Accessibility links

إعلان

وجدي الأهدل*
سوف أتحدث هنا عن الاستفادة من الحكاية الشعبية في الأدب من خلال تجربتي الشخصية، وممارسة هذا التوظيف في أعمالي الأدبية.
لعل أبرز عمل وظفتُ فيه الموروث الشفوي للأمة اليمنية يتمثل في كتابي القصصي “وادي الضجوج”، الذي يحتوي على ثلاث عشرة قصة قصيرة، اتكأت في أرومتها على حكايات غير مكتوبة، فهي مرويات ليس لها طابع حكائي مقصود أصلاً، ولكنها متداولة كأخبار ونوادر وقعت في قراهم وعُزَلهم يتناقلها كبار السن بيقين تام، دون تشكيك من ناحيتهم في مصداقيتها.
اليوم مثلاً لو جاء صديق لنا يحكي عن مغامراته في بلاد الجن فلن يصدقه أحد، وسيسخر منه الجميع، وربما عدُّوه مجنونًا إذا أصر على صحة كلامه.
ولكن الوضع لم يكن هكذا قبل مائة عام، ففي جميع مناطق اليمن، من سهولها الساحلية، مرورًا بمرتفعاتها الجبلية، وانتهاءً بصحاريها الشاسعة، كانت حكايات الإنس مع الجن شائعة جدًّا، وتلك الروايات المتداولة على ألسنة الناس تحظى بالتصديق والإجماع على صحتها، فغدتْ جزءًا لا يتجزأ من الذاكرة الجمعية لليمنيات واليمنيين في تلك القرون الغابرة.

من القصص الثلاث عشرة، هناك قصة واحدة فقط لم يكن لها مصدر خارجي، وإنما هي تجربة خاصة، ولكن لو حكيتها مجردة من عباءتها الفنية فلن يصدقني أحد، وأنا نفسي لن أُصدق ما حدث لي، لأن عقلي لم يعد ميتافيزيقًا كعقول أسلافي، لذلك كان الحل للخروج من هذا التناقض هو أن أكتب تلك الواقعة وأُحولها إلى عمل أدبي.

هل يُقللُ اتكاء الكاتب على حكايات ومرويات وأخبار وطرائف شعبية من أصالته الفنية وجدارته الأدبية؟ الجواب هو لا كبيرة قطعًا، ونستشهد هنا بأعظم مؤلف مسرحي في التاريخ، ألا وهو وليم شكسبير، الذي استوحى معظم أعماله المسرحية من حكايات متداولة في عصره، ولم يأتِ بشيء من عنده، حتى اتهمه النقاد الجهلاء بكسل المخيلة، ولكن هذا العبقري كان يعصر الحكاية في مخيلته، ويستخرج منها إبداعًا لا يُضاهيه إبداع أحد من قبله ولا من بعده.

إن الكاتب الذي يبتغي مهر أعماله بطابع الأصالة والارتباط الوثيق بالأرض وبيئته المحلية، هو الذي يهضم تراث الآباء والأجداد، مهما يكن متنافرًا وتافهًا في الظاهر، فيعيدُ تشكيله مثل صانع فخار حاذق، فإذا بالتنافر يبدو منسجمًا، والتافه الذي لا قيمة له وقد تجلَّتْ أبعاده النفسية والأنثروبولوجية، واتضحت مضامينه الباطنية التي لم تكن تُلاحظها العقول السطحية في السابق.

إن صانع الفخار يغرف ترابًا من الأرض وينخله، ثم يُصيره صلصالاً ويدير عجلته، فيصنع منه أكوابًا وأباريق وآنية جميلة، فكذلك يفعل الكاتب الباحث عن الأصالة، فهو لا يزدري تراث الأولين، بل يغترفُ منه ما وسعه، ثم يعيد خلقه في قوالب مسرحية أو قصصية أو روائية، وفي سيناريوات درامية أيضًا.

هناك فكرة شائعة لدى رهط من الكُتاب الشباب مفادها أن الأدب الجيد يجب أن ينبع من الذات، وأن الخيال الذاتي للكاتب يكفي لخلق نصوص أدبية مكتملة، بمعنى أن الكاتب منهم مُكتفٍ بذاته ولا يعبأ بالمصادر المتوفرة خارجه.

لكن من تجربتي الخاصة أرى أن هذا المسار خاطئ، ويقود صاحبه إلى كتابة نصوص جوفاء خالية من الروح، ثم ببطء يذوي هذا الكاتب ولا يعود لديه ما يقوله سوى أن يكرر نفسه.

برأيي يجب، وأُشدد على كلمة “يجب”، أن نتحرى البحث عن جذور من خارجنا، ثم نحفر مقدارًا بسيطًا ونطمر تلك البذور في العقل الباطن، وربما بعد أيام أو شهور أو سنوات تضرب صاعقة تلك البذور فإذا هي تنبض، وتشق البراعم طريقها باحثة عن ضوء الشمس.

لا بد من تلقيح عقولنا من مصدر خارجي، فكهذا يعمل كل شيء حي في الطبيعة، وخيال المبدع لا ينشطُ من تلقاء نفسه إلا نادرًا، فهو محتاج إلى مؤثرات خارجية لتدور العجلة.

إن عقل المبدع يشبه تربة بركانية خصبة، إلا أن الكاتب الذي يصر على إغلاق عقله ومنع المؤثرات الخارجية من التداخل والامتزاج في عمله، فإنما يحرم نفسه من مدِّ جذوره في تربة الأدب، فهو يشبه مالك أرض لا خبرة له بالفلاحة، ينتظر أن يثمر زرعه والسماء جافة لا تمطر، وهو لا يبذل جهدًا لسقي زرعه من العيون والآبار المجاورة.

كيف نحفر في العقل الباطن لإسقاط البذور؟ أيسر طريقة هي أن ندون في قصاصات أو دفاتر كل ما نسمعه من كبار السن عن مجريات أيامهم وأحوالهم، وتقلبات الدهر معهم، والأخبار التي سمعوها من الأجيال التي سبقتهم، أن نسجل كل حدث مهما بدا عابرًا وغير مؤثر، ومهما بَعُدَ مكانه أو تقادم زمانه.. قد نحسب للوهلة الأولى أن هذه الأحداث لا تترك آثارها علينا، ولكن رُبَّ حدث لا نلقي له بالاً وقع قبل قرن أو قرنين هو الذي يدمغ شخصيتنا ويعطينا طباعنا الحالية.. إن هذه التفاصيل الآتية من الماضي هي التي تشكل فسيفساء جيناتنا الوراثية.

إن هناك نوعًا من التجاوب الخلاق يحدث عندما نزود العقل الباطن بفلذة من خارجه، والسبب أنها مخزنة أصلاً في داخله وموروثة من أسلافنا.

نحن عندما نفعل ذلك – أيّ التدوين – نُنشّط عنصرًا خاملاً في العقل الباطن، ونمنحه فرصة التفاعل في مجالنا النفسي.. وبما أن هذا النمو الداخلي قد حدث للكاتب، فإنه من المتوقع أن يحدث الشيء نفسه للمتلقي، وهكذا يُحدثُ العمل الأدبي أثره.. يُطلق أرسطو على هذا الحدث النفسي مسمى الكاثارسس، أيّ التطهير.

لقد قرأت قصة المصرية هاجر زوجة النبي إبراهيم – عليه السلام – في القرآن الكريم، ثم في العهد القديم، وهزتني كثيرًا قصة هذه المرأة ورضيعها إسماعيل، وقررتُ أن أُعيد كتابة قصتها بصورة عصرية.. فجعلتُ أحداث القصة تدور في عالم الحيوان لا في عالم البشر، وجعلتُ أبطال القصة الرئيسيين قطيعًا من الفقمات يعيش في جزيرة غرينلاند، ثم تجري الأحداث وفقًا للنسق المعروف إلى أن يصدر الحكم بنفي الفقمة الشابة “وسطى” إلى القطب الشمالي.

عندما أنهيتُ كتابة القصة اغرورقتْ عيناي بالدموع، لقد تمكنتُ من بعث المشاعر التي انتابت تلك المرأة المغلوبة على أمرها في نفسي، وشاركتها اللحظات الصعبة التي عاشتها وحيدة في قفر يبعد مئات الكيلومترات عن أقرب تجمع بشري.

ما كان يمكن لي أن أبني قصتي إلا استنادًا على المصدرين المذكورين، فهما اللذان أمداني بالبصيرة الفنية لأنفذ نصي بالطريقة الصحيحة.. ليس فقط أنني شعرتُ بنمو شيء جديد في داخلي، ولكن حتى أسلوبي الأدبي شعرتُ أنه قد تطور.. كانت تلك لحظة مهيبة.

الخلاصة، أن المبدع إذا أراد تطوير أسلوبه الأدبي والارتقاء بفنه إلى الأعلى، فإن عليه أن يسمح لهذا التطور أن يحدث في الداخل أولاً، وأن ينفتح بمحبة على المصادر الواقعة تحت يده.

*روائي وكاتب يمني

   
 
إعلان

تعليقات