عبدالوهاب الحراسي*
فيلم (the goat life) من الأفلام القليلة التي تقوم قصتها على ظرف أساسي، هو بمثابة شرط تتقاسمه الفكرة وأفعال الشخصيات، وتتوقف عليه أحداث القصة.
وقد اختار الفيلم أن تكون اللغة وانعدام التواصل – وبدرجة ثانية العجز عن الاتصال – هو شرطه القاسي، الذي تم الإخلاص له حتى في أعلى درجات التوتر في قصة الفيلم: عن عامل هندي (نجيب) يصل إلى أحد مطارات السعودية، مع رفيقه الهندي (حكيم)، ويتعرضا للخطف، والإخفاء القسري في الصحراء، من قِبل مواطن سعودي، يرغمهما على العمل، بل يتم استعبادهما في ظروف قاسية لرعي الأغنام والجِمال ثلاث سنوات، تنتهي بمحاولتهما الهرب، مع عامل أفريقي (إبراهيم).. وفي رحلة الهروب التي دامت أكثر من يومين في الصحراء، يموت (حكيم) ثم يختفي (إبراهيم) وينجو (نجيب).
حرص المخرج على إظهار بعض المشاهد التي تشكل ذرى درامية، كمثل:
– وصول المخطوف إلى معقل الخاطف.. ليجد هنديًا مخطوفًا منذ سنوات، وسيرى – لاحقًا – جثته المتيبسة تحت الرمال كأنه كلب.
– إظهار ديانة المختطف بأنه مسلم ليؤكد بأن ذلك لم يشفع له ويمنع عنه سوء المعاملة، فنشاهد، في الدقيقة 46، الخاطف (الكفيل) وهو يمنع، بعنف، خطيفه المسلم نجيب من أن يستنجي بالماء بعد تبوله، كأنه ذلك المشرك القديم الذي كان يعذب عبيده في مكة. وأن المخطوف (العبد) هو على العكس من ذلك تمامًا.
– أن الصحراء تسم أخلاق أهلها بالفضاضة والغلظة والقسوة.. نتأكد من تلك الحقيقة عندما يستحضر المخطوف الرقة والحنان واللطف والحب الذي وهبه المكان السابق لحياته حيث النهر والغابة والخضار. استمر ذلك حتى الدقيقة 57.
لقد لاحظ كاتب هذه السطور ثلاثة أخطاء في الفيلم بدت له مهمة:
الخطأ الأول:
هو خطأ بنيوي ألحق ضررًا بالغًا بالفيلم إلى حد قد يخرجه من صنف “البقاء على قيد الحياة” إلى صنف ” البروباغندا ” وهو خطأ كان الفيلم في غنى عنه، وكان يمكن تحاشيه بكل يسر. وقد حدث باكرًا.. في الدقائق الأولى من العرض في مشهد الانتظار خارج صالة المطار حين دار حوار بين الوافدين (نجيب وحكيم) أظهرت السترجة عبارات عنصرية ضد العرب: “قذرون يتعطرون بالعرق والبول” “إن العطور، والزيوت العطرية تصنع من عرق العرب وأبوالهم”.. لذلك فهم “سيتحممون بالماء المعطر” وأن أول عربي خاطبهما، كان فضًا، لم يستحم منذ زمن طويل.
في ميزان القدح ليس أشد تعبيرًا عن الاحتقار والاشمئزاز والكراهية والنفور من قولك بأن هذا الشخص نتن أو رائحته كريهة. لأن ذلك يعني أنك لا يمكنك أن تتحمل القرب منه أكثر من خمس ثوان، فيما يمكن لأي إنسان يجلس لساعات أمام شخص قبيح ودميم، مشوه، وهو يراوغ النظر إليه، ويحاول أن لا يطيل التحديق فيه كي لا يبدو وقحًا.
لقد صرح من سيصبح بطل الفيلم (نجيب) ما قاله عن العرب هي قناعته. بهذه البداية يمكن القول بأن البطل لم يأتِ لخوض قصته، بل جعل قصته خوضًا في التدليل على قناعته، وأغلب الظن أن قناعته لم يحصل على تصورها من مجتمعه.
إن من الصورة النمطية عن العرب لدى الغرب: بأنه فض وقاسٍ وقاطع طريق، بربري وقاتل ونخاس وخاطف، بلا رحمة، وشرير.. تلك الصورة عمرها طويل قد يصل إلى العصور الوسطى، لذلك نراها في أدبيات العصر الحديث لكل أوروبا. وأدعي أن (الماعز) قادم من تلك الصورة أو مخاطب بها، أو الأمرين معًا.
إن ذلك الخطأ جعل من بطل الفيلم (نجيب) غازيًا للعرب، وهازمًا لهم بعذاباته.
الخطأ الثاني:
هو خطأ فني غير مبرر يتعلق بالموسيقى التصويرية التي تضمنت أربع أغنيات، والأغنية الرابعة هي المعنية بالخطأ، حيث دامت دقيقة و17 ثانية، لترافق مشهد النهك والحزن واليأس من النجاة، بعد موت رفيق رحلته (حكيم)؛ لقد كانت كلمات الأغنية عربية.. نوع من الأداء الشامي لموال أو تهويدة، لا صلة لها بالمشهد، ولا صلة بينها وبين السترجة المزامنة، والتي بدورها كانت كلمات مناجاة مناسبة للمشهد.
لا ندري كيف حدث ذلك! وربما سمعها المخرج أو المصمم الموسيقي وأعجب بعمق أدائها ونغمها الحزين.
الخطأ البديع:
حدث هذا الخطأ في مشهد مخفر الشرطة، حيث يظهر العشرات من الهنود محتجزين، وبينهم المخطوف (بطل الفيلم).. وهم ينفذون أمر الاصطفاف إلى جانبي رواق الحجز.
في هذا الجزء، تحديدًا، تصل دراما الفيلم إلى ذروتها.. في واقعة منفلتة، لا يمكن توقعها دراميًا وسياقيًا في منطق واقعية الفيلم ومنطق المشاهد.
لقد حضر خاطف نجيب.. دخل الرواق واثقًا، جريئًا، وقويًا.. يحدق في الوجوه بحثًا عن أسيره.. وبعد ان يتعرف عليه يقول له: “هربت مني هاا.. والله لو انت على كفالتي لأرجعك الصحراء”. قال ذلك بصوت بدوي ثقيل، وغادر بخطوات أثقل. غادر إلى الأبد (!!!)
هل جاء، فقط، ليدلي بتصريح؟ لكن لمن؟
إنه ليس للمخطوف، بالرغم من أن الكلام كان موجهًا له بشكل مباشر، وعلى إثره، بثانيتين، أفهمه عامل هندي من قوميته، أن اللعبة انتهت.
إن واقعة حضور الخاطف.. منفلتة فعلاً، منفلتة وخارجة عن درامية الفيلم الواقعية، وذلك استنادًا إلى مشهدين:
الأول: في مشهد سريع لسيارة الخاطف وهي تغادر المطار، نراه يأمر مخطوفيه بالهدوء، والانخفاض، قائلاً: “لا تمسكنا الشرطة”؛ ما يعني أنه ليس بحاجة لحدوث أي عارض يكشف لشرطة المخفر أن بين يديه نهاية جريمة خطف، وبحضور المجرم وضحيته.
الثاني: بعد وأثناء مشهد طويل هو مشهد رحلة الهروب في الصحراء (وقد استغرقت في قصة الفيلم أكثر من يومين) كان ينبغي على الخاطف، وهو العليم بالصحراء، أن يرجح هلاك صيده (مخطوفه).
هذان السببان كافيان لعدم حصول هذا المشهد.
إن ثمة ضرورة من نوع آخر لتصوير مشهد حضور الخاطف.
الحقيقة أن ذلك المشهد، بسترجته، لم يكن موجهًا للمخطوف، بل للمشاهد.. لملايين المشاهدين.. إنه يصرخ، في وجه الجميع، من داخل المؤسسة التي تطبق قانون الكفالة !! قائلاً بالحال والمقال معًا:
“أنا قادر، ومتمكن.. وانتم في منزلة الحيوانات، بل أدنى منها.. إن شياتي وجمالي أغلى منكم بكثير، وقيمتكم لا تتعدى خدمتكم لها. وحين تفعلون ذلك لا تستحقون شربة واحدة من لبنها.. هذه هي سلطتي وفرصي في الحصول عليكم لخدمتي حتى الموت، ودون أجر”.
لا شك أن المخرج، حين تجاوز هذا الخطأ، كان يعي، فلسفيًا، حقيقة أن الشعور أقوى وأعمق من العقل..
لقد نشد المخرج (وهو كاتب السيناريو) من الجمهور، بهذا المشهد، مشاعر الاحتقار والكراهية والغضب والنقمة من نظام خلق مثل هذا النذل المتوحش (أبدع دوره الفنان طالب البلوشي) ولا أتردد بالقول إنه قد حصل عليها من معظم المشاهدين.
ورسالة الفيلم هي: أن نظام الكفيل لا يجعل من المواطنين مجرمين وحسب، بل يحميهم أيضًا.
عن رد الفعل على الفيلم
تصدر الفيلم عبارة “عن قصة حقيقية” ليكن.. وليكن الفيلم تعرية لتفاصيل نظام العبودية (الكفيل) من قسوة وظلم وفضاضة وتعالٍ واستغلال وابتزاز وتسيّد وغطرسة.. وأن كل تلك التفاصيل سمات مرضية طالت المجتمع السعودي بأسره منذ عقود، وأن قوانين الحكومة السعودية تدعم وتحمي تلك الأمراض في شعبها.
ليكن كل ذلك حقيقة، وتدعمها مئات الوقائع وآلاف الحوادث التي عانى منها ملايين الوافدين والعمالة العربية والآسيوية.
ولا ينبغي على المجتمع السعودي ولا نظام حكمه وحكومته أن يشعر بالغضب لأنهم مستهدفون، وبأنهم يتعرضون لحملة كراهية؛ فكل ذلك حيل دفاعية تنكر وتخفي مشاعر حقيقية مختلفة مثل الشعور بالخجل والذنب والندم.. ولعمري أن هذه المشاعر هي ما تجعل من الإنسان إنسانًا. وعليه يجب على الجميع في السعودية، بدلاً عن أن تتصدر نخبه الثقافية والسياسية حملة شجب ورفض وإدانة للفيلم، يجب عليهم الاعتراف بمشاعرهم الحقيقية، واعتبار أن كل عمل فني أو فكري هو نقد وكشف لمشكلاتهم وعيوبهم وأن من قام بذلك قد خدمهم (ولو كان يقصد الإساءة) ويستحق الشكر عليه. ألم يقل الملك سلمان في خطاب توليه الملك “… ورحم الله من أهدى إلي عيوبي”!!
كما ينبغي أن نتذكر وقائع إعلامية سعودية، تمت قبل سنتين من فيلم الماعز، تلك الوقائع كانت عرضة لنقاشات وحملات إعلامية سعودية 100% تناولت حقوق العامل الوافد من ساعات عمل وإجازات وتأمين وسكن صحيين، وحمايته من الاستغلال، وإعادة النظر في نظام الكفالة بتغييره أو حتى إلغائه، وضرورة تماشي علاقة المخدوم بخادمه مع حقوق الإنسان، والقانون الدولي الإنساني.
وقد رافق ذلك، حتى اليوم، مشاركة شعبية في السوشل ميديا في نشر قصص تثمن العلاقة العادلة والطيبة بين الكفيل ومكفوله، وتجعل من ذلك قيمة محلية، وانتشرت الكثير من المقاطع التي تظهر العامل وهو يصرخ ويتمرد ويعارض وينتقد ويسخر من كفيله، فيما الكفيل يقابل ذلك بالتقبل والضحك والتحاور.
إنها باختصار تحاول أن تؤكد أن علاقة الكفيل بخادمه أفقية، وأن تلك العلاقة هي قيمة يتمتع بها المخدوم.
* أديب وكاتب يمني.
تعليقات