Accessibility links

إعلان
إعلان

عبدالباري طاهر*

للراحل الفقيد الشيخ سنان عبدالله أبو لحوم دور كبير في المسيرة الوطنية سلبًا وإيجابًا منذ منتصف أربعينيات القرن الماضي، فالوالد سنان كان من كبار نقايل إب، وكانت إب وتعز مركز المعارضة الوطنية، ولعبتْ كبار الأُسر والمشايخ دور البداية والريادة تحت تأثر عاملين أساسيين، الأول: ظلم الإمامة واستبدادها حدّ الطغيان، والعامل الثاني: تطورات العصر بعد الحربين الكونيتين، وبداية نهوض النشاط الصحفي والنقابي العمالي، ونشاط الأحزاب السياسية والمجتمع المدني في عدن، والمغتربين، والطلاب.

لم يكن سنان أبو لحوم بعيدًا عن نشاط المعارضة في إب برئاسة المؤرخ محمد بن علي الأكوع، والمتمثل بـ (جمعية الإصلاح)، والتي ضمتْ كبار الشخصيات في إب، وبعض كبار الأُسر، ومشايخ النقايل كبيت دماج، وأبو راس، ونعمان قايد راجح، وبيوت العلماء كأسرة الأكوع، الإرياني، الحداد، الدعيس، بهران، المصنف، الشويطر، العنسي، باسلامة، البعداني، محمد منصور الصنعاني، وكان لنزوح مطيع دماج إلى عدن، وأبو راس، وهما من كبار القبائل، ومشايخ ذو محمد في الجوف الأثر الكبير في فرار كوكبة من الأحرار كالنعمان، والزبيري، والموشكي، والفسيل، والشامي.

منذ أربعينيات القرن الماضي بدأ الخلاف يدبُّ بين الإمام يحيى رجل الدين شديد المحافظة حدّ التزمُّت، والمتمسك بحصر الإمامة في البطنين التي تحولت واختزلت إلى بروز أحمد على بقية الأبناء؛ ما نجمَ عنه اتساع دائرة المعارضة داخل الأسرة، وداخل الأسر الهاشمية الكبيرة، وداخل القضاة وكبار مشايخ النظام ركائز الإمامة.

كان سنان من أقطاب المشايخ الأكثر جنوحًا وميلاً لاستخدام القوة، عكس مطيع دماج الذي امتشقَ القلم بدلاً من السلاح، والأستاذ النعمان الذي اتجه للتعليم بدلاً من تشجيع الحركات الثورية.

لم تكن مواقف سنان معزولة عن تيار قوي وكبير في حركة المعارضة، وقد برزَ بعد تمرد خولان بصورة أقوى.

واضح منذ الاجتماعات الأولى في عدن، والتي حضرها قادة الحركة الوطنية الأم في المتوكلية اليمنية بروز خطين ونهجين، الأول ويضم الغالبية من الأحرار الفارِّين إلى عدن (الموشكي، الفسيل، الشامي)، وكانوا أميل إلى التغيير بالقوة، بينما كان النعمان ومعه الزبيري يدعون للإصلاح والعمل السياسي السلمي، والذي تجسد فيما بعد من خلال الصحيفة (صوت اليمن).

نهج التغيير بالقوة والكفاح السلمي الديمقراطي ظلا سائدين في الحياة السياسية حتى اليوم. وكما كانت الغالبية في أول اجتماع لقادة الأحرار اليمنيين في عدن عام 1944 تتبنى التغيير بالقوة، فقد ظل هذا النهج العنفي هو السائد في مسيرة الحياة الوطنية، بما في ذلك الأحزاب السياسية إسلامية أو قومية، وكان الصانع الأول لحركة الأحرار اليمنيين هو البطل التراجيدي والضحية لهذه المسيرة البائسة وحروب متسلسلة متناسلة تبدأ ولا تنتهي هي الثمرة المُرة لهذه المسيرة.

اندهشتُ عندما أعدتُ قراءة (حقائق ووثائق عشتها) المجلد الأول، وهي حقائق موثّقة، وبخط أصحابها، اندهشت من مقدرة الشيخ سنان على اكتساب هذا الكم الهائل من رجال القبائل وكبار المشايخ وزعماء الحركة الوطنية وقادة عسكريين، واكتساب ثقة بعض السلاطين في الجنوب كالهبيلي في بيحان، وفضل بن علي العبدلي، وكان له تأثير كبير في الشاعر الكبير أبي الأحرار محمد محمود الزبيري، والأستاذ محسن العيني، وعدد من قيادات الاتحاد اليمني امتداد حزب الأحرار اليمنيين.

كان سنان ذا همة ونشاط كبيرين، وكان الانتماء للقبيلة والتعويل عليها هو الأساس، وكان رهانه أن يأتي التغيير منها، ولم يكن يعوّل كثيرًا على النضال المدني والسياسي، ويشاركه كثير من الأحرار هذا التفكير.

لم يفاجأ سنان بالحدث العظيم ثورة الـ 26 سبتمبر، فهو رافد من أهم روافدها، وإنما فوجئ أنْ يأتي من الحلقة الصغيرة والحديثة، ثم أخذت الأحداث مسارًا مغايرًا ومختلفًا عن إرادة وتوقعات القوى التقليدية، سواءً الأحرار أو المعارضة غير المنظمة أو كبار المشايخ، وفي حين هبّت القوى الشعبية من مختلف مناطق اليمن لنصرة الثورة والجمهورية، وبالأخص من المدن والأرياف، انقسمتْ القبيلة على نفسها؛ فزعماء القبائل الذين كانوا في مواجهات مع الإمامة، وكانوا يريدون أنْ يكونوا هم البديل للإمامة، ومن ضمنهم مشايخ خولان كالغادر والزايدي (قادة تمرّد خولان) وجدوا أنفسهم أمام تغيير لم يشهدوه، وأمام ثورة شعبية تتجاوز تمردهم القبلي، والأدهى أنْ يكون عبدالله السلال المنحدر من قبائلهم، وابن الفحام من سوق الملح هو في رأس التغيير الجديد، ورغم أنّ الثورة قد أخرجتهم من السجون، وأعطتهم السلاح والمال، إلا أنّ الرفض للثورة والجمهورية كان هو الأساس، وبدأوا التمرد منذ الأسابيع الأولى للثورة.

المجلد الثاني من (حقائق ووثائق عشتها) يتناول الشيخ سنان الأيام الأولى للثورة، والانقسام في صنف القبائل، مشيدًا بدور أبناء المدن، وبالأخص أبناء عدن وإب وتعز في صدق الاندفاع لحماية الثورة والجمهورية، عائبًا على الحكم الثوري عدم تدريبهم في مواجهة قبائل تمتلكُ خبرة هائلة في القتال. (راجع ص 2043).

قاد الشيخ سنان معركة كبار مشايخ اليمن للخلاص من الأسرة المالكة بيت حميد الدين، وكان حريصًا على توحيد المشايخ المجمهرين والملكيين، ولكن كانت نقطة الضعف أنّ قبيلته بكيل فيها أكثر من رأس عكس حاشد الأقل عددًا، والموحدة من حول الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر؛ وهو ما أكسبه ثقة السعوديين، والأخطر أنه قد حُسِب على البعث بسبب انتماء إخوانه، وعلاقة النسب بينه وبين الأستاذ محسن العيني، ورغم صعود نجم الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر منذ مؤتمر خمر 1965، والبروز أكثر بعد الطائف 1966، إلا أنّ الشيخ سنان لقي حضورًا قويًّا أيضًا، خصوصًا بعد انقلاب الـ 5 من نوفمبر 1967 للدور البعثي في الانقلاب، ووجود قيادات عسكرية موالية.

ظل سنان أحد الفاعلين الأساسيين في مجرى الأحداث حتى حركة الـ 13 من يونيو 74، وكان سنان أحد أهم صُنّاعها.

عبّرتْ الحركة الوطنية عن بداية تراجُع في دور سنان والأحمر والمطري ومجاهد أبو شوارب. استعاد الأحمر الدور بعد مقتل إبراهيم الحمدي والغشمي، وتسيَّدَ الموقف السعودي بصورة حاسمة لتبرز صيغة الرئيس صالح وشيخ الرئيس الأحمر، وأُقصي الشيخ سنان، وتعرّضَ لمكائد عديدة لم يكن بعيدًا عنها صالح والأحمر.

اتجه الفقيد الكبير سنان أبو لحوم لمذكراته (الأربعة مجلدات)، والتي دوَّن فيها، ووثَّق لتفاصيل كثيرة تستحق أنْ تدرس، وميزة هذا الشيخ توثيقه لكلّ شيء من الرسائل المتبادلة والاتصالات، حتى التي تكشف دوره في توحيد القبيلة في مواجهة قوى الثورة والجمهورية. اللقاء مع قاسم منصر (المجلد 2، ص 273 و274 ) يُدلِّل أنّ المشايخ المجمهرين لا يختلفون في شيء مع رموز الحرب الملكية. ويقينًا فإنّ المشايخ في الجانبين الجمهوري والملكي كانوا أميل للسعودية منهم إلى مصر طوال سنوات الحرب من 62 وحتى انقلاب الـ 5 من نوفمبر 67، وربما في حمى الصراع الاجتماعي الاقتصادي الثقافي السياسي أدرك الشيوخ والقوى التقليدية أنّ خلافاتهما مع نظام الإمامة المتوكلية ثانوية، أما صراعها مع قوى الثورة والجمهورية فمصيري، ومن هنا بدأ التقارب مع القوى الثالثة وأنصار الإمامة، وكان الاشتراط الذي قبِل به الجميع، بما في ذلك الملك فيصل، هو استبعاد بيت حميد الدين، وهو ما تجلى منذ مؤتمر خمِر 1965، وحتى تحقيق المصالحة الوطنية عام 1970، وكان الشيخ سنان عبدالله أبو لحوم – يرحمه الله – في قلب المعركة.

هزيمة 67 فتحت شهية السعودية على الآخر، وأغرتها بكسر الثورة اليمنية بسلاح الملكيين، وكان القادة الملكيون، خصوصًا المحيطين بصنعاء قاسم منصر والغادر، واثقين من إسقاط صنعاء خلال أسابيع إنْ لم يكن أيامًا، وهذا ما قاله قاسم منصر للشيخ سنان.

كبار الضباط وكبار المشايخ وزعماء حزب الأحرار والقوى التقليدية كانوا غير واثقين من قدرة القوى الجديدة في الجيش والأمن والمقاومة الشعبية على الصمود والانتصار وهزيمة الملكيين. هرب كبار الضباط خارج البلد، ولاذَ كبار المشايخ بقبلهم، وانزاح كبار المسؤولين إلى المدن الآمنة.

صمدت القوى الجديدة: حركة القوميين العرب، والبعث، والناصريين، والتيار الماركسي، والمستقلين. كانت السعودية تريدُ استئصال الثورة والجمهورية من جذورها، وعودة القوى الملكية، بينما كانت القوى التقليدية تريدُ الخلاص من بيت حميد الدين، والإبقاء على طبيعة البنية القبلية والقيم البالية والعتيقة مع بعض الإصلاحات الشكلية التي لا تطالُ بنية المجتمع القديم. ومن خلال التواصل المستمر، وفي ذروة الحرب بين الجمهوريين والملكيين، كان التواصل والتفاهم قائمًا بين المشايخ المجمهرين والرموز الملكية، ويستطيع الشيخ سنان في حمى الحرب أنْ يتحرك بكامل الحرية في المناطق المميلكة، وربما بإمكان أكبر من المناطق الجمهورية في بعض الأحيان، أما الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر فبحكم علاقته بالسعودية كان مرجعًا للجميع.

ينسب للملك فيصل عند لقائه الوفد الجمهوري الذي استقبله بعد المصالحة الوطنية: “لو كنا عرفنا مرونتكم لما تعاملنا مع الملكيين” عندما يقرأ سرعة تبدل المواقف؛ فما إن انكسر الحصار على صنعاء، وتحقق الاستقلال في الجنوب، حتى تلاقي المجمهرين والمميلكين، وتم ضرب واعتقال وتصفية القوى الشابة التي حققت الانتصار، وتصالح الملكيين والجمهوريين لتبدأ الحرب، ولكن هذه المرة ضد الجنوب، وضد الأحزاب القومية واليسارية أبطال الانتصار ضد الملكيين والرجعية السعودية والاستعمار البريطاني في الجنوب.

*نقيب الصحافيين اليمنيين الأسبق

   
 
إعلان

تعليقات