Accessibility links

إعلان

قصة قصيرة

وجدي الأهدل*

صحَتْ (كفاية) قبل صلاة الفجر بساعة، اغتسلتْ بماء بارد، ثم قرأتْ من سورة النمل إلى أن حان موعد الصلاة.

غفتْ فوق السجادة، وجهدتْ أن تتذكر هل سلَّمتْ بعد التشهد الأخير أم لا. لقد تقطَّع نومها، بسبب الغارات الجوية وانقضاض الصواريخ على المنشآت القريبة من مسكنها.

نزلتْ إلى الشارع قبل موعد وصول حافلة الشركة بخمس دقائق، كانت تحمل معها في كيس نايلون شطائر محشوة بالجبن والمربى وثلاجة شاي بالحليب.

رفعتْ رأسها إلى السماء، ورأت سحبًا بيضاء متفرقة تشبه سربًا من الطيور، أجنحتها مضمومة، ونحتتْ لها الريح بمهارة رؤوس نسور بمناقير حادة. لمحتْ طيفًا يشع نورًا يرتع بين السحاب مثل طفل يلعب.. هل كان ملاكًا؟!

التقطتْ لهذا المشهد صورة بكاميرا هاتفها، وتشاء الأقدار أن تظل تلك الصورة الأخيرة لغزًا بعد مقتلها.. ذهبتْ إلى المصنع وعادتْ جثة محترقة، فلم يعد بإمكان أحد سؤالها عن سبب التقاط تلك الصورة، وما الذي أرادتْ أن تقوله للرب.

خلال الوقت الذي استغرقته الحافلة للوصول إلى المصنع، غمرها دفق من الأحاسيس لم تشعر بمثله من قبل أبدًا.. أدركتْ أننا لم نولد من أجل الصراع والتنافس وتحويل البشر إلى أعداء لنا، ولكن أتينا من أجل الانسجام مع الحياة والتكامل مع الآخرين، وأن الإنسان ليس سوى ضيف، عليه أن يُراعي آداب الضيافة، ثم يمضي بسلام.

كانت روحها تختلج بهذه المشاعر التي أشرقت من أعماقها، وودتْ لو أنها تجيد الكتابة بالقلم لتعبّر عنها، ولكنها لا تعلم أن الكلمات هي الأخرى تعجز عن وصف مشاعرها تمامًا.

اكتفت بشرب الشاي في استراحة الإفطار، ثم عادت للإشراف على نضج شرائح الشبس. فجأة فقدتْ القدرة على السمع، ورماها ضغط الانفجار عدة أمتار للخلف، ونجت بأعجوبة من زيت القلي الشديد الحرارة الذي سفح على الأرض. لقد هاجمت نسور الجو المصنع، وضربتْ بصاروخين الهنجر المجاور المخصص لتخزين كراتين الشبس.

دون تفكير ترك العمال مواقعهم وأرادوا الفرار من المصنع، لكن البوابة الموصدة احتجزتهم خلفها، وحدث صراخ وهياج واشتباك بالأيدي، فاضطر الحراس إلى إطلاق عيارات نارية في الهواء، ثم أُبلغوا بقرار الإدارة: من يخرج يُفصل، وعلى الجميع العودة للعمل فورًا.

قليلون خرجوا من البوابة، وعادت الأغلبية إلى مواقعها. وكانت (كفاية) من أولئك الذين اختاروا الموت بكرامة خيرًا من الموت جوعًا. وما هي إلا دقائق حتى قصفت الطائرات الحربية هناجر قلي البطاطس وأحالتها رمادًا.

تعرفوا على جثة (كفاية) من بين عشرات الجثث المتفحمة من خلال سلسلة حديدية، تتدلى منها علبة صغيرة جدًّا بداخلها مصحف لم يُعرف من أخذه، وأما جنينها الذي بلغ شهره السادس فقد انفصل عنها ولم تبقَ منه سوى جمجمة مهشمة.

 

*قاص وروائي يمني.

   
 
إعلان

تعليقات