وجدي الأهدل*
دُعيتُ لأمسية في صالون نون الثقافي، وهي مؤسسة ثقافية نسائية، لديهم مكتبة تغطي جميع فروع المعرفة، وقاعات قراءة، وصالة مخصصة لنشاط الأطفال، وهناك رأيتُ منصة خاصة بمسرح الدمى لفتتْ انتباهي، فأخبروني أن المنصة تبرعت بها القاصة مها ناجي صلاح، وأنها تقدم كل أسبوعين مسرحية دمى للأطفال، قالوا إن هذه من الأنشطة المحببة جدًا لأطفال الحي وتمتلئ الصالة بهم أوقات العرض.
كانت مها تؤدي هذه المسرحيات دون مقابل، متبرعة بالجهد والوقت من أجل إدخال البهجة إلى قلوب الأطفال، وكان مسرح الدمى جزءًا بسيطًا من أنشطتها الكثيرة الموجهة للأطفال قبل وفاتها.
لم تكن مها تبحث عن المال ولا تأبه بالطرق المؤدية إليه، إذ كانت رسالتها في الحياة تسخير ما تملك من مال ووقت لأجل الأطفال، ولقد تفانت في سبيل نشر رسالتها إلى حد إنكار الذات، والتضحية بمشروعها الأدبي الشخصي من أجل تغطية النقص الفادح في الاهتمام بالصغار.
عرفتُ مها في أواخر عقد التسعينيات، وكانت من مؤسسي نادي القصة – إلمقه، وحينها بدأت بنشر أولى قصصها القصيرة في الصحف والمجلات، ولمع اسمها بسرعة كقاصة تمتلك لغة جزلة وأسلوبًا أدبيًا يمتاز بالتكثيف وجودة السرد، وتقدمت حثيثًا لتحجز لها مكانة مرموقة ضمن جيل التسعينيات الأدبي.
كانت مها عضوًا فاعلًا في نادي القصة، وساهمت في جهود تأسيس النادي وتنظيم مهرجانه الأول والثاني، وبدون أيّ مَنٍّ دفعت من جيبها متى ظهرت مصروفات لم تكن في الحسبان، فلم تكن من النوع الذي يهتم للمال ويَغْتَمُ لصرفه.
مع بدايات الألفية الجديدة استقلت مها بمشروعها الثقافي الخاص، وأنشأت مؤسسة إبحار للطفولة والإبداع، وهو المشروع الذي ظهر فيه شغفها الشديد بعالم الأطفال الساحر، ومن خلاله أشبعتْ حبها العظيم لهذه المخلوقات الملائكية.
تأسست مؤسسة إبحار للطفولة والإبداع عام 2004، وتوقفت عن النشاط عام 2016 بسبب الحرب، وخلال 12 عامًا استفاد آلاف الأطفال من أنشطة إبحار، إن لم يكن عشرات الآلاف، من خلال توفير أماكن للرسم وصالات لقراءة الحكايات وتنمية الهوايات وإبراز المواهب ودعمها، ومسرح الدمى، ومكتبة متخصصة بأدب الطفل وإصدار مجلة (قزح) الخاصة بالطفل.
طوال السنوات الماضية كنت ألتقي بين حين وآخر شابًا موهوبًا في مجال ما أو ناجحًا في مهنة ما، فيأتي على ذكر مها ناجي صلاح وأنه كان من رواد مؤسسة إبحار للطفولة.. هذا شيء لا يصدق؛ أن بإمكان امرأة يمنية واحدة أن تصنع جيلًا كاملًا من الشابات والشبان الناجحين.
لا يوجد أيّ واحد من الجيل الشاب في اليمن يمكن أن يذكر وزارة الثقافة بخير، أو أنه مدين لها بالفضل في تكوينه الثقافي في الصغر، وهذا يدل على فشل القطاع العام المزمن في تحقيق الأدوار المطلوبة منه، وأن الميزانيات التي تصرف لا تذهب إلى طريقها الصحيح.
كانت مها ناجي صلاح موهوبة بشكل خارق في التخاطب مع الأطفال والسيطرة عليهم وكسب قلوبهم في أيّ وسط توجد فيه؛ كانت لديها كاريزما في نبرة صوتها وملامح وجهها البريء الطفولي تجعل الأطفال ينجذبون إليها مسحورين كأنها أمٌ لهم جميعًا.
لم يسبق لي في حياتي مطلقًا أن شاهدت أحدًا يتمكن من تطويع الأطفال المشاغبين وأولئك العنيدين وإقناعهم بالسلوك الحسن كما كانت تفعل، وحينها فهمتُ أن أساليبنا التربوية خاطئة كلها، وأن أسلوب مها التربوي الذي يبدو أنها طورته من خلال عملها في مؤسستها والاحتكاك اليومي مع الأطفال هو الأسلوب الصحيح، وهو أسلوب يخلو من الزجر والتهديد والوعيد، ويقوم على التحدث مع الطفل بلغة يفهمها ويحبها حتى يقتنع بصواب الفكرة من تلقاء نفسه.
بلغ أدب الطفل المكتوب في اليمن مستوىً متقدمًا بفضل المساهمات الأدبية لمها، وأصبح هذا النوع الأدبي الذي يجد كبار الأدباء عسرًا في كتابته، متجاوزًا لنطاقه المحلي، وحاضرًا في المشهد العربي ومتاحًا للأطفال من المغرب إلى الخليج، وذلك من خلال قصصها المنشورة في المجلات العربية الموجهة للأطفال، وكتابها القصصي “كيف أنام دون حكاية؟” الصادر عن دار حدائق ببيروت عام 2014، وكتابها المسرحي “الشجرة تثمر بسكويتًا” الصادر عن مؤسسة إبحار للطفولة والإبداع بصنعاء عام 2015، ونصها القصصي “خطوط شذى” الصادر عن دار البنان ببيروت عام 2022، ونص في كتاب مشترك عنوانه “منار وأمنية في معرض الكتاب” الصادر عن جمعية معرض صفاقس الدولية لكتاب الطفل تونس 2008.
مها ناجي صلاح هي عضو في اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين، نالت العديد من الجوائز المحلية والعربية، صدرت لها عام 2010 مجموعة قصصية موسومة بـ”كانت تأخذني التفاصيل” عن دار أزمنة الأردنية، وحظيت المجموعة فور صدورها بثناء النقاد وإعجاب القراء، ودلت قصص المجموعة على ما تمتاز به من قدرات أدبية لافتة، وأن تريثها في النشر قرابة عقد ونصف منذ ظهرت على الساحة الأدبية عكس نفسه على المستوى الفني للقصص، فإذا بالمتلقي أمام أعمال أدبية ناضجة فنيًا ومكتوبة بحرفية عالية.
وفي عام 2022 صدرت مجموعتها القصصية “الزهرة تعبر جدارها الأخير” عن دار طوقان للنشر والحلول الرقمية، وهي عشر قصص تدور أحداثها حول لحظات التحول والولادة في الشخصية الإنسانية، فهي أقرب إلى المتتالية القصصية، ونلمس فيها تطورًا فنيًا متجاوزًا يشكل إضافة هامة للأدب القصصي اليمني، ولونًا جديدًا من ألوان السرد، ولولا تردي الأحوال في اليمن لحظيت هذه المتتالية القصصية بما تستحق من الإشادة وذيوع الصيت.
لاشك أن الاضطرابات السياسية والحرب والتدهور الاقتصادي كل هذه العوامل مجتمعة أعاقت تطور المشروع الأدبي لمها ناجي صلاح وحدَّت من إنتاجيتها، وربما لو توفرت لها البيئة الثقافية المناسبة لتضاعف إنتاجها ونالت المكانة التي هي جديرة بها.
توفيت مها في نوفمبر 2024 وهي في ذروة عطائها الإبداعي، وبحسب ما علمت فإنها كانت تعمل على مشروع روائي، ولديها مشروعات لقصص قصيرة وقصص للأطفال. ومن المشاريع الطموحة التي كانت تحضر لها مشروع أفلام أنيميشن عن الملوك والملكات اليمنيين القدماء، وهو مشروع تثقيفي موجه للأطفال لتعريفهم بتاريخ وطنهم بأسلوب قصصي مشوق.
على الصعيد الإنساني كانت مها ناجي صلاح أكثر شخص قابلته في حياتي إيمانًا بخدمة المجتمع ونكران الذات، تبذل الخير للصغار والكبار ولا تنتظر مردودًا، تقدم المساعدة لأيّ إنسان ما وسعها أن تفعل، وكانت تؤثر على نفسها، وهذا الضرب من الإيثار يشهد به كل من عرفها عن قرب، وهذه الروح النقية من الأنانية هي التي جعلتها تملك قلوب الأطفال دون جهد يذكر.
* روائي وكاتب يمني.
تعليقات