وجدي الأهدل*
في هذا العالم الواسع عدد لا يحصى من القصص والروايات تصدر سنويًا في آسيا وأفريقيا وأوروبا وأستراليا والأمريكتين، وبلغات شتى، وعبر وسائط متعددة، والأرقام في تصاعد، فالبشر على ما يبدو يزداد ارتباطهم بالأدب كلما ارتقوا درجات في سلم الحضارة.
هذا الاحتياج للأدب أعمق بكثير مما نظن، لكن ليس هذا ما نود التطرق إليه في هذا المقال، ولكن النظر إلى المهارات المطلوبة لإنجاز هذا (الأدب).
الموهبة الفطرية هي البداية بلا شك، لكن هناك استراتيجيات وتقنيات تجب معرفتهما للمضي قُدمًا في كتابة الأدب.
واحد من أفضل معلمي الكتابة الأدبية هو الروائي الأمريكي جاك بيكهام، أستاذ مادة الكتابة الإبداعية في جامعة أوكلاهوما، الذي ألَّف كتابًا قيّمًا عنوانه “أكثر 38 خطأ في الكتابة القصصية”، ترجمه للعربية صدقي عبدالله حطاب، وصدر عن دار العالم العربي، دبي، 2012.
نلاحظ من العنوان أنه يكرس تعليمه عكس التيار السائد والمساق المتوقع، فمن خلال خبرته التي تمتد لأكثر من ربع قرن في تدريس الكتابة الاحترافية، توصل إلى أن تلقين الطلاب افعل هذا وافعل ذاك قد لا يعطي النتيجة المرجوة، لأن الطالب قد ينفذ مثلًا الواجب المطلوب منه فيرسم خصائص الشخصية كما طُلب منه، ولكن مع ذلك تظل الشخصية ميتة لا حياة فيها.. وقِسْ على ذلك البناء والحبكة والوصف والحوار، إلخ.
لذلك ارتأى بيكهام أن أفضل طريقة لتعليم الكتابة الاحترافية هي توضيح الأخطاء وبسطها، فإذا تجنب الكاتب الشاب هذه الأخطاء الـ(38) كلها أو معظمها، فإنه قد وضع قدميه على أرض ثابتة، ويمكنه أن يبني ما يشاء من نصوص أدبية.
في المقدمة ذكر بيكهام أحد الأخطاء الشائعة – رغم أنه لم يُدرج هذا الخطأ ضمن قائمة الـ 38 – وهو أن يتلفَّت الكاتب إلى الخلف أثناء كتابته للمسودة الأولى من روايته، فهو يرى أن الصحيح متابعة الكتابة حتى آخر سطر، ثم بعد ذلك في المسودة الثانية يتم الالتفات إلى تلك العيوب والمشاكل والتناقضات لتسويتها.
هي نصيحة مهمة، ولعله لم يدرجها ضمن القائمة لعلمه أن هناك طائفة من الروائيين العظام لا يعملون بهذه الطريقة، وبالتالي لا يمكن أن يُعَدَّ تشذيب فصول العمل قبل اكتماله خطأ يُحاسب عليه الكاتب.
سوف أحاول التطرق إلى بعض الأخطاء التي أُلاحظ أن الأدباء الشباب يقعون فيها أكثر من غيرها، إذ لا يتسع المقام لذكرها كلها.
الخطأ رقم 1: “لا تصطنع المعاذير”. ربما هو كأستاذ جامعي عانى من تسويف طلابه في إنجاز واجباتهم الكتابية، لكنه أيضًا من خلال تجربة شخصية، ومن خلال احتكاكه بالوسط الثقافي، توصل إلى أن أكبر خطأ يقع فيه صاحب الموهبة هو تأجيل الكتابة بحجة كذا وكذا. الأعذار دائمًا متاحة، لذلك يجب الحذر من الاحتيال على الذات. وبيكهام نفسه هو مثال لقهر المعاذير والانضباط الكتابي، فقد أصدر أكثر من خمس وسبعين رواية، إضافة إلى كتب في مجالات أخرى.
الخطأ رقم 2: “لا تظن أنك لوذعي”. لاحظ بيكهام أن عددًا من الأدباء الشبان يحُول غرورهم دون نجاحهم في كتابة أيّ نص أدبي جيد. حسنًا، قد نتساءل ما وجه العلاقة؟ فمن الناحية النظرية يمكن لأديب مغرور أن يكتب أدبًا جيدًا، أليس كذلك؟ لكن بيكهام يشرح أن غرور المؤلف ينكشف سواءً أدرك ذلك أم لم يدرك في نصه الأدبي فيفسده. كيف يحدث ذلك؟ الفكرة أن المؤلف المغرور يحسب نفسه أذكى من القراء، وبناءً على هذه القناعة يبني استراتيجيته النصية.. ولأنه يرى نفسه فوق المستوى الفكري للقراء فإنه يصطنع هذا الوضع ليثبت لنفسه أولًا وللقراء ثانيًا أنه متفوق عليهم فكريًا، وتؤدي هذه الآفة إلى إنتاج نصوص أدبية رديئة.
لمعالجة هذه النزعة البطَّالة، يقترح بيكهام هذه النصائح:
“لا تكتب لقرائك بتعالٍ أبدًا، لا تفترض أن قارئك أقل ذكاءً منك، لا تسخر أبدًا من عمل منشور، لا تظن أن عدم رواج مؤلفاتك يرجع إلى أنها فوق مستوى القراء! هذا كلام فارغ، اهبط إلى مستوى القراء”.
الخطأ رقم 14: “لا تُلقِ مواعظ على قارئك”. أعتقد أن هذا الخطأ شائع في المستويات البدائية من الكتابة، وغالبًا يتخلص الأدباء من النبرة الوعظية في أعوامهم الأولى، خصوصًا إذا وجدوا التوجيه المناسب، لكن أحيانًا يظل هذا الخطأ يطل برأسه في هذا النص أو ذاك ويفسد بنتانة رائحته كل جماليات النص.
الخطأ رقم 20: “لا تفترض أنك تعرف. تيقن من المرجع”. يقع الأدباء المبتدئون في أخطاء كان يمكن إصلاحها لو أنْ عادوا إلى مراجع موثوقة، أو بحثوا عن صحة المعلومة من خلال تجربتهم الشخصية، مثل وصف الأماكن الجغرافية الواقعية، والشخصيات والأحداث التاريخية، وسوى ذلك من التفاصيل التي ترد في العمل الروائي.
يقول بيكهام: “إن خطأ في معلومة لا يجعلك تبدو أحمق فحسب، وإنما يستطيع أن يدمر مقروئيتك وعلاقتك بالمحرر”.
الخطأ رقم 26: “لا تقلق حول مسألة الوضوح”. هذا الخطأ يبدو غريبًا جدًا! ما لاحظه بيكهام وهو المتمرس في تعليم أجيال من طلاب الكتابة الإبداعية في أمريكا أنهم يخشون أن تبدو كتاباتهم واضحة أكثر مما ينبغي، أيّ أن تبدو ساذجة وبسيطة.. يُبدي المعلم تفهمًا لهذا القلق، ويعطي وصفة مناسبة للتخلص من هذا الخطأ، تتلخص في أن يتم إنجاز النص الأولي بوضوح، ثم في المسودة النهائية يتم حذف (التوضيحات) ليصل النص إلى يد القارئ أقل وضوحًا. وهذه وصفة فيها شيء من المجازفة، فليس كل مؤلف يمتلك هذا الإحساس الفني العالي بما يجب أن يظهر وبما يجب أن يختفي عن أنظار القراء. ما يرمي إليه بيكهام من ذكر هذا الخطأ رغم غرابته هو التشديد على أن المؤلف يجب أن يعرف نصه بوضوح شديد، لكن بالنسبة للقراء تلك مسألة مختلفة.
الخطأ رقم 30: “لا تعرض إنتاجك على الباخسين”. أيّ الأصدقاء العاديين وزملاء الكتابة والأقارب ونحوهم من المعارف، يشرح مقصده بقوله:
“وإذا أردت أن تشرك في عملك زوجتك أو صديقًا حميمًا فإن هذا شيء جميل. ولكن أن تسأل عضو نادٍ أو قريب أو صديق أن ينقد مخطوطتك فإن هذا مضيعة للوقت لسببين على الأقل: لن يكونوا أمناء؛ وهم عادة لا يعرفون على أية حال ما يفعلون”.
الخطأ رقم 31: “لا تتجاهل نصيحة أهل الحرفة”. وهذه النصيحة مرتبطة بسابقتها، فإذا كان على الكاتب الشاب تجنب مناقشة أعماله مع زملائه الهواة، فإن عليه من جهة أخرى أن يبحث عن خبير أدبي يُجيد تثمين النصوص الأدبية، ويُنزلها في منزلتها الصحيحة، وإذا تلقّى منه نصيحة معينة فلا ينبغي تجاهلها.
الخطأ رقم 32: “لا تلهث وراء السوق”. يتحدث بيكهام عن سوق الكتب في أمريكا، حيث حجم المبيعات يتجاوز مليارات الدولارات سنويًا، ومن الأمور العادية هناك أن يجني الكُتاب ملايين الدولارات إذا وصلت كتبهم إلى قوائم الأكثر مبيعًا. طبعًا نحن في الوطن العربي لا يوجد لدينا سوق للكتاب، ولا أدباء يحققون ثروات مليونية من مبيعات كتبهم، ولكن القصد العام هو ألا يلهث الأديب خلف المكسب المادي لا غير، ويمكن أن يقع الخطأ بالنسبة للأديب العربي الشاب عندما يلهث وراء الجوائز، ويسلق العمل بسرعة ليدرك المشاركة في هذه الجائزة أو تلك قبل أن يُغلق الباب.. بل إن هناك من يكتب لأجل الجائزة، ولولاها لما خطَّ حرفًا!
قبل أن أشرع في القراءة قلتُ في نفسي ماذا يستفيد المرء من قراءة كتاب يُعدد أخطاء الكتابة القصصية فقط؟! لكن بعد انتهائي من قراءته رأيت أن مؤلفه وُفِّق في طرحه، وقدّم زبدة معرفته الأكاديمية وخبرته الشخصية في هذا الكتاب الفريد من نوعه.
* روائي وكاتب يمني.
تعليقات