Accessibility links

إعلان

وجدي الأهدل*
“التأثير الشبحي عن بعد” هو مصطلح ساخر ابتكره العالم ألبرت آينشتاين لوصف ظاهرة فيزيائية غامضة بدت له وقتها غير ممكنة علميًّا، لكن المفاجأة أن هذه الظاهرة تحديدًا هي التي ستفتح للبشرية بوابات عالم مجهول تمامًا خلال الثلاثمائة سنة القادمة.

فما هو التأثير الشبحي عن بعد؟ هو التشابك الكمي، ومعناه ارتباطُ جسيمين فيما بينهما بقوةٍ حتى لو كانا منفصلين بملايين السنيين الضوئية، وبتغيُّر مُستحث يحدث في أحدهما، ويؤثر على الآخر.

لقد رفض آينشتاين هذا التأثير؛ لأن نتائجه ربما تقوض كل شيء بالمعنى الحرفي للكلمة.. وهذا كان يناقض هدف حياته المتمثل بالبحث عن نظرية فيزيائية تفسر كل شيء.

حسنًا إذا أخذنا الفرضية الشهيرة لآينشتاين المعروفة بصندوقين مغلقين في أحدهما كرة والآخر فارغ، وأنه لا يمكن أن نعرف أين توجد الكرة إلا إذا فتحنا أحدهما، وتخيلنا أن لدينا صندوقين مغلقين، في أحدهما كرة والآخر فارغ، ثم أرسلناهما في الفضاء، فاتجه الصندوق (أ) إلى مجرة التبانة، وتمكن سكان الأرض من الوصول إليه، واتجه الصندوق (ب) إلى مجرة أندروميدا وتمكن سكان كوكب مأهول بكائنات عاقلة هناك من الحصول عليه أيضًا.. فإنه وفقًا للنظرية النسبية لآينشتاين، أن سكان الأرض إذا فتحوا الصندوق (أ) ولم يعثروا على الكرة، فإن النتيجة المنطقية هي أن الكرة موجودة في الصندوق (ب) الذي اتجه إلى مجرة أندروميدا، والعكس صحيح.

لكن وفقا للنظرية الفيزيائية الأخرى – المجنونة بعض الشيء – ألا وهي نظرية التشابك الكمي، فإنه إذا فتح سكان كوكب الأرض الصندوق (أ) أولاً قبل أن يفتح سكان الكوكب الواقع في مجرة أندروميدا الصندوق (ب) فإن النتيجة ستكون متطابقة، هنا وهناك!

يا ترى أيّ منهما – نظرية النسبية أم نظرية التشابك الكمي – هي الصحيحة؟

في نظرية التشابك الكمي، فإن هذا التماثل الفوري في نتائج الرصد – مهما كانت المسافة حتى ولو قيست بملايين السنين الضوئية – يُسمى “التأثير الشبحي عن بعد”.

العقل العظيم الذي امتلكه آينشتاين – الذي لم تكن التكنولوجيا في عصره قادرة على مجاراته – افترض أن نظرية ميكانيكا الكم يجب أن تسمح لكائنين بالتأثير على سلوك بعضهما البعض على الفور عبر مسافات شاسعة. وقد قدم ورقة علمية مشتركة مع عالمين آخرين لإظهار الثغرات في هذه النظرية، وأهم مأخذ من وجهة نظره هو أن لا شيء في الكون يمكنه أن “يحدث” أسرع من سرعة الضوء.

ثابر علماء الفيزياء خلال المئة عام الماضية على إغلاق الثغرات التي أشار إليها آينشتاين، حتى تمكنوا في عام 2015 من إثبات التشابك الكمي تجريبيًّا، وأن المعلومات يمكن أن تنتقل “عن بعد”، إلا أن سرعتها لم تكن أعلى من سرعة الضوء، وإلى هذا الحد كان آينشتاين على صواب.

في ورقة علمية نشرتها مجلة Science Advances (يوليو 2019) وصف فريقٌ من الفيزيائيين من جامعة جلاسكو كيف جعلوا تأثير آينشتاين الشبحي مرئيًّا في صورة لأول مرة في التاريخ.

لقد قاموا بإعداد كاميرا فائقة الحساسية، قادرة على الكشف عن الفوتونات الفردية بحيث لا تلتقط صورًا إلا عندما تكتشف فوتونًا و”توأمه” المتشابك، وبالتالي تُنتج هذا الكاميرا سجلاً مرئيًّا لتشابك الفوتونات.

وهكذا حَسم هذا الدليل الساطع الجدل العلمي حول هذه المسألة إلى الأبد.

لكن ما هو “السر” الذي حمل آينشتاين على التصدي لنظرية التشابك الكمي؟ ليس فقط تخوفه من انهيار نظريته النسبية، ولكن من المعنى “المضمر” الذي تحمله نظرية “التشابك الكمي”.. ويكفي أن نتأمل قليلاً المثال الذي أوردناه عن الصندوقين، ونفترض أمورًا أخرى أكثر أهمية من الكُرة يدور الجدل حول وجودها أو عدم وجودها في الصندوقين، بما في ذلك وجود الإنسان نفسه.. ولنتذكر مقولة آينشتاين الخالدة: “إن الله لا يلعب بالنرد”.

إلى أين سيمضي بنا “التشابك الكمي”؟

من الاحتمالات الواردة السلبية أن تتمكن الحكومات في المستقبل من الحصول على الخريطة الجينية لكل فرد من مواطنيها، ثم تستخدم تقنية “التأثير الشبحي عن بعد” بطريقة ممنهجة ومدروسة للحصول على الانضباط الذي ترجوه.

حينذاك ستمتلك الحكومات القدرة التامة على “تعبئة” الشعب وتجييره لمناصرة قضية من القضايا بأدنى جهد، وكذلك تطويعه بالطريقة التي تريدها.

وهذا يعني أن الحرية الفردية ستصبح ذكرى من الماضي، وسينقسم الجنس البشري إلى مجموعات محددة بوضوح شديد.

في ذلك العصر الذي تلوح نُذُره سيعجز الإنسان العادي عن التفكير المستقل مهما كان ذكيًّا، وسيفشل في تقرير مصيره بنفسه مهما حاول، لأن هناك قوى خارجية عليا متصلة بجيناته الوراثية بواسطة “التشابك الكمي” تحول دون تمرده أو خروجه عن القطيع.

لعل البشر مقبلون على حقبة تاريخية أشد هولاً من الكوابيس، خصوصًا إذا تمكنت طغمة ذات أيديولوجية متطرفة من التحكم بوسائط التأثير الشبحي عن بعد، واستغلتها للسيطرة على الجنس البشري، بحيث يصبح من سابع المستحيلات الإفلات من قبضتها، وقد يعني هذا “نهاية التاريخ” لكن ليس بالصورة الوردية التي تخيلها المفكر الأمريكي فرانسيس فوكوياما، ولكن بصورة مأساوية، وانحدار البشر إلى أسوأ أشكال العبودية وأكثرها شناعة.. لكن لنأمل ألا يحدث ذلك.

ثمة سيناريو مستقبلي إيجابي: أن يُطور العلماء تقنية “التشابك الكمي” لأغراض نافعة، في الطب والاتصالات وعدد لا يحصى من التطبيقات الصناعية.

واحد من التطبيقات التي أتنبأ بها هي أن يستنسخ الإنسان من نفسه عدة نسخ، كلها مرتبطة به بواسطة تقنية التشابك الكمي، ويكلف كل نسخة بمختلف المهام التي يرغب بها، فمثلاً سوف يكون بإمكان مالك شركة أن يحضر اجتماعين متزامنين، النسخة (أ) تحضر الاجتماع في نيويورك، والنسخة (ب) تحضر الاجتماع الثاني في سنغافورة، بينما النسخة الأصلية تمارس عملها الاعتيادي في مقر الشركة بدبي.

كذلك يمكن في حالة العمليات الجراحية الخطيرة، استخدام نسخ بديلة تُجرى عليها العمليات الجراحية ويتم التحكم بالتأثير الشبحي عن بعد، بحيث يُسمح أو يُمنع انتقال المعلومات إلى الجسد الأصلي بحسب ما ستسفر عنه العملية.

كذلك من التطبيقات الممكنة التجديد اللا نهائي لخلايا الجسم عن طريق استخدام تقنية التأثير الشبحي عن بعد، بفعل تحديثات شبيهة بنسخ ويندوز التي تطرحها شركة ميكروسوفت بين فترة وأخرى لأجهزة الكومبيوتر، بما يؤدي في النهاية إلى تحقيق حلم الإنسان في الخلود، والتمتع بالشباب الأبدي.

يبدو هذا الكلام مغرقًا في الخيال، وحتى موغلاً في التخريف غير العلمي، لكن خطوات العلم تقترب شيئًا فشيئًا من اكتشاف التشابك الكمي في العديد من الظواهر الطبيعية، والخطوة التالية الحتمية ستكون هي اكتشاف تأثير التشابك الكمي على الإنسان.

*روائي وكاتب يمني.

   
 
إعلان

تعليقات