Accessibility links

إعلان

أ.د. محمد عبدالكريم المنصوب

تُعتبرُ مفاهيم النهايات من مواضيع الرياضيات المهمة، ولها تطبيقات واسعة في الكثير من المجالات التطبيقية المتقدِّمة كالفيزياء والفلك، ورغم أنني في الأساس خِرّيج رياضيات/ فيزياء في مرحلة البكالوريوس، حيث يُفترضُ أنْ أتحدّث عن هذا الموضوع من الجانب التخصصي، إلا أنني سأذهبُ بعيدًا في حديثي هنا، محاولاً وضْع مقاربة فلسفية حياتية أحببتُ أنْ أكتبَ شيئًا حولها، ومبدئيًّا فإنّ أسهل وأقرب وسيلة لتعريف النهاية على أنها نقطة أو لحظة زمنية لا يوجد ما بعدها، هكذا بكلّ بساطة، لكن المشكلة تقعُ في مسألة معرفة تلك النقطة أو اللحظة التي لا شيء بعدها، فلو أخذنا، على سبيل المثال، مسألة الموت، واعتبرنا أنّ لحظة موت شخص هي نهايته، فإننا سنقعُ في خطأ كبير؛ لِأنّ موت ذلك الشخص ليس في الحقيقة غير ابتداءً لحيوات أُخرى تحت التراب، أو في عوالم الروح، وتكون بالتالي مسـألة الموت ليست سوى مسألة انتقال إلى مستوى آخر أكثر منها نهاية أزلية فانية.

ويتجلى مفهوم النهاية في حياتنا عندما نتأمل في قضايا كقضايا البحث العلمي، فما أنْ يصل العلماء إلى نقطة أو نتيجة معيّنة، حتى تتفتح أمامهم نهايات أخرى يلهثون وراءها، وهذا في الحقيقة هو السّر وراء التطور السريع والمتلاحق في شتى المجالات وصنوف المعرفة، ولا يقتصرُ مفهوم النهايات على المجال العلمي التطبيقي، فحسب، بل إنه ينسحبُ ليشمل كلّ مناحي الحياة، بما فيها السياسية والاجتماعية والاقتصادية، فكلّ منعطف سياسي أو نهاية سياسية لطرف ما ليست سوى بداية لطرفٍ سياسي آخر، وكلّ قضية اجتماعية تقودُ عادة إلى فتح قضايا أخرى، وكلّ انتصار أو انهيار اقتصادي يقودُ إلى قضايا اقتصادية أخرى، وهكذا.. أيْ أنّ الحياة جميعها ليست سوى سلسلة لا متناهية من البدايات والنهايات، وأنه لا يوجد هناك نهاية مُطْلَقة في أيّ أمرٍ إنساني كان، وإذا ما ترسخت الفكرة عن النهايات في أذهاننا، فإنها لا شكّ ستساعدنا كثيرًا في النظر إلى الحياة بنظرة أكثر واقعية وتبصُّرًا وتفهُّمًا، وتجعلنا نؤمن أكثر بأنّ الحياة هي ما هي عليه، وما علينا سوى الرضوخ والاقتناع بأنها كما يجِبُ أنْ تكون، لا كما نُريدُ أنْ تكون. هذا لا يعني على الإطلاق ألّا نرسم في حياتنا نهايات معيّنة نسعى للوصول إليها، بل إنّ هذا ما يجبُ أنْ يكون عليه الأمر، لكن علينا في نفس الوقت أنْ نضع ونُجهّز أنفسنا ببدائل أخرى في حال لم تسعفنا الظروف في الوصول إلى تلك النهايات التي رسمناها، وهذا هو المعنى الحقيقي وراء اعتبار أنّ كلّ نهاية تقود إلى بداية، وأنّ على الإنسان الناضج المُضي قدمًا في حياته، متنقلاً بين نهاياته وبداياته بكلّ هدوء وقناعة، بما قد تأتي به الأقدار من نتائج حلوها ومرّها، وفقط على الإنسان أنْ يكون يقظًا في جعّل خبرات حياته التراكمية ركيزة أساسية، وعاملًا حاسمًا عند اختيار بداياته ونهاياته، حتى تتضاءل فُرَص الوقوع في أخطاء الممارسة الحياتية قدر الإمكان. وأرى، من وجهة نظري، أنّ الحياة ليست سوى فرصة كبيرة لا حدود لها أمام من يُمعِن النظر في أحوالها، فهي مدرسة إنسانية راقية المستوى والمحتوى، وبرامجها التعليمية لا حدود لتنوّعها وغِناها، فهي لا تفتأ تُقدّم لنا في كلّ لحظة من لحظاتها دروسًا وعظات ومواقف تغني عقولنا، وتُضيء بصائرنا، وتجعلنا نزداد قدرةً وإبداعًا على إدارة حياتنا بشكل أفضل يومًا وراء يوم، كما أنّ الحياة لن تكون أبدًا ممتعة وشيّقة مطلقًا، إلا من خلال ما يرافقها من بدايات ونهايات، فهي وقود الرحلة الإنسانية في جميع مراحلها ومساراتها، ومن خلالها تنتظمُ حركة الوجود كله، ويتسامى الإله في أبهى صوره.

   
 
إعلان

تعليقات