Accessibility links

إعلان

بلقيس محمد علوان*

إلى ما قبل 2014 كانت المؤشرات السكانية ومكامن الخلل والمشكلات في الوضع السكاني في اليمن على درجة كافية من الوضوح بالقدر الذي يمكن، بناءً عليه، رسم السياسات السكانية، وبالفعل السياسات السكانية كانت موجودة بسيناريوهاتها المختلفة، صحيح أن تنفيذها لم يكن بالقدر المطلوب وتعترضه الكثير من الصعوبات، ولكن كان هناك تحسنًا في بعض المؤشرات السكانية، ووفقًا لتقرير أعده المجلس الوطني للسكان 2014 شهدت الأوضاع السكانية في اليمن تغيرًا وتحسنًا في بعض المؤشرات الديموغرافية والصحية خلال السنوات السابقة لإعداد التقرير، حيث انخفض معدل النمو السكاني من 3.7 % عام 1994م إلى حوالي 3%، كما انخفض معدل الخصوبة من 7.7 طفل لكل امرأة عام 1991-1992م إلى حوالي 6 أطفال، وكذلك انخفض معدل الوفيات الخام ومعدل وفيات الأطفال من 11 حالة وفاة لكل ألف من السكان عام 1994م إلى 9 حالات وفاة لكل ألف، عام 2004م، ومن حوالي 100 حالة وفاة لكل ألف مولود حي إلى 79 حالة وفاة لكل ألف مولود حي بالنسبة للأطفال الرضع.

التوزيع السكاني

يقصد بالتوزيع السكاني والكثافة السكانية: متوسط عدد الأشخاص الذين يسكنون في منطقة أو مساحة جغرافية محددة، وتحسب على أساس عدد الأشخاص في كل كيلو متر مربع، ويتسم التوزيع السكاني للجمهورية اليمنية بالتشتت، إذ يتميز اليمن بامتداد جغرافي يتنوع بين الصحاري، والهضاب، والجبال، والسواحل، ولهذا التنوع الأثر البالغ والمباشر في التوزيع السكاني؛ حيث تؤثر التضاريس والتنوع المناخي لليمن في توزيع السكان على محافظات الجمهورية، ونتج عن ذلك تفاوت بين مدن كبيرة وصغيرة وقرى كثيرة في مختلف أنحاء اليمن، ومن المعروف أن التشتت السكاني يضاعف أمام الدولة صعوبة في إحكام السيطرة على المناطق المختلفة والنائية ويجعل من الصعب إيصال الخدمات من طرق ومرافق تعليمية وصحية واتصالات لهذا الكم الهائل من التجمعات السكانية المبعثرة، بسبب الكلفة الباهظة بالنظر لعدد السكان القليل الذي يستفيد من هذه الخدمة أو تلك، وخصوصًا مع وجود تجمعات سكانية لا تتجاوز بضعة مئات من السكان في مناطق نائية أو وعرة صعبة التضاريس.

في ظل الأوضاع الطبيعية واستقرار الدولة في ما يخص التوزيع السكاني والحضري الذي يقصد به توزيع السكان إلى ريف وحضر… تكون الملامح واضحة ومستقرة وتنمو بشكل تدريجي ولا يطرأ عليها تغيير جذري أو سريع، بينما من شأن كارثة طبيعية كزلزال أو فيضان، أو كارثة إنسانية كحرب أو صراع دامٍ أن تغيّر ملامح هذا التوزيع السكاني والحضري، وإلى ما قبل 2014 كان التوزيع السكاني في اليمن واضح المعالم، فوفقًا لتقرير حالة سكان اليمن 2012 الذي أعده المجلس الوطني للسكان وهو آخر وثيقة يمكن الاعتماد عليها قبل 2014، تتصدر مدينة تعز المرتبة الأولى في نسبة السكان 12.1% من إجمالي سكان الجمهورية اليمنية، تليها محافظة الحديدة بنسبة 11%، ثم محافظة إب بنسبة 10.7%، فأمانة العاصمة بنسبة 9%، ثم حجة وبعدها ذمار وبعدها حضرموت، وإجمالي سكان هذه المحافظات السبع 62.3%، أي ما يقارب ثلثيّ سكان اليمن، وأقل المحافظات من حيث السكان محافظة مأرب بنسبة 1.2%، والمهرة بنسبة 0.5%، وباقي المحافظات تعتبر متوسطة الحجم في نسبة السكان، وتتراوح نِسب سكانها بين 4.5% و2% من إجمالي سكان اليمن، أما في ما يتعلق بالكثافة السكانية والتي تعني نسبة السكان إلى المساحة فهناك محافظات فيها كثافة سكانية مرتفعة وهي أمانة العاصمة وعدن، ويصل عدد السكان فيها إلى 3348000، على مساحة لا تتجاوز 0.21% من إجمالي مساحة الجمهورية اليمنية، ومحافظات متوسطة الكثافة بالنسبة لمساحتها، وهي: (إب، تعز، ريمة، المحويت، حجة، ذمار، الضالع، عمران، الحديدة، صنعاء، البيضاء، صعدة، لحج)، وعدد سكانها يقارب الـ18 مليونًا على مساحة 20.84 من إجمالي مساحة الجمهورية اليمنية، بينما هناك محافظات قليلة الكثافة مثل (المهرة، حضرموت، شبوة، مأرب، الجوف، أبين) وعدد سكانها يقارب الـ 3.5 مليون نسمة، على مساحة 79% من إجمالي مساحة الجمهورية، وحتى إعداد هذا التقرير لم تكن سقطرى أُعلنت كمحافظة وكانت تتبع محافظة حضرموت إداريًّا، لكن تغييرًا طارئًا وسريعًا حدث على هذا التوزيع جراء الحرب، حيث استقبلت العديد من المدن أعدادًا كبيرة تتراوح بين عشرات الآلاف ومئات الآلاف والملايين من النازحين خلال ما يزيد عن السبع سنوات من الحرب والصراع المسلح.

منذ بداية الحرب في 2014 تسببت العمليات العسكرية في نزوح 4.3 مليون يمني داخليًّا حتى شهر مارس 2022، يعيش نحو 40% منهم في مواقع نزوح غير رسمية، ولا يحصلون على الخدمات الأساسية بشكل كافٍ، وفي كثير من الأحيان تكون تلك الخدمات غير موجودة وفقًا (للمرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان)، بينما يصرح (المجلس الأعلى لإدارة وتنسيق الشؤون الإنسانية والتعاون الدولي) في صنعاء بعدد يزيد عن 3 ملايين و800 ألف نازح في تقرير يوضح إحصائية النازحين حتى نوفمبر 2019، لكن هذه الأرقام ليست دقيقة بدرجة كافية؛ لأنها تحصي النازحين في مواقع ومخيمات الإيواء المخصصة، في حين لجأ كثير من النازحين إلى أقاربهم، وبمرور الوقت استقر كثير منهم في مساكن تخصهم بالإيجار بعيدًا عن مراكز ومقرات النازحين، وما يهمنا هنا الإشارة إلى أن هذا العدد الكبير من النازحين غيّر – فعلاً – في التوزيع السكاني للعديد من المدن مثل أمانة العاصمة وإب ومأرب، كما غيّر في توزيع السكان داخل بعض المدن مثل محافظة تعز التي ازدحمت فيها أطراف المدينة والقرى القريبة من المدينة وأصبحت مكتظة بالسكان والحركة التجارية النشطة، والعشوائية. 

بحسب المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين؛ فإن محافظة مأرب (شمال شرقي اليمن) هي المنطقة التي شهدت أعلى نسبة نزوح، وتشير بعض التقديرات إلى أكثر من 2.5 مليون نازح، وكما سبق فالمدينة ذات كثافة سكانية منخفضة وليست مؤهلة لاستقبال هذا العدد الكبير الذي يفوق عدد سكانها بأضعاف، رغم حركة البناء المتسارع التي تشهدها المدينة، لكن ذلك التسارع لا يمكن أن يؤمّن الاحتياجات الأساسية للسكان والنازحين معًا.

الآثار المترتبة على النزوح

تجد المحافظات التي استقبلت أعدادًا كبيرة من النازحين نفسها مطالبة بتوفير الخدمات والأساسيات لهؤلاء النازحين، لكننا نعرف أن الخدمات المتوفرة في كل محافظة حتى قبل الحرب لم تكن تفي باحتياجات سكان تلك المحافظات، مع الأخذ بعين الاعتبار أن الحرب أتت على كثير من الخدمات، فضلاً عن توقف عجلة البناء والتنمية منذ بداية الحرب، الأمر الذي أدى إلى مزيد من تدنّي مستوى المؤشرات السكانية في التعليم والصحة والإسكان، حيث يسكن الكثير من النازحين من أماكن تفتقد لأبسط الأساسيات سواء من يسكنون في مخيمات الإيواء، أو من يسكنون على نفقتهم، وقد شهد قطاع الإسكان ارتفاعًا غير مسبوق في الإيجار بنسبة تزيد عن 100% على الأقل في إب وأمانة العاصمة، وبقدر أكبر من ذلك في مأرب.

ثمة آثار أخرى تتمثل بانتشار أكبر للعشوائية، وانخفاض الدخل أو انعدامه بالنسبة لكثير من النازحين؛ مما جعلهم يعيشون في ظروف غاية في الصعوبة، تجبرهم على تقديم تنازلات كبيرة في أساسيات الحياة في الغذاء  والصحة العامة والصحة الإنجابية وحرمان الأبناء من التعليم، وانتشار الزواج المبكر للبنات، واتساع ظاهرة التسول، بسبب انعدام الأمن الغذائي وتنامي الفقر، وبناءً على عمليات تقييم أجرتها المفوضية السامية للاجئين، فإن 64% من العائلات النازحة ليس لديها مصادر دخل، ويكسب آخرون ما يعادل أقل من 50 دولارًا أمريكيًّا في الشهر لتغطية احتياجاتهم المعيشية، ولا يشكل الوضع صعوبة على النازحين فقط، وإنما على السكان أيضًا.

يتجاوز تأثير النزوح على التوزيع السكاني التأثير العددي زيادة ونقصانًا إلى تأثيرات اجتماعية وثقافية ونفسية يمكن ملاحظة الكثير منها بوضوح حاليًّا، ومنها ما هو منظور في المستقبل لعقود بعد توقف الحرب، البعض سيستقر في مكان نزوحه، والبعض سيعود إلى مناطق سكنه قبل النزوح، وفي كل الأحوال ستكون مرحلة النزوح محطة تحول فارقة في حياة الكثيرين، من الصعب تجاوز آثارها التي يجب أنْ تنال حقها في المعالجة في خطط وسياسات ما بعد الحرب.

*كاتبة وأكاديمية يمنية.

   
 
إعلان

تعليقات