Accessibility links

إعلان

وجدي الأهدل*

تدور أحداث مسرحية “العشاء الأخير”(1) للكاتب السوري وليد إخلاصي في قبو بمبنى الأمن الجنائي، خصص لاستضافة الموقوفين في زنزانتين متجاورتين. وفي هذا المكان البرزخ، بين الإفراج أو الإحالة إلى السجن المركزي، نتعرف على سبعة موقوفين من مختلف شرائح المجتمع، وكل واحد منهم يزعم أنه مظلوم.

وذلك القبو مكان موحش، يغرق في ظلام دامس أبدي، ووحدها الفئران تحظى فيه بحرية التنقل والعيش والحياة المرفهة الآمنة. كل السجناء يعانون من رعب الفئران ويتقززون منها، بما في ذلك المساعد أول (فرج) سجّان القبو الكهل الذي أفنى عمره في مطاردة الفئران دون جدوى، بل إن العذاب الذي ناله منها جعله يشعر بأنه هو الآخر مسجون، وأن القدر ظلمه أكثر من غيره، بسبب السنوات العشرين التي أمضاها مع الفئران والموقوفين في قبو مظلم مخنوق الهواء.

هكذا تخيل وليد إخلاصي الوطن.. فالوطن في هذه المسرحية ذات المناخ الكئيب ما هو إلا قبو بمبنى الأمن الجنائي، والمواطنون كلهم موقوفون إلى أن تبتُّ السلطات في أمرهم، فإما إلى جنة الإفراج، أو إلى جحيم السجون!

وكما يحدث في واقع المجتمعات العربية المعاصرة التي تحكمها أنظمة ديكتاتورية فإن ذوي النفوذ والمناصب العليا يستطيعون النجاة بجلودهم من العذاب، والإفلات من العقاب، إذ إن القانون في بلداننا العربية مُفصّل على الصغار فقط.

في منتصف مسرحية “العشاء الأخير” تظهر شخصية هامّة هي (أبو الفهد) وهو مقاول كبير وثري، وعندما يصدر أمر بإيقافه، فإن معارفه في السلطة يتوسطون له، فلا يكاد يمضي في القبو سوى ليلة واحدة، وفي اليوم التالي يُطلق سراحه على الفور. وفي هذه الليلة الوحيدة التي أمضاها (أبو الفهد) في القبو، نلحظ المعاملة الاستثنائية التي لقيها، فقد تم حشر الموقوفين الستة في زنزانة واحدة صغيرة، وأفردت لـ(أبو الفهد) زنزانة خاصة به وحده، ليستمتع فيها بوسائل الراحة، والحياة المرفهة والمأكل الطيب. طبعًا إيقاف شخصية تنتمي إلى الطبقة العليا المخملية مثل (أبو الفهد) هي غلطة، لن تكررها السلطة مرة أخرى.

ونلاحظ الاستخدام البديع للرمز ودلالاته الموحية عندما نكتشف ويا للغرابة أن الموقوف الوحيد الذي لم تؤذه الفئران هو (أبو الفهد)! ذلك لأنه يشبه الفئران في قدرته على الدخول والخروج من القبو بكل سهولة وحرية، وكأنه مالك المكان وصاحب الأمر والنهي فيه! وهو عقب الإفراج عنه يعود إلى القبو ليوزع على الموقوفين تمرًا فاخرًا من الدرجة الأولى.

إن وليد إخلاصي يرمز بالفئران إلى تلك النخب السياسية الفاسدة، وحليفتها الطبقة التجارية الطفيلية التي تنمو وتتكاثر في أكنافها، وينتج عن هذا المزيج المشؤوم أقلية سكانية مفرطة في الأنانية، تعبث بالأوطان وتأكل خيراتها بشراهة، وتُقلق راحة الإنسان وتُحيل حياته إلى كابوس وليل أبدي.

تقول إحدى شخصيات المسرحية عبارة ذات دلالة جوهرية حول المصير الذي آل إليه الوطن:

“شريف: والقبو يا إخوان، هو الوطن المفضل للقوارض والحشرات”(ص138).

إن مسرحية “العشاء الأخير” تدين الفساد المرموز إليه بالفئران، وتشير بإصبع الاتهام بطريقة غير مباشرة إلى السياسيين الفاسدين، وتحملهم مسؤولية بلاء الأوطان وانحدارها إلى الحضيض. حتى المساعد أول (فرج) ممثل السلطة القضائية يشكو بمرارة من الفئران:

“فرج: (يلاحق بعصاه شيئًا يتحرك، وقد بدا عصبيًّا) لن تفلت مني (يتعثر إلا أنه يتمالك نفسه) من يجرؤ على مملكتي. سأؤدب من يقترب. هذا قبوي ولن أسمح لكم بالظهور فيه مهما كان السبب. حيوانات مقرفة لا تعرف حرمة للمكان. القوارض اللعينة.. عشرون سنة وأنا ألاحقها فتزداد وتتوالد. هذه العصا تطارد وتقتل، والقوارض تتكاثر. فئران لعينة وجرذان خبيثة. لكن المساعد أول فرج لا يهدأ له بال إلا بملاحقتها”(ص15).

وعلى مدى الصفحات التالية يقدم المساعد أول (فرج) أوصافًا عن عالم الجرذان، وهذه الأوصاف بقليل من التأمل نجدها تنطبق أيضًا على العصابات التي تتحكم في السلطة والمال، بل هما عالمان متطابقان إلى حد بعيد:

“فرج: تعمل في الظلام، تخرب وتثير القرف وتعيش على النفايات (يلاحق شيئًا مرق من بين قدميه ليخرج ويعود بعد قليل) كدت أنال منها. كأن الجيل الجديد من هذه القوارض أتقن فن الهرب. هل يتلقى دروسًا تعلمه طرق الاختباء والتخفي. لقد بات لك يا فرج نوعان من القوارض، والثاني عصي. من يدري ما الذي يخفيه المستقبل؟ هل أصبح عالم القوارض هو السائد؟ القوارض تتوالد وتنتشر (مفكرًا) أنواع رمادية وأخرى سوداء وأنواع زئبقية لا تطولها عصا أو قانون”(ص18).

ونستشف من تعب المساعد أول (فرج) ويأسه من القضاء على الفئران والتخلص منها، إلماحًا إلى عجز السلطات القضائية في الدول العربية عن حل مشكلة الفساد، وضعفها في محاسبة الفاسدين وردعهم، وذلك بسبب غطاء الحماية الذي توفره لهم المنظومة السياسية. 

في مسرحية “العشاء الأخير” يُقدم وليد إخلاصي رؤية فنية ثاقبة، نابضة بالحياة، تعتمد على الرمزية العالية لمعالجة قضية شائكة، وهي اليوم قضية الساعة، وإذا كان وليد إخلاصي يهمس بها سرًّا في عمله المسرحي، فإن على الشعوب العربية تلقي هذه الإشارات والاستجابة لها، وأن تتداعى لملاحقة الفئران في كل مكان.. لكي يعلم المساعد أول (فرج) الذي يرمز إلى ضمير المجتمع أنه لم يعد وحيدًا، وأن الملايين سوف تنضم إليه لاستعادة سلطة القانون الضائعة.

———– 

(1) العشاء الأخير: وليد إخلاصي، مسرحية، منشورات وزارة الثقافة السورية، دمشق، 2004.

*روائي يمني.

   
 
إعلان

تعليقات