Accessibility links

بين القرصنة الإرتيرية وجرائم الحرب.. صيادو اليمن: مأساة لا حدود لها


إعلان
إعلان

صنعاء- “اليمني الأميركي” – أحمد الكمالي:

بعد تجربة سجن مريرة لأكثر من شهر في معتقلات إرتيريا سيئة الصيت، وصل 11 طفلاً يمنيًّا لا يتجاوز عمر أكبرهم الـ15 سنة إلى مركز الإنزال البحري في مديرية الخوخة بمحافظة الحديدة (غربي اليمن)، منتصف نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، بينما ما يزال آباؤهم وأكثر من مائة صياد آخرين في سجون القوات الإرتيرية، التي تواصل اختطافهم من عرض البحر سواء من المياه الإقليمية أو حتى اليمنية إلى معتقلاتها، وتمارس بحقهم أبشع جرائم التعذيب الجسدي والنفسي، من تجويع وإرغام على العمل الشاق في ظروف مهينة للكرامة الإنسانية.

وبعد فترات اعتقال تتراوح بين أيام إلى أشهر وسنوات، قبل أن يتم سلبهم مصدر دخلهم الوحيد للإنفاق على أسرهم، والمتمثل بقوارب الصيد التقليدية، يعود الصيادون بلا شباك، بلا أسماك، بلا أي شيء، سوى جراح في الذاكرة لا يسعها البحر المملوء بالبوارج والقطع العسكرية، ولا يحتويها البر المثخن بالصراعات والحرب.

أُرغم أطفال الصيادين المختطفين في إرتيريا على حفر قبور للنوم فيها.

 

«تعرض الأطفال للضرب، حتى إن أحدهم فقد أحد أسنانه نتيجة صفعه من قِبل جندي إرتيري، كما تم الاعتداء على آبائهم أمامهم، ولاحظنا من خلال حديثهم الخوف والصدمة النفسية الناتجة عن تجربة الاختطاف التي كانت عذابًا بمعنى الكلمة» – قال محمد حسن، خال أحد الأطفال المفرج عنهم مؤخرًا، في حديث لـ”اليمني الأميركي”.

ويعبّر الأطفال المختطفون بعد وصولهم إلى مركز الإنزال في الخوخة، في تسجيل فيديو حصلت عليه “اليمني الأميركي”، عن فظاعة أشكال التعذيب التي تعرضوا لها في المعتقل، حيث مُنعوا من الأغطية والأكل والشرب إلا في الحدود الدنيا، وأرغموا على حفر “قبور” للنوم فيها.

 وحول أسباب اصطحاب الآباء لأطفالهم معهم إلى البحر، يشير خال الطفل محمد، ذي التسع سنوات، إلى أن الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي يعيشها أهاليهم في قريتي الكداح والقطابة اللتين ينحدر منهما الأطفال، ويعمل معظم قاطنيهما بالصيد التقليدي، «تفرض عليهم اصطحاب أبنائهم إلى البحر لتعليمهم المهنة، وإشراكهم في المساهمة في تحمل نفقات الأسرة كخيار مُرٍّ فرضته الظروف لا الاهواء».

في الـ13 من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، خرج الصيادون برفقة أبنائهم على متن ثلاثة قوارب تحمل 28 شخصًا من ميناء الاصطياد بالقطابا، كما تشير تصاريح الميناء، واتجهت إلى جزيرة السوابع الواقعة في المياه الإقليمية اليمنية.. وحتى عودة أطفالهم وحيدين بملابس رثة وأجساد متهالكة بقرار من القرصان الإرتيري، ودون أيّ وساطة كونهم غير قادرين على الأعمال الشاقة، لم تكن تعلم أسرهم عن مصيرهم شيئًا، على الرغم من إبلاغ الجهات المختصة ومناشداتهم المتكررة، بحسب أحد وجهاء قرية الكداح، عبدالعزيز الحضرمي، في حديث لـ “اليمني الأميركي”.

 

السلطات الإرتيرية تستغل الصيادين اليمنيين المختطفين في أعمال شاقة وخدمات منزلية.

 

ويضيف: «كان القلق هو الشعور المسيطر علينا.. كنا نطرح عدة احتمالات حول مصيرهم، إما أنهم تعرضوا للغرق، أو تم أخذهم من قِبل أحد الأساطيل العسكرية، والاحتمال الثالث والأقرب أنهم محتجزون من قِبل السلطات الإرتيرية»، مشيرًا إلى أن الأطفال أبلغوهم بوجود عدد كبير من الصيادين يزيد عن 100 شخص ما زالوا في المكان الذي احتُجزوا فيه بمعتقلات إرتيريا الموحشة.

لا تقف صنوف التعذيب التي يتعرض لها الصيادون في السجون الإرتيرية عند التعذيب الجسدي، بل يتم استغلالهم في أعمال شاقة كبناء معسكرات وحمل الصخور الثقيلة وتعبيد الطرقات، بل حتى تسخيرهم في أعمال منزلية مهينة في منازل ضباط ومسؤولين إرتيريين، بحسب الصياد اليمني سلطان عبده حسن، الذي تعرض للاختطاف لثمان مرات، كان آخرها قبل حوالي خمسة أشهر، تم فيها مصادرة أملاكه من قوارب ومعدات في كل مرة حتى غدا الآن دون وسيلة لاستئناف عمله في الصيد وإعالة أسرته.

لمعرفة عدد الصيادين الذين ما زالوا مختطفين في معتقلات إرتيريا، وبهدف الحصول على إحصائية شاملة عن المختطفين خلال سنوات الحرب وظروف وملابسات وأماكن اعتقالهم، تواصلت “اليمني الأميركي” مع إدارة خفر السواحل اليمنية في الخوخة التابعة لوزارة الداخلية في الحكومة (المعترف بها دوليًّا)، وهي الجهة المعنية بتلقّي البلاغات الرسمية ورصد الانتهاكات التي يتعرض لها الصيادون، إلا أن أحد الضباط الذي كان قد رحب بنا ووعد بتقديم إحصائيات مفصلة حول ذلك، عاد بعد أيام من الانتظار والمتابعة لتأكيد أنها “معلومات سرية ولا يمكن تداولها”.

983 صيادًا يمنيًّا دخلوا السجون الإرتيرية ما بين عامي 2017 و2022.

 

113 صيادًا ما زالوا معتقلين في السجون الإرتيرية حتى اليوم، منهم 81 من أبناء الخوخة، فيما البقية من أبناء المخا، بحسب رئيس جمعية شباب الخوخة التعاونية السمكية خالد زرنوقي لـ”اليمني الأميركي”.

ويشير زرنوقي إلى أن القوات الإرتيرية تقوم بمصادرة قوارب الصيادين بعد اختطافهم سواء من المياه الإقليمية أو حتى اليمنية، فمنذ 2018 تم مصادرة 345 قاربًا تتراوح تكلفة الواحد منها مع معداته من (12 إلى 20 إلى 40 ألف ريال سعودي)، الأمر الذي يفقد الصيادين مصدر دخلهم الأساسي للإنفاق على أسرهم.

ويلفت رئيس الجمعية إلى أنه على الرغم من تكرار الاختطافات بحق الصيادين، إلا أن الحكومة اليمنية (المعترف بها دوليًّا) لا تتجاوب مع الانتهاكات المتواصلة كما ينبغي، عدا بعض الجهات بشكل محدود وشخصي.

من جهته نفى رئيس الهيئة العامة لمصائد البحر الأحمر التابعة للحكومة (المعترف بها دوليًّا) خالد الشمسي، في حديث لـ “اليمني الأميركي”، وجود أيّ بلاغ رسمي بحوادث الاختطاف لديهم حاليًّا، والبلاغات التي وصلتهم بخصوص اختطاف صيادين تم الإفراج عنهم جميعًا.

وعندما أخبرته “اليمني الأميركي” بوجود أكثر من 100 صياد في المعتقلات الإرتيرية، قال إن حوادث الاختطاف تتم بشكل شبه يومي.. مبررًا عدم وجود بلاغات رسمية بالحادثة الأخيرة، بالقول: إن «الصيادين لا يقيدون البلاغات الرسمية بحوادث الانتهاك، والمعلومات الدقيقة لا يمكن الجزم بها إلا من قِبل السفير اليمني في إرتيريا».

ويرى رئيس هيئة المصائد أن إيجاد حل جذري لمشكلة الانتهاكات الإرتيرية بحق الصيادين تحتاج إلى تكوين لجان ثنائية بين البلدين، تقوم بالتنسيق ووضع آلية للصيد التقليدي في المياه الإقليمية وفقًا للاتفاقيات بينهما، محملًا الجانب الإرتيري مسؤولية عرقلة الحلول طوال السنوات الماضية، مطالبًا الحكومة بممارسة المزيد من الضغوط والنشاط الدبلوماسي لحفظ حقوق شريحة الصيادين الأكثر تضررًا من الحرب.

 تواصلت “اليمني الأميركي” بالسفير اليمني في أسمرة، عبدالله السري، لمعرفة وضع الصيادين اليمنيين في المعتقلات الإرتيرية والوقوف على المزاعم التي يتخذها الجانب الإرتيري مبررًا تكراره عمليات القرصنة بحقهم، على الرغم من كون حيثيات القرار الدولي لترسيم الحدود البحرية بين الجانبين، إبان أزمة جزيرتي حنيش عام 1998، يضمن لصيادي الدولتين الاصطياد التقليدي في المياه الإقليمية، ويسمح بتسويق البضائع في شواطئ البلدين دون قيود أو شروط، لكن السفير امتنع عن التوضيح.

بدوره يرجع الناشط والمحلل السياسي الإرتيري، شفا العفري، في حديث لـ”اليمني الأميركي”، عمليات اختطاف الصيادين اليمنيين من الجانب الإرتيري إلى “الوضع السياسي المختل في البلد (إرتيريا) بفعل تعطيل الدستور، وحكم الإقطاعات والقوى العسكرية المتصارعة التي تحكم البلد، حيث يصدر بعض المسؤولين العسكريين تصريحات للصيادين اليمنيين بالاصطياد وفق القرار الدولي، فيما البعض الآخر يقوم باعتقالهم”.

الانتهاكات الإرتيرية بحق الصيادين اليمنيين مستمرة منذ سنوات طويلة، لكنها تصاعدت خلال سنوات الحرب، ففي رصد أجراه مُعد التحقيق، فقد عاد 983 صيادًا يمنيًّا من معتقلات إرتيريا خلال الفترة من نوفمبر/ تشرين الثاني 2017، وحتى ديسمبر/ كانون الأول 2022، بعد فترات اعتقال متفاوتة، بحسب ما نشرته وسائل الإعلام، ووفقًا لتحقيق استقصائي فيلم “رحلة اللا عودة”، نشرته شبكة “أريج” في أكتوبر/ تشرين الأول عام 2018، فإن إرتيريا اعتقلت أكثر من 4600 صياد يمني ما بين عامي 2010 و2017، إلا أن هذه الأرقام، وإنْ كانت تكشف ضخامة الانتهاكات، لكنها غير دقيقة؛ لوجود الكثير من عمليات الانتهاكات والاختطافات التي لا يتم تقييدها.

 

113 صيادًا يمنيًّا ما زالوا في السجون الإرتيرية حتى اليوم.

 

يضطر الصيادون اليمنيون للذهاب إلى الصيد في المياه الإقليمية المتاحة وفقًا للقرار الدولي، نتيجة عمليات التجريف التي تطال الأسماك والشعاب المرجانية في المياه اليمنية من قِبل سفن وشركات أجنبية غير مرخص لها من جانب الجهات الحكومية، وعلى الرغم من ذلك ما زالت تواصل عملها حتى اللحظة، وفقًا لمعلومات ملاحية متطابقة.

بالإضافة إلى عمليات التجريف التي دمرت قطاع الصيد في اليمن، تعرض الصيادون في البحر الأحمر للاستهداف المباشر من قِبل قوات التحالف العربي الداعم لحكومة الشرعية، حيث نفذت طائرات وبارجات التحالف 291 عملية استهداف مباشر لقطاع الصيد، أسفر عنها مقتل 273 صيادًا، وإصابة 211 آخرين، فيما بلغت خسائر القطاع السمكي أكثر من 12 مليار دولار، بحسب رئيس الهيئة العامة لمصائد البحر الأحمر التابعة لحكومة أنصار الله “الحوثيين”، هاشم الدانعي، في حديث لـ”اليمني الأميركي”.

ويؤكد الدانعي أنهم يوجهون بلاغات بالاستهداف والانتهاكات التي يتعرض لها الصيادون اليمنيون، سواء من قِبل التحالف أو السلطات الإرتيرية، إلى الأمم المتحدة والمنظمات الدولية المعنية، إلا «أننا لا نلقى التجاوب المطلوب».

وكان تقرير لمنظمة “هيومن رايتس ووتش“، نُشر في أغسطس/ آب 2019، قد أكد مقتل 47 صيادًا يمنيًّا على الأقل، جراء خمس هجمات شاركت فيها سفن حربية، ومروحيات التحالف.

وأشار التقرير إلى احتجاز أكثر من 100 صياد يمني من قِبل القوات السعودية لفترات تتراوح من 40 يومًا إلى عامين ونصف في مراكز الاحتجاز والسجون في السعودية.. ووثق التقرير شهادات لمعتقلين سابقين أفادوا بتعرضهم لـ «التعذيب أثناء الاحتجاز في السعودية».

 

الناشط الإرتيري شفا العفري: الوضع السياسي المختل في البلد يمثّل عاملاً في استمرار الانتهاكات بحق الصيادين اليمنيين.

 

في واحدة من أبشع المجازر التي وثقتها المنظمات الدولية لحقوق الإنسان بحق الصيادين اليمنيين، فقد قضى 42 شهيدًا من الصيادين، وجرح 12 آخرون إثر استهدافهم بسلسلة غارات جوية للتحالف في جزيرة عقبان، قبالة سواحل مدينة الحديدة (غربي اليمن)، في 3 نوفمبر/ تشرين الثاني 2015، أثناء ممارستهم الصيد.

علي بغوي، أحد الناجين من المجزرة، فقدَ قدمه، وحُرِم من ممارسة مهنة الاصطياد، التي تُمثل مصدر دخله الوحيد.. يقول بعد سبعة أعوام من المجزرة لـ “اليمني الأميركي”: الإصابة قلبت حياتي رأسًا على عقب؛ إذ فقدتْ أسرتي معيلها الوحيد، وخسرتُ كل ما لديّ لسداد تكاليف العلاج، وبالرغم من ذلك ما زلت عاجزًا عن توفير مبلغ 800 ألف ريال لإجراء عملية ضرورية.

لا يقتصر استهداف الصيادين اليمنيين في البحر الأحمر فقط، خلال سنوات الحرب، بل إنهم يتعرضون للحرمان من الاصطياد والاختطافات ومصادرة القوارب على امتداد أكثر من 2500 كيلو متر، هو طول الشريط الساحلي اليمني، وفقًا لتقارير إعلامية متواترة عن الانتهاكات، الأمر الذي يوجب على الأطراف اليمنية المتصارعة حمايتهم وتأمين حقهم في الصيد، فيما يجب على الأمم المتحدة أن تدرج ملف تعويضاتهم ضمن أيّ تسوية قادمة لإنهاء الحرب، وإلزام الحكومة الإرتيرية بوقف أعمال القرصنة والاعتداءات التي تطالهم.

   
 
إعلان

تعليقات