاها الرحمن بيمينه”. الحديث.

  1. “وذلك بتشبيه التهيُؤ لأخذ المُعطَى، بالتهيؤ للقاء الغير، وذلك هو إطلاقه في قوله: (إذ تلقونه بألسنتكم)”. “ففي قوله: (بألسنتكم)، تشبيه الخبر بشخص، وتشبيه الراوي للخبر بمن يتهيأ، ويستعد للقائه استعارة مكنية؛

أقول: ليس في هذه الآية إلا لفظ (تلقونه)، والتلقي شيء، والرواية للشيء المُتلقى شيء آخر، فقد يتلقى المرء خبرًا، فلا يشيعه ولا يرويه. وقد ألزم قوم من المؤمنين أنفسهم بقوله صلى الله عليه وسلم: كفى بالمرء إثمًا أن يحدث بكل ما سمع، فلم يجاوزوه. أما الرواية للحديث المتلقى، فيدل عليه قوله: (وتقولون بأفواهكم). 

لقد اشتملت الآية على جملتين: الأولى: (إذ تلقونه بألسنتكم)؛ أي تأخذونه عن بعضكم كما ذهب إليه الزمخشري وغيره من المفسرين واللغويين، كالجوهري في الصحاح، وابن منظور في لسان العرب، أما التفسير الحرفي للآية، فهو: تأخذونه بألسنة بعضكم، نزل ألسنة الغير المتفق معهم في الملة كحسان بن ثابت، ومسطح بن أثاثة، وحمنة بنت جحش، والبعض الآخر ممن ظاهره معهم، وباطنه على النفاق كعبد الله بن أبي – نزل ذلك منهم منزلة ألسنتهم، وهو تعبير شائع في القرآن، والآيات في ذلك كثيرة، كقوله تعالى: (ولا تلمزوا أنفسكم)، أي لا يلمز بعضكم بعضًا، وكقوله تعالى: (فسلموا على أنفسكم)، أي ليسلم بعضكم على بعض. ومنها أيضًا في نفس السورة: (لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرًا).

قال الزمخشري في الكشاف: “أي بالذين منهم من المؤمنين والمؤمنات”. 

ومنها: (ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقًا منكم من ديارهم)؛ أي يقتل بعضكم بعضًا، وقوله: (وإذ قال موسى لقومه يا قوم إنكم ظلمتم أنفسكم باتخاذكم العجل فتوبوا إلى بارئكم فاقتلوا أنفسكم)، أي ليقتل بعضكم بعضًا في أحد وجوه تفسير هذه الآية، والوجه الأول هو القتل بخعًا، أي قتل النفس، كما ذكره الزمخشري. وكقوله تعالى: (وعلمناه صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم)؛ أي “لتحرز وتقي بعضكم من بأس بعض”، كما في الكشاف أيضًا. 

وقال ابن عطية في تفسيره (المحرر الوجيز) على قوله تعالى: (ضرب لكم مثلاً من أنفسكم هل لكم مما ملكت أيمانكم من شركاء فيما رزقناكم فأنتم فيه سواء تخافونهم كخيفتكم أنفسكم).. قال رحمه الله: “ثم بين تعالى أمر الأصنام، وفساد معتقد من يشركها بالله بضربه هذا المثل، ومعناه أنكم أيها الناس إذا كان لكم عبيد تملكونهم، فإنكم لا تشركونهم في أموالكم ومهمّ أموركم، ولا في شيء على جهة استواء المنزلة، وليس من شأنكم أن تخافوهم في أن يرثوا أموالكم أو يقاسموكم إياها في حياتكم كما يفعل بعضكم ببعض”.

وقال الزمخشري في الكشاف: “ومعناه: هل ترضون لأنفسكم – وعبيدكم أمثالكم بشر كبشر وعبيد كعبيد – أن يشارككم بعضهم (فِي مَا رزقناكم) من الأموال وغيرها ما تكونون أنتم وهم فيه على السواء، من غير تفضلة بين حر وعبد: تهابون أن تستبدوا بتصرف دونهم، وأن تفتاتوا بتدبير عليهم كما يهاب بعضكم بعضًا من الأحرار”.

ويترجح لي أيضًا في قوله تعالى: (والله جعل لكم من أنفسكم أزواجًا)، أي من بعضكم. قال القرطبي في بيان الوجه الثاني في تفسير هذه الآية:” وقيل: المعنى جعل لكم من أنفسكم، أي من جنسكم ونوعكم وعلى خلقتكم، كما قال: (لقد جاءكم رسول من أنفسكم)؛ أي من الآدميين”. وكذلك فسره البغوي كوجه آخر كالقرطبي. فإن كان الخطاب للذكور فالمقصود بالأزواج الإناث، وإن كان للجميع ذكورًا وإناثًا فللذكر الأنثى وللأنثى الذكر. والله أعلم.  

فتكون الباء في قوله: (تلقونه بألسنتكم) إما الدالة على الآلة، أي تتلقونه بواسطة ألسنة بعضكم، كما تقول كتب بالقلم أي بواسطة القلم، أو بواسطة ألسنتكم أنتم، وذلك عن طريق السؤال عن خبر الإفك، وهو ما ذهب إليه الإمام البيضاوي – رحمه الله – في تفسيره (أنوار التنزيل وأسرار التأويل)، حيث قال: “(تلقونه بألسنتكم)، يأخذه بعضكم من بعض بالسؤال عنه”.

أو بمعنى (عن) أي تأخذونه عن بعضكم، تقول تلقيت هذا الخبر عن فلان، أو بمعنى من الابتدائية أي تتلقونه من بعضكم.

ثم قال ابن عاشور:

  1. “فجعلت الألسن آلة للتلقي على طريقة تخييلية، بتشبيه الألسن في رواية الخبر بالأيدي في تناول الشيء”. 

أقول: لا مناسبة في تشبيه اللسان الراوي للخبر والمفشي له، باليد الذي تتناول الشيء وتمسكه، لو تأملنا أبسط تأمل.

ثم قال:

  1. “وإنما جعلت الألسن آلة للتلقي مع أن تلقي الأخبار بالأسماع؛ لأنه لما كان هذا التلقي غايته التحدث بالخبر، جعلت الألسن مكان الأسماع مجازًا بعلاقة الأيلولة.

أقول: لا يستقيم بحال أن يكون اللسان آلة للتلقي، وإنما هو آلة للكلام، ونقل الأخبار والمعارف والمعلومات. ثم إن جاز لنا جعل الألسن مكان الأسماع بهذه المناسبة، أعني الأيلولة، فهل يجوز لنا أن نجعل الأسماع مكان الألسنة، فنقول على سبيل الافتراض: قلتُهُ بأذني، عن طريق عكس التشبيه، باعتبار أن السمع هو المرحلة الأولية والأساسية للحديث؟! فكما يجوز لنا في التشبيه أن نقول: زيد كالأسد، يجوز لنا أن نعكس التشبيه فنقول الأسد كزيد على طريق المبالغة في التشبيه بالشجاعة. إن المناسبة في التشبيه بين شيئين ضرورية، كما أن عليها الاضطراد والتلازم فكما يُشَّبه زيد في كرمه بالبحر، يشبه البحر في كرمه بزيد أيضًا على سبيل المبالغة في التشبيه، وليس كذلك الأمر في حال السمع والنطق، إذ إن لكل منهما وظيفة مختلفة يقوم بها. وفيما ذهب إليه الأستاذ ابن عاشور خلط بين الوظائف، فالأسماع وظيفتها أن تعي المسموع وتفهمه، لا أن تنشره؛ إذ النشر من وظيفة الألسن نفسها. أما إذا كان المآل في الخبر هو التحدث به، فقد أغنى عنه قوله: (وتقولون بأفواهكم).

ومع ذلك، فهنا تلوح مقاربتان، الأولى: إما أن يكون معنى (تلقونه بألسنتكم) كناية عن تقبلهم واستطابتهم لحديث الإفك، وتفكههم به واسترواحهم بالحديث عنه في مجالسهم، كما يستطيب الإنسان طعم المأكول الشهي، ويتلذذ به.

الثانية: هل هذا التعبير القرآني من نوع تبادل الحواس، أو الحس المتزامن synaesthesia، وهو تعبير يتم فيه وصف المدرك الحسي الخاص بحاسة معية، بلغة حاسة أخرى، مثل إدراك الصوت بكونه مخمليًا، أو دافئًا، أو ثقيلاً، أو حلوًا، وكأن يوصف دوي النفير بأنه قرمزي. 

ظهر هذا المصطلح عام 1891 في قاموس القرن، ولكن يبدو أن أول من استعمله في المعنى المشار إليه هنا هو جول ميه في رسالة عن السمع الملون. ويرجع الفضل في انتشار تداوله إلى قصيدتين، وهما “المطابقات” لبودلير، و”الحروف الصائتة” لأرثور رامبو، وإلى رواية ويسمانس “عكس الاتجاه”. ومع ذلك، فقد سبق استعماله بكثرة في الشعر الرومانسي في كل من ألمانيا وإنجلترا، كما أنه تردد أيضًا في أقدم النصوص الأدبية الغربية مثل “الإلياذة” الذي يصف صوت الطرواديين المسنين بأنه مثل صوت زيز الحصاد (حشرات الغيط) الشبيه بالسوس، ثم البيت 222 من النشيد الثالث من الإلياذة الذي يذكر أن كلمات أوديسوس تنزل على سامعيه وكأنها تساقط الثلوج في الشتاء، وفي البيت 187 من النشيد الثاني عشر من الأوديسة يوصف صوت عرائس البحر بأنه صوت من عسل. والحس المتزامن استخدم في أغراض كثيرة، لكن يبدو أن المحاولات التي بذلت من أجل إثبات أنه في حد ذاته علامة على مرض أو انحلال أو تدهور، إنما نبعت في غالبيتها إما من تحيز لحكم حدي مسبق، أو عن جهل؛ لأن الحس المتزامن كثيرًا ما يتردد في لغة التخاطب، وفي الأدب عند الشعوب المتحضرة، ومن الواضح أن له دوره كتعبير مجازي عالمي عن الحواس. (الأستاذ الفريد انجستروم، ترجمة السيدة سهير عبد اللطيف).

وشبيه هذا في البيان العربي بعض حالات التشبيه والاستعارة، فقولنا في العربية: طعام أو ماء زاعق، أي فاسد لكثرة الملح في حال الطعام، أو مر غليظ لا يستطاع شربه في حالة الماء. شبه فيه الطعام أو الماء بكائن يصيح، وهو ما يسمى في البيان الاستعارة بالكناية، وهي التي حذف منها المشبه به، ورمز إليه بشيء من لوازمه، فالمشبه به المحذوف الكائن الذي يصيح، ولوازم المشبه به المذكورة في المثال لفظ زاعق، غير أن الفرق بين المشبه والمشبه به في حالة الاستعارة المشابهة، أما في الحس المتزامن، فالعلاقة وحدة الأثر النفسي، ألا ترى أن كلا من الطعام الفاسد أو الماء المر الغليظ والصوت المفزع تعافه النفس، ويبعث فيها الضيق والألم، وفي الوقت نفسه ليس هناك شبه بين الطعام الفاسد أو الماء المر الغليظ، وبين الزعق، أي الصياح أو الصياح المفزع.

أقول: وتقول العرب: بأرض فلان شجر قد صاح، أي طال. لما تبين الشجر للناظر بطوله ودل على نفسه، جعله كأنه صائح، لأن الصائح يدل على نفسه بصوته. ويقولون: ضحكت الأرض، إذا أنبتت؛ لأنها تبدى عن حسن النبات، وتنفتق عن الزهر كما يفتر الضاحك عن الثغر.

وقد يكون منه أيضًا قوله تعالى: (فأذاقها الله لباس الجوع)، وقوله: (تلقونه بألسنتكم)، ومما قد يستدل عليه أيضًا ما ذكره بعض المفسرين، ومنهم: الطبرسي، والمارودي، والسمرقندي.

 قال العلامة الطبرسي 3/ 391 في قوله تعالى: (سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين): (قيل معنى “سماعون”، أي قائلون للكذب)، وقال العلامة الماوردي: والثاني: أن معنى قوله: (سماعون للكذب)؛ أي قائلون للكذب عليك”. وفي بحر العلوم، للسمرقندي: “قوله تعالى: (ومن الذين هادوا سماعون للكذب)، يعني: قوالون للكذب”. فأنت ترى أن السماع ناب عن القول.

فائدة ونقاش: ذكر العلامة المفسر الطباطبائي في تفسيره الميزان، أن جملة (تقولون بأفواهكم) مفسرة للأولى، حيث قال في تفسيره: قوله تعالى: (إذ تلقونه بألسنتكم وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم)، إلخ، الظرف متعلق بقوله: “أفضتم”، وتلقي الإنسان القول أخذه القول الذي ألقاه إليه غيره، وتقييد التلقي بالألسنة للدلالة على أنه كان مجرد انتقال القول من لسان إلى لسان من غير تثبت وتدبر فيه، وعلى هذا فقوله: “وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم” من قبيل عطف التفسير، وتقييده أيضًا بقوله: “بأفواهكم” للإشارة إلى أن القول لم يكن عن تثبت وتبين قلبي، ولم يكن له موطن إلا الأفواه لا يتعداها”.

أقول: قول الطباطبائي: “وتقييد التلقي بالألسنة للدلالة على أنه كان مجرد انتقال من لسان إلى لسان. فيه دلالة إلى ما يذهب إليه الباحث أن التلقي من لسان إلى لسان، وهكذا حتى يتم تداوله ودورانه على كثير من الناس من رواة ونقلة الخبر الذين لم يتثبتوا، ولم يتحققوا بطلان ما دار على ألسنتهم من حديث الإفك. وهو كلام في غاية الدقة. وأذكر بالمناسبة هنا مؤلفًا للإمام المحدث ابن الديبع الشيباني: “تمييز الطيب من الخبيث مما يدور على ألسنة الناس من الحديث”. فهذه الأحاديث التي جمعها ابن الديبع تدور كثيرًا على ألسنة الناس، وقد يكون بعضها ضعيفًا أو موضوعًا، أو غير ذلك من الدرجات التي يحكم بها على الحديث. وهكذا كان حديث الإفك تلقي من لسان الأول للثاني، ثم يأخذه ويتلقاه التالي عمن سبقه، فيدور من لسان إلى آخر، وهلم جرًّا حتى يتم شيوعه وانتشاره.

ثم لا داعي في رأي الباحث للذهاب بأن الجملة الثانية مفسرة لمعنى الأولى بحسب ما يرى الباحث، فالجملة الأولى فيها مجاز حذف أي تتلقونه بألسنة بعضكم، والجملة الثانية مؤسسة لمعنى جديد، وهو التحدث بحديث الإفك بحسب ما يراه الباحث. وفي الجملتين: الأولى والثانية من مراعاة أواخر الكلم من الجمال ما لا يخفى، فهناك التلقي في الجانب الأول: (تلقونه بألسنتكم)، والإرسال في الجانب الآخر: (وتقولون بأفواهكم)، وهو ما لا يتأتى لو قال تَلقَّونه بألسنة بعضكم، وتقولون بأفواهكم. 

وهنا نكتة لماذا كانت لفظة (بألسنتكم)، تتناول جميع أهل الملة، ومن يزعم الانتماء إليها كالمنافقين، بمعنى بألسنة بعضكم، أما الأفواه، فلا تختص إلا بأصحابها.

والجواب هو أنه يجوز في العربية أن تقول لسان فلان لساني، أي لغته لغتي، ومنه قول عمر بن أبي العلاء: “ما لسان حمير وأقاصي اليمن بلساننا”، أما الأفواه فلا تكون إلا لأصحابها، أي كل شخص منكم قاله بفمه، إذ لا يقال: فم فلان فمي.  

هنا نكون انتهينا من مناقشة كلام العلامة ابن عاشور، ولنأتِ على ذكر بعض المفسرين واللغويين الذين فسروا هذه الآية.

 

أولاً: كتب التفسير

فمنهم الزمخشري، قال رحمه الله: “(تَلَقَّوْنَهُ)، يأخذه بعضكم من بعض. يقال: تلقى القول وتلقنه وتلقفه، ومنه قوله تعالى: (فَتَلَقَّى ءادَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ). [البقرة:37]، وقرئ على الأصل: “تتلقونه” وإذ تلقونه، بإدغام الذال في التاء. و”تلقونه”، من لقيه بمعنى لقفه، و”تلقونه”، من إلقائه بعضهم على بعض. و”تلقونه”، و”تأْلِقُونه”، من الولق والألق: وهو الكذب، و”تلقونه” محكية عن عائشة رضي الله عنها، وعن سفيان: سمعت أمي تقرأ: إذ تثقفونه، وكان أبوها يقرأ بحرف عبد الله بن مسعود رضي الله عنه. فإن قلت: ما معنى قوله: (بأفواهكم)، والقول لا يكون إلاّ بالفم؟ قلت: معناه أن الشيء المعلوم يكون علمه في القلب، فيترجم عنه اللسان. وهذا الإفك ليس إلاّ قولاً يجري على ألسنتكم، ويدور في أفواهكم من غير ترجمة عن علم به في القلب، كقوله تعالى: (يَقُولُونَ بأفواههم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ). [آل عمران: 167]”.

 وابن جزي الكلبي في تفسيره (التسهيل)؛ إذ قال: ومعنى (تلقونه): “يأخذه بعضكم من بعض”.

وفي تفسير اللباب لابن عادل: “معناه يَتَلَقَّاهُ بعضكُمْ من بعضٍ”.

وفي تفسير النسفي: “يأخذه بعضكم من بعض”.

وقال البيضاوي: (تلقونه بألسنتكم)، يأخذه بعضكم من بعض بالسؤال عنه. يقال: تلقى القول كتلقفه وتلقنه، قُرئ “تتلقونه” على الأصل “تلقونه”، من لقيه إذا لقفه، وتلقونه بكسر حرف المضارعة و”تلقونه” من إلقائه بعضهم على بعض. (كذا! ولعل الصواب بكسر اللام الواقعة بعد حرف المضارعة، من الولق، بمعنى تكذبون فيه، فوصل الفعل بالضمير).

وقال ابن أبي السعود: (إذ تلقونه)، بحذف إحدى التاءينِ ظرف للمس، أي لمسكم ذلك العذاب العظيم وقتَ تلقّيكم إيَّاه من المخترعينَ (بألسنتكم). والتلقّي، والتلقف، والتلقن معانٍ متقاربة، خلا أن في الأولِ معنى الاستقبالِ، وفي الثاني معنى الخَطف والأخذ بسرعة، وفي الثَّالثِ معنى الحِذْقِ والمهارةِ. وقُرئ تتلقونه على الأصل، وتلقونه من لقيَه، وتلقونَه بكسرِ حرفِ المُضارعةِ (كذا! وردت أيضا ولعل أبي السعود أخذها عن البيضاوي، وقد سبق التصحيح، فينظر في محله)، وتُلقونه من إلقاء بعضهم على بعض”.

تفسير حقي: “(بألسنتكم) يأخذه بعضكم من بعض، وذلك أن الرجل منهم يلقى الرجل فيقول له ما وراءك؟! فيحدثه بحديث الإفك؛ حتى شاع وانتشر، فلم يبقَ بيت ولا دار إلا طار فيه”.

وفي فتح القدير للشوكاني:قال الزجاج: معناه يلقيه بعضكم إلى بعض”.

وقال سيد قطب: (تلقونه بألسنتكم): لسان يتلقى عن لسان، بلا تدبر ولا تروٍّ، ولا فحص ولا إمعان نظر، حتى لكأن القول لا يمر على الآذان، ولا تتملاه الرؤوس، ولا تتدبره القلوب! (وتقولون بأفواهكم ما ليس لكم به علم)، بأفواهكم، لا بوعيكم، ولا بعقلكم ولا بقلبكم، إنما هي كلمات تقذف بها الأفواه، قبل أن تستقر في المدارك، وقبل أن تتلقاها العقول”.

تفسير الأعقم: “(إذ تلقونه): يأخذه بعضكم من بعض”.

تفسير أطفيش: “(تلْقونه): تتلقونه يأخذه بعضكم عن بعض بالسؤال”.

أما عز الدين بن عبد السلام فقد نحا منحى آخر فقال: “(تَلَقَّوْنَهُ)، بالقبول من غير إنكار، أو تتحدثُون به وتُلْقونه حتى ينتشر”.

ثانيًا: كتب اللغة

الصحاح للجوهري: “أي يأخذُه بعضٌ عن بعض”. 

لسان العرب لابن منظور: “وقوله تعالى: (إذ تَلَقَّوْنَه بأَلسنتكم): أَي يأْخذ بعض عن بعض، وأَما قوله تعالى (فَتَلقَّى آدمُ من ربّه كلِماتٍ)، فمعناه أَنه أَخذها عنه”. 

هذا ما سنح به الخاطر في محاورة الأستاذ العلامة الكبير محمد الطاهر بن عاشور حول تفسير هذه الآية.

* كاتب يمني.

   
 
إعلان

تعليقات