Accessibility links

إبراهيم نصر الله في “حرب الكلب الثانية”: رؤية كابوسية للحرب ومآلاتها


إعلان

أحمد الأغبري
تغيّرت حياة الإنسان وساد التوحش وتجلت نتائج الحرب، هي نفسها دمار وخراب يشمل القيم والأخلاق والأفكار، فعلى الرغم من محو ذاكرة الإنسان ليسهل السيطرة عليه، وينسى (الحرب)، إلا أن الأخطاء تتكرر، ولا بد للتوحش والأنانية من أن يقودان – حتمًا – للحرب، والحرب – حتمًا – هي طريق للعودة لعهود سحيقة في الماضي.. ذلك ما تناولته رواية “حرب الكلب الثانية” للروائي والشاعر الأردني من أصل فلسطيني إبراهيم نصر الله الصادرة في العام 2016م، عن دار العربية للعلوم ناشرون، والفائزة بالجائزة العالمية للرواية العربية “بوكر” للعام 2018م.


مُدن المستقبل   

الكتابة في المستقبل ليست مهمة يسيرة، بل هي من الصعوبة بمكان، خاصة عندما تتعلق بالإنسان وانحلاله القيمي، وما أصبح عليه في بيئة يسودها الفساد بمختلف أشكاله؛ وهو ما عكسته الحياة في إحدى مُدن المستقبل، التي دارت فيها أحداث هذه الرواية، بعد أن شهد العالم تبدلات مناخية وتغيرات شملت كثيرًا من عناصر الحياة؛ فالشمس لم تعد تشرق، والحيوانات في حالة نفوق مستمر، والروائح الكريهة في كل مكان، والحياة في المدينة باتت تعتمد على التكنولوجيا في كل شيء وصولًا إلى استنساخ الأشباه بشكل مخيف، حيث التجأ العلماء للإفادة من إنجازات علم الاستنساخ “فاعتمدوا فكرة تكاثر الخلايا، أو التكاثر بالنسخ لتوفير الحاجات الضرورية لاستمرار الحياة. في وقت احتكرت فيه القوى الكبرى تقنيات الضوء، بحيث تجسدت الفكرة الأسطورية القديمة عن عالمي الظلام والنور. وفي ظل ضعف الحكومات تولت السيطرة على سير الحياة في البلاد وإدارة شؤونها مباشرة ما باتت تعرف باسم: القلاع” حسب الرواية.

أجواء من الخيال العلمي والفانتازيا العجائبية تغمر السرد في هذه الرواية، التي تبدأ أحداثها بانضمام عدد من دول العالم الثالث، كأنه يقصد بها البلدان العربية، إلى اتفاقية ترتكز على إلغاء الماضي والقضاء على ذاكرة الشعوب في محاولة لتجاوز إشكالية أن التاريخ يعيد نفسه؛ وبالتالي فإلغاء الماضي سيمنع الناس من العودة للحروب ” فلا أحد يعرف كيف يراكم العقل البشري مشاهد العنف ويجمعها يومًا بعد يوم إلى أن تصبح شرارات قاتلة قادرة على إشعال الحروب”، لكنهم نسوا أن البشر يكررون نفس الأخطاء – كما يقول نصر الله – وهنا تكمن المشكلة التي تفرغ مقولة “التاريخ يُعيد نفسه” من معناها.

يمكن القول إن الرواية تندرج في أدب الخيال العلمي، الذي يتناول عوامل مستقبل التغيّر والتحوّل في الحياة، لا سيما بعدما تسيطر جماعة من الناس على السلطة من خلال ما تعرف بـ(القلعة)؛ فيما يقاتل الناس من أجل البقاء على قيد الحياة مستخدمين تقنيات حديثة تلامس معظم أنشطة الحياة في تطور تقني وصل إلى مستوى من التحول حتى أصبح سببًا في اندلاع حرب الكلب الثانية، وهي حرب بين الأشخاص وأشباههم. 

تعالج الرواية آثار التحوّل في قيم البشر، وصولاً إلى أن الحيوانات بدأت في تقليد ما ساد البشر من تغير على صعيد التوحش والأنانية المفرطة؛ التي كانت سببًا في رواج ثقافة القتل، حتى أصبح عملاً يوميًّا يمارسه الناس لأتفه الأسباب، كما غابت قيم الوفاء، بما في ذلك الوفاء عند الكلاب، وهو الوضع الذي وصلت إليه الحياة قبل حرب الكلب، كما شاهدها بطل الرواية في فيلم يستعرض ما كانت عليه حياة الناس في الماضي، حيث وصل القتل إلى مستوى “قيام نائب باستخدام دبابة لقصف مجلس الأمة المنعقد بعد خلاف مع زميل له”. 


مقدمات الحرب

تلك كانت مقدمات الحرب؛ فرواج ثقافة القتل، كما سبقت الإشارة، كانت نتيجة منطقية لانحلال قيم البشر بعدما صاروا في مواجهة مصيرية مع الحياة. 

تحتاج الرواية إلى جهد غير يسير في فهم تصاعدية وتمدد خلفية الأحداث التي تتشكل على مسرحها السردي.

كان من المنطقي أن تندلع الحرب في تلك الأجواء؛ وكان من الطبيعي أن يتسبب كلب في اندلاع الحرب الأولى، ومن هنا جاءت تسميتها بحرب الكلب، أما كيف اندلعت؟ فكانت عندما باع رجل كلبه لرجل آخر دفع نصف قيمته، ووعد البائع أن يعطيه النصف الآخر في نهاية الشهر، وعندما حل الموعد لم يأتِ المشتري؛ فذهب إليه البائع ليذكره بالموعد، لكنه لم يستطع الإيفاء بالوعد؛ فأعطاه وعداً آخر بموعد آخر، لكن المفاجأة أن الكلب عندما رأى صاحبه البائع نبح عليه بشده وكأنه يريد أن يفتك به. وعند حلول الموعد الثاني ذهب البائع للمشتري فلم يجده فأخبرته زوجته أنه غير موجود، لكن الكلب نط من على السور، والتهم البائع؛ فأحضر أهل القتيل قتيلهم وجاءوا به إلى منزل المشتري؛ فاندلعت حرب تجاوزت الحي إلى الأحياء المجاورة، وتجاوزت المدينة إلى غيرها، وانتهت الحرب، وكان الكلب هو الناجي الوحيد من طرفي الصراع… فسُميت بحرب الكلب الأولى. 

 عقب تلك الحرب لجأت الحكومة، أو ما تعرف بـ(القلعة)، إلى تطبيق ما يعرف بإلغاء الماضي من عقول المواطنين بهدف إنشاء جيل جديد يسهل السيطرة عليه، ولا يعرف شيء عن حرب الكلب الأولى، وبالتالي لا يكون هناك إمكانية لأن تتكرر وفقًا لمقتضى أن التاريخ يعيد نفسه.


حرب الكلب الثانية

في غمرة الطفرة التكنولوجية التي عاشها الناس، حينها، كان إنجاز استنساخ الأشباه بين البشر مذهلاً، وذلك من خلال الدخول في فتحة جهاز والخروج من أخرى إنسانًا شبيهًا بمَن تريد، من خلال وضع صورة الأصل وتلقيمها الآلة؛ لتتولى تخريجك من الفتحة الأخرى صورة طبق الأصل وفق هيئة صاحب الصورة بكل تفاصيله… وهو ما قام به بطل الرواية (راشد) مستنسخًا أشباهًا لزوجته الجميلة (سلام)، حيث حول سكرتيرته لهيئة زوجته… بل إن بقاءك بجانب شخص ما لفترة طويلة سيحولك إلى شبيه له؛ كما كان حال سائق سيارة (راشد)، وكذلك جاره (الراصد الجوي) لدرجة أنه عاشر زوجة (راشد) دون أن تعلم أنه ليس زوجها إلا فيما بعد… لقد تسببت الأشباه بمشاكل كبيرة في المدينة وصولاً إلى أن كل شخص أصبح يريد أن يقتل شبيهه، وهنا اندلعت “حرب الكلب الثانية”؛ وبالتالي سقوط فكرة إلغاء الماضي؛ لأن البشر يكررون الأخطاء حتمًا.


البناء السردي

في البناء السردي للرواية اعتمد الكاتب على تواترية الحدث الصاعد والحدث النازل الذي يعود قليلاً ليفتح القناة لتدفق تفاصيل أخرى في مجرى الأحداث التي تتصاعد في سياق درامي تكثر فيه المفاجآت السردية بما لا يؤثر في سلاسة السرد، والذي كشف مدى وعي وذكاء الكاتب فيما اشتغل عليه، وما يريد الوصول إليه… فتناوله للاختراعات التكنولوجية يؤكد مدى إلمامه بتفاصيلها، بما يجعل القارئ لا يشعر بما يتناقض مع الأفكار والمعلومات، وهذا يدلل على أن الكاتب قد قرأ واستوعب من الاختراعات بما أعانه جيدًا على الكتابة عن مستقبلها، وما أصيح عليها حالها؛ فالكاتب كان يتعامل مع مدينة في المستقبل تعطلت فيها بعض إمكانات الطبيعة، وأصبح اعتماد البشر على التقنية التكنولوجية كثيرًا، وبشكل مذهل يلبي رغبة البشر في التوحش والاستحواذ والسيطرة، وهي ثقافة جديدة تبدّلت معها حياة البشر كثيرًا، وأصبحت السلطة أكثر هيمنة في ممارسة سطوتها على حياة المواطنين، حتى إن المستشفيات التي هي أكثر مجالات الخدمات الإنسانية رقيًّا إنسانيًّا قد انحرفت إلى اقتصاد يُثري من الموت من خلال (أسرّة الموتى)، أو ما أسمتهم الرواية (أسرى الأمل)، الذين صاروا مصدر دخل لا يضاهى للمستشفى الذي يديره الدكتور (راشد)، الذي بدأ حياته معارضًا للسلطة، وتعرض بسبب ذلك إلى الاعتقال والتعذيب، وهو سجين رأي، لكنه بعد خروجه من المعتقل تحول إلى مستثمر بارع في الإتجار بحيوات البشر، ذلك أنه قرر بعد خروجه من المعتقل أن يغيّر مسار حياته؛ فاقترب من الحكومة (القلعة) من خلال مصاهرة أحد الضباط الذين كانوا يعذبونه، وتزوج من (سلام)، وهي المصاهرة التي تمت الموافقة عليها من (القلعة) بعد أن اطمأنوا إلى أنه لا يُكن لهم شرًّا. بعد زواجه من شقيقة الضابط أُعجب بجمالها ورغب في أن يعمل استنساخًا لها؛ وهي الرغبة التي عادت للظهور عندما أعجب بسكرتيرته؛ فقرر أن يجري لها عملية استنساخ من خلال جهاز حديث؛ فسافر معها وأدخلها ذلك الجهاز الذي خرجت منه صورة طبق الأصل من (سلام).

ارتكزت الرواية على شخصية (راشد) في تجربته مع الاستنساخ حد التماثل الكلي بين الأصل والشبيه… وهو الذي تجاوز الاستنساخ بالتقنية إلى الاستنساخ بالعدوى؛ وكما سبقت الإشارة فالبقاء لفترة طويلة بجانب شخص ما يحولك إلى شبيه له، كما حصل مع الكثير، حتى أصبح (راشد) يشبه الضابط شقيق زوجته… وصولاً إلى ظهور شبيه للرئيس؛ وهو ما جعل السلطة تفرض حظر التحول، وأصبح الأشباه يبحثون عن الذين يشبهونهم ليقوموا بقتلهم، وهنا اشتعلت حرب الكلب الثانية… وهي الحرب التي أدت إلى سجن الدكتور (راشد) باعتبار أنه الشبيه وليس الأصل، ولم ينقذه من هذه المشكلة سوى صموده تحت التعذيب ليتأكد للضابط أنه (راشد) الأصل… وخلال التعذيب وعندما تتبدل الأمور كثيرًا يظهر فجأة الراصد الجوي على ظهر ناقة؛ فيخرج له راشد مرتديًا عمامة ضخمة وثوبًا أسود قائلاً: ” ثكلتكَ أمُّك يا ابن الغبراء، ما الذي أعادكَ إلينا؟”… وهنا نهاية تحمل الكثير من الدلالات التي تؤكد امتدادات الحرب الحتمية في المنطقة العربية إلى عهود سحيقة من الماضي.


الخطاب السردي

في الخطاب السردي حرص الكاتب أن تقول الرواية لقارئها إن الآثار والنتائج التي تخلفها الحروب واحدة، وإن البشر يكررون نفس الأخطاء… وإن الحرب لا تخلق سوى الدمار والعودة للماضي… كأنه يدلل إلى ما يمثله الماضي في الحروب والمأساة العربية.

اعتمدت الرواية على لغة تناسبت مع النمط السردي والاتجاه الذي سارت عليه، ومثلت تجربة متميزة وموازية لخصوصية البناء والخطاب السرديين؛ فاللغة اتكأت على وعي سردي ناضج، وهو ما ساعد الكاتب في تقديم عمل جدير بمناقشة واقع التفكير البشري في علاقته بالحرب، وهذا المستوى من السرد والمعالجة السردية ليس بغريب على كاتب هو شاعر ضليع وكاتب روائي متميز صدر له عديد من الروايات، فهو كان متنوعًا، وتجربته لها أكثر من لون إبداعي.

   
 
إعلان

تعليقات