Accessibility links

بماذا تقدم الغربيون؟ عرض لكتاب الأستاذ محمد علي لقمان


إعلان

وضاح عبدالباري طاهر*

كان السؤال المؤرق الذي شغل رواد النهضة وشعراءها هو سر تقدم الغربيين، وتخلف الشرق بعد أن كان في مقدمة الأمم حضارة وعلمًا وإنسانية. وما أحسن تصوير شاعر النيل حافظ إبراهيم حالة العرب والمسلمين في قصيدة له، يقول فيها:

قعدت شعوب الشرق عن/ كسب المحامد والمفاخر

فونت وفي شرع التنا/ حر مَنْ ونى لا شك خاسر

تمشي الشعوب لقصدها/ قُدُمًا وشعب النيلِ آخِر

كَم في الكنانَة مِن فَتىً/ نَدبٍ وَكم في الشام قادر

لكنَهم لَم يُرزَقوا/ رأيًا وَلم يردوا المخاطِر

هَذا يَطيرُ مَعَ الخيا/ لِ وَذاكَ يرتجلُ النَوادر

جهلوا الحَياةَ وَما الحَيا/ ةُ لغيرِ كدّاحٍ مُغامِر

يَجتابُ أَجوازَ القِفا/ ر وَيَمتَطي مَتنَ الزَواخِر

لا يستشيرُ سِوى العَزيـ/ ـمَةِ في المَوارِدِ وَالمَصادِر

يَرمي وَراءَ الباقِيا/ تِ بِنَفسِهِ رَميَ المُقامِر

كم ذا نُحيلُ عَلى غَدٍ/ وَغَدٌ مَصيرَ اليَومِ صائِر

خَوت الدِيار فَلا اخترا/ عَ وَلا اقتصادَ وَلا ذخائر

دَع ما يُجَشِّمُها الجمو/ دُ وَما يَجُرُّ مِنَ الجرائر

هذا السؤال الذي شغل رواد النهضة العربية والإسلامية ابتداءً من جمال الدين الأفغاني، ومحمد عبده، وقاسم أمين، والنائيني، والطهطاوي، وطه حسين، وشكيب أرسلان، ما فتئ يلح أيضًا على رواد النهضة والتنوير في اليمن كالمفكر اليمني الأستاذ الكبير محمد علي لقمان الذي أسهم جادًّا في تلمس مواطن الداء، وتحسس مكامن العلة، وكتب فيه كتابًا دل على سعة معارفه، وبعد نظره، وقبل أن نأتي على عرض هذا الكتاب نقدم تعريفًا موجزًا بالأستاذ لقمان الغني عن التعريف أصلاً. 

كنت قد كتبت مقالاً عن الأستاذ محمد علي لقمان، ونشر في منصة خيوط بتاريخ 23 أكتوبر 2020، ولا بأس أن نقتبس منه تعريفًا موجزًا عنه:

محمد علي لقمان (1316-1385هـ) = (1898 – 1966م)، محامي، أديب، صحفي، روائي، مسرحي، رحَّالة، وأحد رواد النهضة والإصلاح والتنوير في اليمن.

دراسته:

درس الأستاذ محمد علي إبراهيم لقمان، في بداية حياته، القرآن على يد الفقيه سعيد عبدالله العلس، وتلقى دروسًا في النحو والصرف على يد العلّامة محمد حسن الحازمي – قاضي عدن، وقرأ النحو أيضًا على يد الشيخ عمر الزبيدي، وتعلم على يد الشيخ محمد عارف، مدير مدرسة البهرة الإسلامية في عدن، نظم الشعر العربي.

حفظ على يد الشيخ عبد الله الحضرمي كتاب الزبد، وأبي شجاع، وأبي فضل في فقه الشافعية، وقرأ على يد العلامة عبد الله بن حامد الصافي في التصوف، والمنطق، والبيان، والبديع، واستمع لمناقشات العلّامة عبد الله البطاح الزبيدي، الذي كان يزور عدن، وكانت هذه النقاشات تطرح في حلقة العلّامة الصافي.

حصل على شهادة “السنيور كمبردج” من بريطانيا عام 1340هـ/ 1922م، وأخرى من جامعة ليدز الإنجليزية، ثم حاز على شهادة المحاماة من الهند عام 1355هـ/ 1936م.

يجيد لقمان اللغة الإنجليزية، ويحسن الفرنسية، ويتكلم الهندية والصومالية.

أعماله

درَّسَ في عدد من المدارس بعدن، وعمل مديرًا للمدرسة الابتدائية بحي كريتر بعدن، سنة 1341هـ /1923م، ثم امتهن بالمحاماة.

في الأعوام 1930 – 1935، عاش لقمان، وعمل في أرض الصومال، وأصبح مدير فرع شركة “أنتونانبس” في بربرة، والفروع الأخرى في هرجيسة وبرعو. كان في هذه السنوات يبيع حمولات السفن من الأرز والسكر وزيت الكيروسين والبترول والمنتجات البترولية.

   واشترك مع عبد الله علوي الجفري في تأسيس النادي العربي في 1924، كما أنشأ مخيم أبي الطيب المتنبي في العام 1938.

جهوده وآراؤه الإصلاحية والتنويرية في مجال التعليم

في العام 1923، نشر لقمان أول مؤلَّف له باللغة الإنجليزية “هل هذه قصاصة ورق؟”، انتقد فيه حالة التعليم في عدن، وذكر أن 50% من أطفال عدن الذكور لا يجدون مدرسة يؤمونها، وهم يتسكعون في الأسواق، والأمية منتشرة بينهم.

وفي الأعوام (1924 – 1933)، تناول لقمان بالنقد السياسة التعليمية في عدن في الصحف المصرية والسورية، التي كانت تصل إلى المدينة في هذه السنوات؛ إذ كانت تدرس الطلاب تاريخ الهند، وفظائع سلطان سرنديب وتيبو، وحماقات أباطرة المغول، وحكمة نواب ملوك إمبراطورية الهند – الإنجليز، ولا تدرس التاريخ والأدب العربيين.

جهوده المبكرة في السعي لتعليم المرأة

عمل لقمان مع التربوي الفلسطيني زاهر حمزة، الذي كان يشغل مسؤولية المعارف في عدن في الأعوام (1936 – 1941م)، على فتح مدرسة للبنات في المستعمرة البريطانية، وفي العام 1939، تمت الموافقة على هذا المشروع التنويري، وقدم لقمان قائمة بأسماء الطالبات الراغبات في الالتحاق بالتعليم، التي بلغت نحو 60 فتاة.

جهوده في مجالي الصحافة والسياسة  

أنشأ جريدة “فتاة الجزيرة” سنة 1940، وبعدها مجلة “عدن كرونكل باللغة الإنكليزية سنة 1952، وكان من الأعضاء التنفيذيين في حزب مؤتمر الشعب العدني سنة 1374هـ/ 1954م، وكان قبل ذلك قد أسس الجمعية العدنية منذ عام 1949.

ثانيًا: عرض الكتاب

يقع كتاب “بماذا تقدم الغربيون”، في144 صفحة بالقطع الصغير في طبعته الثانية عن مركز عبادي للدراسات والنشر، وقد أحسن اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين في اختيار هذا الكتاب ضمن مطبوعاته؛ لِما له من أهمية، ويا حبذا لو أن سلطة الأمر الواقع جعلت هذا الكتاب مقررًا دراسيًّا للطلاب الجامعيين حتى تتنور أفكارهم، وتسمو هممهم، بدلاً من مقررات لا تسمن ولا تغني من جوع.

قدم الكتاب الأستاذ شكيب أرسلان، أما مواضيع الكتاب، فسأختار منها بعض العناوين التي أراها مهمة – وكل مواضيع الكتاب لا تخلو من الأهمية – إلا أن طبيعة المقال تحول دون التوسع.

فتحت عنوان: كيف تقدم الغربيون؟

يقول الأستاذ محمد علي لقمان: “إن هذا السؤال، وأيم الحق، لجذاب يستهوي النفوس الظامئة إلى سماع الجواب، كيف لا؟ وتحت هذا السؤال المعجز تنطوي سير أعظم رجال التاريخ، وتتلاشى حياة كثير من أمم العالم، ويضع بين طياته تاريخ دول كانت فيما مضى تقول وقولها الفصل، ويتضاءل أمامه عمل أعظم جبابرة البشر، وأي عظمة تضاهي اليوم عظمة أوروبا ومجدها وقوتها الهائلة التي تزلزل جبالها الراسيات، ويقف الرعد القاصف عندها واجمًا، وتستكن الصواعق ويهدأ تأثر البراكين؛ لئلا يعمل ذلك الدماغ الأوروبي الهائل مبتكر الكهرباء والبخار، واللاسلكي، والديناميت، والطيارة، والمدفع؛ فيخلف من الأثير قوى تذهب بتلك الظواهر الطبيعية إلى بيداء الزوال، ومهواة الاضمحلال.

وهنا أتذكر كلام الأستاذ العلامة اللغوي الصحفي أحمد فارس الشدياق أول مترجم للتوراة إلى اللغة العربية، وصاحب كتاب “كشف المخبا عن فنون أوروبا” و”الساق على الساق” و”الجاسوس على القاموس”، وغيرها من الكتب، عندما وقف على اللا سلكي في بريطانيا، وطريقة عمله، والنفع الذي يقوم به، قال: إنه يحق أن يعد هذا العلم من العلوم الإلهية، ثم أنشد قائلاً:

فهذا الفخر في وجه المعالي/ وليس بضربِ زيدٍ وجه عمرو

لقد تنوعت أجوبة رواد النهضة عن هذا السؤال المهم، ففي الوقت الذي عول فيه الأفغاني والكواكبي والنائيني على الإصلاح السياسي وإصلاح أمر السلطة، اختار الإمام محمد عبده في أخريات حياته، مخالفًا أستاذه الأفغاني، التركيز على التعليم، وإصلاح نظمه وإدخال مناهج جديدة فيه، واستبدال القديمة التي عفت وأتى عليها الزمن بهذه المناهج المبتكرة، وهذا ما قام به عندما ولي مشيخة الأزهر.

أما قاسم أمين، ومعروف الرصافي، فكانت دعوتهم إلى نبذ العادات السيئة، والتقاليد البالية، وكان النهوض بشأن المرأة، وترقيتها بالتعليم والتثقيف والتهذيب محور اهتمامهم، ودعوا ألا تُترك المرأة للجهل والغباوة يفترسان عقلها، ويحطان من شأنها.

يقول الشاعر معروف الرصافي:

ألا مــا لأهــل الشــرق فــي بُـرَحـاء/ يـــعـــيـــشـــون فــي ذُلّ بــه وشــقــاءِ

لقـد حـكّـمـوا العادات حتى غدت لهم/ بـــمـــنـــزلة الأقـــيـــادِ للأســـراءِ

إذا تـخـتـبـرهم في الحياة تجد لهم/ حـــيـــاةً تــخــطّــت خُــطــة الســعــداء

ومــا ذاك إلاّ أنّهــم فــي أمــورهــم/أبـوا أن يـسـيـروا سـيـرة العـقـلاءِ

لقــد غَـمِـطـوا حـق النـسـاء فـشـدّدوا/عـــليـــهــنّ فــي حــبــسٍ وطــولِ ثــواءِ

وقــد ألزمــوهــنّ الحـجـاب وأنـكـروا/ عـــليـــهـــنّ إلاّ خَـــرْجَـــة بـــغــطــاءِ

أضــاقــوا عـليـهـنّ الفـضـاء كـأنـهـم/ يَـــغـــارون مـــن نـــورٍ بـــه وهـــواءِ

قـد انـتبذوا عنهنّ في العيش جانبًا/ فــمــا هــنّ فــي أمــرٍ مــن الخُـلَطـاءِ

وقد زعموا أن لَسْن يصلحن في الدنى/ لغــيــر قــرارٍ فــي البُــيــوت وبــاءِ

فــمـا هـنّ إلاّ مـتـعـةً مـن مـتـاعـهـم/ وإن صـــنّ عـــن بَـــيـــع لهــم وشــراءِ

أهــانـوا بـهـنّ الأمّهـات فـأصـبـحـوا/ بــمــا فــعَــلوا مــن أْلأم اللؤمــاءِ

ولو أنّهـــم أبـــقَــوْا لهــنّ كــرامــة/ لكـانـوا بـمـا أبـقـوا مـن الكـرماءِ

ألم تــرهـم أمـسَـوْا عـبـيـداً لأنـهـم/ عــلى الذُلّ شَــبُّوا فــي حــجـور إمـاءِ

وهـان عـليـهـم حـيـن هـانـت نـسـاؤهم/ تــحــمُّل جَــوْر الســاســة الغــربــاءِ

فـيـا قـوم أن شـئتـم بـقاءً فنازعوا/ ســواكــم مــن الأقــوام حـبـل بـقـاءِ

أيَــسـعَـد مـحـيـاكـم بـغـيـر نـسـائكـم/ وهـــل ســـعِــدت أرض بــغــيــر ســمــاء؟

أقـــول لأهـــل الشـــرق قـــول مــؤنِّبٍ/ وإن كــان قــولي مــســخـط السـفـهـاءِ

ألا أن داء الشـــرق مـــن كُــبَــرائه/ فـبُـعـدًا لهـم فـي الشـرق مـن كـبراءِ

وأقـبـح جـهـل فـي بـنـي الشـرق أنهم/ يــســمُّون أهــل الجــهــل بــالعـلمـاءِ

وأكــبـر مـظـلوم هـو العـلم عـنـدهـم/فــقــد يــدّعــيــه أجــهــل الجــهــلاءِ

لقــد مــزّقُـوا أحــكــام كــل ديـانـةٍ/ وخــاطُــوا لهــم مـنـهـا ثـيـاب ريـاءِ

ومــا جــعـلوا الأديـان إلاّ ذريـعـةً/ إلى كـــل شَـــغْــب بــيــنــهــم وعــداءِ

وقد شارك الأستاذ محمد لقمان قاسم أمين والرصافي في ذلك، فنراه يقول: ” إن مناخ أوروبا وطرق التربية والتهذيب فيها جعلت كل فرد يعتمد على نفسه، سواء الرجل والمرأة؛ لأن الحياة تقوم هناك على مبدأ التعاون، والتعاون لا يكون إلا إذا كان هناك اعتماد على النفس، وعدم تواكل بالمرة، والأوروبي محتاج إلى المرأة لمساعدته في كسب العيش”. 

ويقول: “إن عمل الاثنين هو أجدى وأنفع من عمل الفرد، وإن المرأة إذا قامت بخدمة الرجل ومساعدته، فإنها بذلك تمكنه من القيام بجلائل الأعمال، وإني لا أجد في المسلمين من يحتج بسبب معقول على عدم نشر المعارف بين النساء سوى الخوف من تبرجهن وخروجهن عن حدود الأدب واللياقة؛ لأـن مدام كوري مكتشفة الراديوم ما تزال تقية نقية، وأن العلم لم يزدها إلا ورعًا وشرفًا، وإني أذكر قومي بأن التعاليم الدينية الإسلامية قمينة بحفظ نسائنا من جميع الموبقات إذا علمناهن كما يجب؛ لأن الأخلاق الفاضلة لا تكتسب بمجرد الحجاب وراء الحيطان، أو بتغطية الوجه، إذا كان العقل فارغًا من كل النظريات الأخلاقية الكاملة….

بلغ الإمام القاسم من أئمة صنعاء أخبار فتاة من بنات اليمن حوت الفضل والعلم والأخلاق والجمال، فخطبها إلى والدها، وزفت إليه بكل حفاوة، وخرج الإمام لاستقبالها إلى خارج العاصمة، وعند مقابلتها في خيمتها سلمت عليه، فرد السلام، وسألها قائلاً أرجو أن لا تكون أتعبتكم الجمال أثناء السفر، فأجابت: لا أذم العيس.. وعند هذا الجواب أخذ الإمام الطرب فتواجد جذلاً، وقد كان استشهادها من قصيدة ابن النحاس، حيث يقول:

باب ساجي الطرف والشوق يُلِّحُ/ والدجى إن يمض جنحٌ يأت جُنحُ

وكأن الشرق بابٌ مغلقٌ/ ما له غير طلوع الصبح فتحُ

لا تسل عن حال أرباب الهوى/ يا بن ودي ما لهذا الحال شرحُ

يوم منا الركب بالركب التقى/ وقضى حاجته الشوق الملحُ

لا أذم العيس للعيس يدٌ/ في تلاقينا وللأسفار نجح

قربت منا فمًا نحو فمٍ/ واعتنقنا فالتقى كشح وكشحُ

لقد نسي ذلك الإمام الجليل ملكه وعظمته ووقاره وجنده وغناه أمام ذلك الأدب المتدفق الذي تضوع شذاه، وفاحت روائحه، فأسكرته من غير شراب، وأنسته الدنيا بما فيها، وحقرت في نظره كل لذة دنيوية”.

وفي فصل الاعتماد على النفس، يقول:

“إن الغربيين يعتمدون على أنفسهم اعتمادًا كليًا؛ فترى أفراد العائلة كل مسؤول عن نفسه متى بلغ سن الشباب، ويكاد الرجل لا يكون مسؤولاً حتى عن زوجته وابنته الشابة؛ لأن كل واحدة منهن في استطاعتها أن تعتني بأمورها الخاصة، وتعمل للقيام بأود نفسها، ولنظام الحكومة أثر كبير في بلوغ هذه الغاية”. 

ثم يقارن الأسرة العربية بها، فيقول: “نجد أن العائلة العربية المؤلفة من 15 عضوًا فيها الوالد والأم والأولاد والبنات والأقارب جميعهم يعتمدون على فرد واحد هو رأس تلك العائلة عادة، فإذا مات تشتت شمل هذه العائلة، وذهبت بها عاديات الدهر، وتدهورت في بؤر الفساد، وذهبت تتكفف أيدي الناس؛ لأن أفرادها لم يتعودوا الاعتماد على أنفسهم…، وإذا ما أصاب ذلك الرجل تغير في أسباب رزقه، أو نكبة مالية أفقرته رأيت تلك العائلة التي يرأسها تسقط إلى هاوية الفساد، وعدن حافلة بمثل هذه العائلات، أما الأوروبي الذي لا يعتمد على أحد من أهله وذويه إلا في النادر، فإنه يسافر ويغامر، وقد يموت ولا يغير ذلك شيئًا في حالة عائلته ولا تتعطل مصالحها”.

ويقول: “إن التواكل جر على الشرق كل بلاء، فإن رب العائلة في الشرق لا يؤمل أن ينفك عن عائلته المعتمدة عليه قيد شبر، بينما الغربي يخترق القفار، ويقطع الربع الخالي ويتبختر بين طبقات الأثير، ويحاول السفر إلى القمر والمريخ ليفوز ويعود بالغنى الوافر إلى وطنه، وقد لا يعطي لأهله منه شيئًا بيد أنه عرف عن الغربيين الكرم الحاتمي في سبيل المصالح العامة، وهاك روكلفر يقدم 100 مليون جنيه للأعمال الخيرية، بينما هو لم يعطَ ابنته عند زواجها سوى 10 آلاف جنيه، وتفضيل الغربي للمصالح العامة على المصالح الخاصة مبني على أساس مكين، ونظرية فلسفية بعيدة الغور وضعها فيلسوف الإنسانية أرسطو طاليس القائل: إن أعظم الخير هو العائد على البشرية بأجمعها، فقد قال سيد الكائنات صلوات الله عليه: الخلق كلهم عيال الله، فأحبهم إليه أنفعهم لعياله”.

وفي فصل النظام والترتيب، يقول: “عرفت الأستاذ عطا حسين مثالاً للنظام والترتيب في جميع أعماله يعد العدة للسنة من أول يوم فيها، بل قبل حلولها بأسبوع، فيضع لنفسه برنامجًا يسير على جادته، وقلما يضطر إلى مخالفته، فيتمم عمل كل يوم في ذلك اليوم، غير تارك لليوم الآخر أي عمل من الأعمال التي يجب إتمامها في اليوم السابق، وهكذا عرفت الخواجة بيس العصامي الفرنسي، فإن تراكم الأشغال بين يديه لا يعيق قيامه بالألعاب الرياضية، وكثرة واجباته لا تمنعه عن ملاحظة مستخدميه، والسؤال عنهم، وفحص أشغالهم، وما ذلك إلا لأن الغربي تعود أن يضع كل شيء في محله، ويقوم بكل واجب في حينه، فإذا ما وصله خطاب وضعه في الملف المعد له عند وصوله، أما العربي اليمني وغير اليمني مثلاً، فإنه يجمع خطاباته التجارية خطابًا فوق خطاب، السنة إثر السنة، وإذا ما  جاء يوم الحاجة إلى أحدها تراه مضطرًّا إلى تقليب أوراقه، وفحصها ورقة ورقة منقبًا عن ضالته المنشودة بين الأوراق المكدسة بعد أن اختلط الحابل بالنابل، وهكذا يضيع وقته الثمين سدى”.

ويقول: “إن سر التقدم الغربي كائن في نظام تربية الناشئة وتهذيبها، وفي أساليب التعليم الحديثة التي قام بها يدعو إليها أمثال العلامة ديوي الأمريكي الشهير، وفي تعلم علوم الفلسفة النفسية أو كما يسميها بعضهم علم السلوك الإنساني التي آتت الإفرنج قوة الملاحظة ومعرفة مدارك الناس”.

ثم يقول: “سافرت مع أحد تجار حضرموت من بربرة إلى جقجقة من أعمال بلاد الصومال مسافة 450 ميلاً ذهابًا وإيابًا في وديان بين أشجار وسهول وحزون وحقول وقرى ومدن وبوادٍ، بين أشجار وأطيار وثمار وأزهار، وكان حضرة الرفيق يشرع بالنوم عند سفر السيارة حتى تصل إلى إحدى المحطات، ومتى استأنفنا السفر، استأنف النوم، ومتى وصلنا إلى مدينة جنح إلى الراحة، فلا يغادر مكانه إلا لينام في السيارة مرة أخرى، وهكذا دواليك، حتى عدنا إلى بربرة، والشيخ لم يعرف من رحلته سوى اسم مدينتين: هرفية، وجقجقة، واسم رجل واحد فقط في كل مدينة، ولم يستطع بعد الإياب أن يقول لنا: هل كانت الأرض زراعية، أم جرداء جبلية، أم رملية، وهذا هو حال جميع إخواننا من عرب وهنود وصينيين، فإنهم لا يكادون يعرفون بعد طول الغياب والاغتراب في أوروبا وأمريكا وإفريقيا وأستراليا وآسيا سوى اسم مارسيليا ولندن وهذه حقيقة واقعة”.

أقول: كان ذلك في السابق، أما في عصرنا الحالي، فإن الهند والصين فقد نهضتا، وأصبحتا في مقدمة الأمم الشرقية، فالهند اليوم لها إسهاماتها البارزة في مجال التكنولوجيا والمعلومات، أما الصين، فيعتبر اقتصادها ثاني اقتصاد في العالم. 

ثم قال: “سافرت في ذلك الزمن نفسه بعد رجوعي من جقجقة إلى مدينة برعو، وكان معنا تاجر وضابط من الإنجليز، وقد لاحظت أن التاجر الإنجليزي تمكن في بضع ساعات، رغم عجرفته وسوء خلقه، من تدوين أسماء المحلات التي مررنا بها، ودرس الأرض، وجبالها، وماءها، وأشجارها، وحيواناتها، ونظام معيشة أهلها، وأخذ صورًا عديدة للمناظر الطبيعية، وقبل تمام الرحلة، سمعته يكلم الصوماليين بلغتهم فتدبر”. 

وفي فصل الأسفار يقول: “أخبرني السيد علوي بن أبي بكر العطاس أن دكتورًا ألمانيًّا وصل إلى برهوت في حضرموت، فدخل في تلك المغاور، وتغلغل في أعماقها، رغم الاعتقاد السائد بين الحضارمة أن الشياطين تسكن هذا المحل، والأبالسة تكتنفه، وأنه مطلسم لا يدخله إنسان إلا ابتلعته المردة والعفاريت لقمة سائغة، ولكن الدكتور الألماني خريج الجامعات، وربيب الأكاديميات، المتشبع بالنظريات والحكمة والمنطق، لم تؤثر تلك الخزعبلات عليه؛ فولجه آمنًا مطمئنًّا، وعرف ما فيه، وبقي يجوس خلاله 6 ساعات متواليات، ثم خرج بعد أن ظن رفاقه الظنون، وكان التنابلة يعتقدون أن الجن أكلوه في ذلك الغار، ولكنه خرج مع خارطة تشرح هذا الأثر الطبيعي الذي لم يدخله أحد من أبناء حضرموت غير العلامة السيد محمد بن عقيل – رحمه الله- لأنه كان مثال الثبات والفهم والإدراك، لا تزعزعه خرافات الجاهلين، ولا تثبط عزمه قصص المخرفين”.

أقول: قد أحسن الأستاذ لقمان تصوير العلامة محمد بن عقيل، فقد كان ابن عقيل يتميز بحرية الرأي، والشجاعة في الدفاع عمّا يعتقد، وهذا الوصف ينطبق على توصيف العلامة مفتي حضرموت عبد الرحمن بن عبيد الله السقاف له، حيث قال عنه في كتابه “إدام القوت”، ص 839: “كان العلامة ابن عقيل قوي الإرادة، حمي الأنف، وجرى عليه امتحان بسنغافورة بجاوة، فما زل نعله ولا لان جانبه”.

وفي فصل المصالح العامة، يقول:

“طالما رأينا انكليزيين وفيين مخلصين صديقين، وقد احتدم الخصام بينهما على موائد البرلمان، وفي قاعات المجالس السياسية؛ لأنهما لم يتفقا في المبادئ، ولكنهما يعودان إلى الصفاء والوفاء بعد مغادرة تلك المجالس، بخلاف ما هو حاصل بين العلويين والإرشاديين في جاوا من التباغض والعداء، وبخلاف ما هو حاصل بين أهل المذاهب الإسلامية”.

هنا نكون قد أتينا على بعض مقتطفات من كتاب الأستاذ الجليل محمد علي لقمان، وقد سلط الضوء على كثير من أدواء الأمة العربية والإسلامية، فلعلنا ننتبه، ونصحو من سكرة الجهل، وغمرة الضلال، ونمضي في سبيل التقدم والرقي.   

*كاتب يمني.

   
 
إعلان

تعليقات