في 17 سبتمبر الجاري، تحدث الرئيس دونالد ترامب عن التاريخ الأميركي في إدارة الأرشيف والوثائق القومية في واشنطن. واستنكر الرئيس في كلمته ما وصفه بـ«تلقين الجناح اليساري» لأطفال المدارس الأميركية الذي علمهم أن يكرهوا أميركا وتاريخها وتقاليدها. ثم اتهم الرئيس «اليسار بأنه حرف وشوه ودنس التاريخ الأميركي بالخداع والأضاليل والأكاذيب وعلم أطفالنا أننا قمنا على مبدأ القمع وليس الحرية». وتضمنت أهداف الرئيس إلقاء الضوء على الدور الذي لعبته العبودية والتخلص من شعوب أميركا الأصليين والغزو الاستعماري في بناء الأمة الأميركية.
ولتصحيح ما أشار إليه باعتباره «دعاية مسممة» جعلت الأميركيين «يفقدون الثقة في هويتنا وفي منطلقاتنا وما نؤمن به»، أعلن الرئيس عددا من الإجراءات لمعالجة هذه «الأزمة». فقد أقام لجنة اتحادية لدعم «الحقيقة في تاريخنا العظيم». وحظر على الوكالات الاتحادية تبني برامج تعالج عدم المساواة العرقية. وأصدر أمرا بإقامة حديقة قومية للأبطال الأميركيين لتكريم طائفة منتقاة من «أعظم الأميركيين». وهذا المسعى «لجعل التاريخ الأميركي عظيم مرة أخرى»، ليس خطأ فحسب بل يضر ببلادنا أيضا.
إنني أبلغ من العمر 74 عاما، ولذا، من المفترض أنني تعلمت التاريخ الأميركي عبر كتب مدرسية سبقت تلقين الجناح اليساري. فكتاب الدراسات الاجتماعية أثناء دراستي كان قصة أوروبية التمركز. والقصة التي تعلمناها بدأت بإنسان العصر الحجري في الكهوف في جنوب أوروبا. وقفز بنا الكتاب إلى اليونان القديمة والإمبراطورية الرومانية، ثم العصور المظلمة وعصر النهضة واكتشاف العالم الجديد وظهور الدول الأمم في أوروبا وميلاد أميركا والثورة الصناعية ثم الحربين العالميتين.
وليس لباقي العالم إلا القليل من الذكر.
وبدأ كتاب التاريخ الأميركي باكتشاف كولومبوس للعالم الجديد وانتقل إلى تجربة المستعمرات والتوسع غربا والحرب الأهلية ونمو الصناعة الأميركية و«الترحيب» بموجات المهاجرين إلى جزيرة إليس والحرب الأسبانية الأميركية والعالمية الأولى والكساد الكبير والحرب العالمية الثانية ويختتم بالحرب الباردة والانتصار الأميركي. ولا يأت ذكر لسكان أميركا الاصليين إلا في عيد الشكر الأول ثم أثناء التوسع غربا الذي تم فيه إخراجهم قسرا من بيوتهم في مسعى لا يكل لاستعمار القارة وتم تصويرهم على أنهم عقبة أمام مسعانا الذي كلفنا به الرب.
وأشار الكتاب إلى العبودية بالتأكيد، لكن باعتبارها سبب ثانوي للحرب الأهلية، فقد كان السبب الأساسي هو حقوق الولايات. وتم تصوير العبيد على أنهم كانوا يعيشون حياة سعيدة في المزارع وليس ضحايا مؤسسة مقيتة. لقد كان هذا تلقينا. وما لم نتعلمه أن هناك «مؤرخين جددا» أنفقوا الستين عاما الماضية يساعدوننا على الفهم بشكل أفضل. فقد أوضحوا الصورة بجعلنا ندرك مساهمات الصين في حضارة الغرب قبل مارك بولو. وعلمونا عن وحشية الحروب الصليبية والدور الذي لعبته الحضارة الإسلامية في تحفيز الفكر الذي أدى إلى عصر النهضة وعن حضارات أفريقية عظيمة عصف بها الغزو الاستعماري والدور الذي لعبه الاستعمار والجشع الاستعماري في تدمير التطور الطبيعي لدول في آسيا وأفريقيا ودور التنافس بين القوى الاستعمارية في إشعال الحرب العالمية الأولى.
ما لم نتعلمه بشأن التاريخ الأميركي ربما يملأ كتباً، وهذا ما فعله المؤرخون أنفسهم الذين أدانهم الرئيس. ومن هذه الروايات التي توصف بأنها محرفة، عرفنا أعمال الإبادة العرقية التي ارتكبت ضد السكان الأصليين لأميركا وشرور العبودية وإرثها، حتى بعد الغائها، والسياسات الحكومية القمعية التي قمعت السود في أميركا. وعلى الرغم من أن أميركا لا تريد أن ترى نفسها في الضوء نفسه الذي ترى فيه القوى الاستعمارية الأوروبية، لكن الجشع والغزو الأميركيين قادا إلى استعمار الجنوب الغربي واستخدام القوة العسكرية للسيطرة على موارد أميركا الوسطى والكاريبي، بل وحتى منطقة الهادي، لخدمة مصالح الشركات الأميركية. ونعلم الآن أنه رغم «الترحيب» بموجات المهاجرين الجدد، كان هناك تمييز دوما وجيل أو أكثر من الفقر والضيق.
وأخيرا، تعلمنا الآن أن هناك أبطالا كافحوا على مدار عصور، متحلين بالشجاعة والعزم، لتحدي الظلم وقاتلوا من أجل توسيع نطاق الحقوق لتشمل المهاجرين والعمال والسود والهسبانك والنساء. وتعلمنا أن هناك أصواتا شجاعة واجهت القصة الناقصة للتاريخ الأميركي وكافحت كي تكمل الصورة بالحقائق. وهؤلاء ليسوا ملقنين بل مؤرخين حقيقيين.
التاريخ، مثل الظلم، لا يصحح نفسه بنفسه، بل يتطلب عملا شاقا ومثابرة وتضحية. وكي نقدر الطريق الطويل الذي قطعناه والعراقيل التي تغلبنا عليها والعمل الذي لم ننجزه بعد، يتعين علينا النظر إلى التاريخ كما كان وإلى مشكلاتنا كما هي حقا. فتجميل الماضي لن يجعلنا أفضل. هناك مجد في التاريخ الأميركي، ليس في النسخ الرومانتيكية التي يروج لها الرئيس، لكن في مساعي شعبنا التي لا تكل لمواجهة وتصحيح ظلم وأهوال ماضينا والمضي قدما.