Accessibility links

إعلان
إعلان

القطط.. ومأساة غالب

 

رنّ جرس هاتفه المحمول.. كانت الساعة تُشير إلى الثانية بعد الظهر في صنعاء.. أنهى المكالمة بصوتٍ مخنوق.. إنها ابنته من طليقته هاتَفته من القرية، وترجوه أن يسافر ليعقد قرانها، لكنه اعتذر منها بقلبٍ ربما أفقدته الحرب بوصلته الأبوية..: “بماذا أعود إليهم؟ّ!، ولم أزرهم منذ سنوات، وقد صرتُ اليوم بلا شيء، ولا أملك حتى أجرة السيارة إلى القرية”.. يرد عليه صديقه: “لكنها ابنتك تطلب منك أن تفرح معها فرحة العمر.. سافر ولا تحمل هَمّ السفر”.. لكنه ابتسم ولم يرد، وقعد في متكئه مستمرًا في مضغ القات.

صنعاء – “اليمني الأميركي” – أحمد الأغبري

لم يجدِ كلام أصدقائه نفعًا معه، ولم يحرك ما يفترض أن يتحرك في دواخل إنسان (عبده غالب/57 سنة)؛ فـ(عَطالة الحرب) لأكثر من عامين – ربما – كانت كافية لتعطيل أحاسيسه وتحويله – أيضًا- إلى عاطل حتى عن التزامات أبوته..!

مسّ الحرب
هذه الحياة وهذا القرار لرجل كـ(عبده غالب)، لا يمكن الحكم عليه وفق منطقية حياتنا؛ فالوضع مختلف، وأحيانًا قد تصل حياة المرء إلى مرحلة يصير فيها المنطق ثقيلاً عليها ،لا سيما مع غياب المنطق في كل ما تشهده الحياة من حوله.. لا يشي الكلام بأن مسًّا من الجنون أصابه.. لا؛ فهو رجل عاقل وما زال يعيش ويأكل ويتعايش مع الناس ممسكاً بما أوتي من قوة بما تبقى له من عقل، لكنه إنسان مقهور ومغلوب تحت وطأة معاناة ما يمكن أن نطلق عليه (مسّ الحرب)، والتي بات لها ضحايا كثر، لكنهم ليسوا في الواجهة، ولهؤلاء الضحايا حكاياتهم وقصصهم، التي – للأسف – لا تهتم لها نشرات الأخبار.

المهن والحرب
ما أقسى الحرب على أصحاب الحِرف عندما يفقدون المِهن التي ظلوا يقتاتون منها عشرات السنين، وفجأة يجدون أنفسهم وجهًا لوجه أمام العوز وضائقة الحاجة، حتى (الحاجة الغذائية للأسف)..!
وكم هو واقع هؤلاء مؤلم، وبخاصة لِمن بلغ من العمر عتيًّا، وأصبح في شيخوخة لا تحتمل (النط) على مهنة أخرى، وتحمّل (نزق تعلم عمل جديد).
لم يعدّ (غالب) مباليًا بكل هذا الكلام، لقد بات يمضي يومه مع قطط أحبها وأحبته – إنْ جاز القول؛ وهي حياة لم يعد يرى فيها شيئًا سوى تفاصيل المعيشة اليومية، والتي تكاد تختزل ما صار إليه واقع كثير من اليمنيين، كما تؤشر – في ذات الوقت – لِما قد تؤول إليه حيواتهم في الغد مع استمرار الحرب والحصار، وكل هذا الخراب والدمار والأمراض والضائقة الغذائية المتمددة؛ وهي الحرب التي مزّقت البلد إلى (كونتينات) للأسف، وقبل ذلك مزّقت النسيج الاجتماعي والوطني؛ وهو ما يجعل من إيقاف الحرب في اليمن مهمة إنسانية عاجلة للعالم.

تلابيب عقل
يعرفْ وجهه الكثير من سكان الحي – شمال العاصمة، فسُحنته ذات ملامح حفر عليها الدهر تعرجاته وعثراته. لقد عرفه الناس في الحي منذ أكثر من عشرين سنة مهندس تكييف وتبريد ماهر تنقلت ورشته بين عدد من شوارع صنعاء حتى استقر به الحال في جوار أكبر عمارة شقق سكنية بالعاصمة، وأصبحت الحارة تعرفه كمعرفة العائلة بطبيبها؛ إلا أنه مختص بأعطال الثلاجات والمكيفات والغسالات؛ ولهذا كانت شُهرته تجعله مطلب كثير من العائلات ممن تتعطل أجهزتم المنزلية؛ وكان يعود عليه هذا العمل بدخلٍ ما بين خمسة آلاف إلى سبعة آلاف ريال يمني يوميًّا، يعيش منه ويرسل منه لأولاده (3 بنات وولد) في قريته، حتى اندلعت الحرب في آذار/ مارس 2015م، والتي تسببت – فيما تسببت – بانقطاع كامل للكهرباء العمومية.

تصالح اجباري
لقد تأثرت بالحرب قطاعات أعمال كثيرة في البلد، إلا أن ثمة قطاعات كان ضررها كبيرًا كقطاع هندسة التكييف والتبريد؛ إذ هي مهنة مرتبطة بتوفر كهرباء الضغط العالي، وبانقطاعها فقد توقفت معظم العائلات بصنعاء عن استخدام الثلاجات والمكيفات لِما تحتاجه من طاقة ليس بمقدور الطاقة الشمسية البديلة توفيرها للجميع من ذوي الدخل المحدود؛ وبالتالي توقف نشاط معظم مهندسي التكييف والتبريد، إلا أنّ البعض منهم سرعان ما تنبّه، وانتقل للعمل في مجالات أخرى؛ فيما البعض لم يكن قادرًا – للأسف – على تحمّل صدمة مغادرة مهنة ارتبطت بحياته لعشرات السنين؛ وبالتالي كانوا عاجزين عن اتخاذ قرار مصيري بتغيير المسار، كحال عبده غالب: “أنا لا أعرف أي عمل آخر.. وثانيًا: “قدنا شيبة.. أين سأروح بعد هذا العمر؟!”.. بهذا التساؤل المعجون بلهجته الدارجة اختزل (غالب) الألم والحسرة التي تضطرم في صدره ما جعله يهيم منذ عامين في صراع مع البقاء متصالحًا – بشكل إجباري – مع الحياة، ممسكاً، قدر الإمكان، بـ(تلابيب) ما تبقى من عقل قهر الزمن، ويحلم – كل يوم – بأنْ تُشرق شمس الغد وقد توقفت الحرب، لعله يستأنف حياته، وما تبقى له من عمر تحت مظلة مِهنة يرى أنها لم تخذله منذ التحق بها في طفولته.

السلام والكهرباء
يتحدث عن أسرته بكلمات نازفة؛ فبناته يعشن مع طليقته في القرية، أما ابنه فهذا (الأب) لا يعرف أين هو وأين يعمل؟!..
قالوا إنه يعمل في منطقة بين صعدة والحديدة.. لا أعرف؟!”، وهو يتحدث عن حياته تجده ينكّس برأسه ناظرًا لأسفل قدميه؛ ربما هروبًا من مواجهة مشاعره الأبوية تجاه ابنه الوحيد وبناته؛ فهو – في الأخير – أب مهما تظاهر، وهو – بالتأكيد – يشعر بوقع خناجر كلامه على صدره المثقل بالإحباط وصولاً إلى لامبالاة سلبية يجدها وسيلته للبقاء واقفًا لعل الوضع يتغير وتعود (أيام السلام والكهرباء).. هو يشعر- بلاشك – أن كلامه عن فلذات كبده على هذا الطبق الكبير من (البرود الأبوي) ينتقص من حقيقة أبوته التي تمتلئ بها جوانحه، لكنه يحاول أن يتنكر لها؛ هروبًا من التزاماتها التي عجر عنها؛ ولهذا كان، وهو يتكلم عن أسرته لا يرفع بصره.. هو يقول “إنه يريد أن يسافر ويخرج من صنعاء بأيّة طريقة، ويريد أن يعقد قران ابنته بنفسه، لكن وضعه صعب ومعقد”.. لقد كان لي دخل ومكان ومكانة.. اليوم بالكاد أُسلي يومي مع قطة وأعمل مع سمكري سيارات أو صاحب بوفية بما يوفر لي أكلاً وشربًا، أما النوم فأنا أنام هنا”.. ويشير إلى (دشمة)، وهي عبارة عن غرفة من ألواح حديدية عبارة عن بقايا أبواب سيارات، وذلك في حوش إحدى ورش الصيانة صارت تضم عددًا منها تأوي بعضًا ممن صاروا يعيشون وضعًا صعبًا كوضع غالب.

بورصة الحرب
يذهب (غالب) يوميًّا لبوفية السامعي على شارع القاهرة ليشرب شاهي الحليب مساءً، وخلال ذلك يتذكر، كل يوم، ما عاشه وما صار إليه من حياة كسرتها الحرب ومهنة كان يتكئ عليها لنحو أربعين سنة لتخذله في سني شيخوخته وضعفه، وفي مرحلة كان يفترض أن يعيش فيها (آمن الجيب)، إلا أن كل هذا الكلام المنطقي لم يعد منطقيًّا في زمن الحرب التي يتعطل معها كلام العقل.
يأخذ مكانه في البوفية على كرسي مُطلّ على رصيف الشارع ليرتشف كأس الشاي، ملقيًا بنظراته هنا وهناك، متتبعًا الوجوه في غدوهم ورواحهم، رافعًا يده بالتحية لرجل يحييه من على ميكروباص يمر في الشارع؛ ويلتفت في ذات الوقت إلى صوت يناديه من مقعد في طاولة آخر المقهى يسأله عن سعر القطة اليوم بعد ارتفاع أسعار البورصة أمس (ساخرًا).. حينها وكعادته لم يكن من (غالب) سوى أن ألقى بابتسامة ساخرة ضاحكًا وهو ينظر إليه لائذًا بالصمت، لكن تلك الالتفاتة والنظرة الضاحكة من غالب، كانت كأنها تقول للرجل: اسألني عن أسعار البشر، لقد جعلتها الحرب بلا ثمن، أما القطط فربما أنّ حياتها صارت أفضل من حياتنا.

القطط
لـ(عبده غالب) مع القطط حكاية غريبة، لكنها مؤلمة؛ فهو عقب فقدان عمله ودخوله سوق (البطالة القاتلة)، عاش ظروفًا سيئة جدًّا، لا سيما مع نزوح كثير من أهالي صنعاء، وبقائه في هذا المكان الذي شهد فيه أشكالاً مختلفة من القصف الذي تعرضت له صنعاء من الطائرات والبوارج البحرية للتحالف بقيادة السعودية.. وفي هذا المكان الذي يعيش فيه كانت بعض القطط تهرب من منازل من يأويها، وتأتي إلى حوش الورشة، التي فيها (دشمة) نومه، وقد كان لطيفًا معها كعادته الرؤوم، فلم يبخل عليها بما يسد رمق جوعها مما يأكل، وهو الأكل الذي كانت لا تألفه في البداية، لكنها اضطرت مع الوقت أن تأكل منه وتعتاده، وهي الحال التي أصبحت معها القطط تتزايد وتتزايد معها الألفة بينهما.. ومع عودة بعض الاستقرار إلى صنعاء فوجئ بمن يطلب منه بيع قطة، إلا أن بعض القطط كانت تفر ممن اشتراها وتعود إلى (غالب)، ومثل هذا حصل معه مرة أو مرتين، وهكذا استمرت علاقته بالقطط، إلا أنه أصبح يُعرف بين أصحابه وفق اللهجة الدارجة بـ(بائع الأدمم) بمعنى (بائع القطط)..ويقول: “لكني تعلمتُ من القطط الكثير؛ لم أعد أشعر بالوحدة معها، بل صرت أشعر بأن هناك من يبحث عني”.
لم يعد (غالب) مهتمًا بمظهره كثيرًا، وبلغ به عوز الحرب مبلغًا أصبح معه يعيش يومه بسيطًا متخففًا من كل حمولات والتزامات الحياة، وهذه ربما هي (حسنة الحرب) كقول أحدهم ممن تعثرت حياته بالوضع العام الذي تعيشه البلاد: لم يعد شيء نحسب حسابه.

شهادة مؤجلة
عندما يتحدث (عبده غالب) عن بداية حياته وبعض محطاتها، يكاد ينشج ويدمع معه سواد الاسفلت وأحجار الرصيف.. يقول: أنا من مواليد ثورة 26 سبتمبر 1962م التي فتحت لليمن باب النور، وبعد دخولي المدرسة تعلمت هندسة التكييف والتبريد لدى ورشة محمد العريقي بمدينة تعز، وأصبحت مهندسًا ماهرًا، وأنا ما زلت صغيرًا، بعدها غادرت للسعودية، وعملت هناك سنوات طويلة، وعدتُ مع من عاد بداية تسعينيات القرن الماضي بسبب حرب الخليج ووصلت إلى هنا، وفتحتُ ورشة جوار اللجنة الدائمة بحي الحصبة، ومن ثم انتقلتُ إلى أن استقريتُ هنا في شارع القاهرة، لتأتي الحرب، وتمنحنا تقاعدًا مع شهادة وفاة مؤجلة (يسخر).

مع الحمدي
قبل مغادرته السعودية كان قد عمل في صنعاء مساعد مهندس في إحدى الورش في السبعينيات، وخلال تلك الفترة يتذكر حكاية له مع الرئيس الراحل إبراهيم الحمدي.. حينها كنتُ مازلتُ صغيرًا، ولا أعرف شكل الحمدي، وبينما كنتُ في الورشة إذ بسيارة (فولوكس واجن) تتوقف أمام الورشة، ويسألني صاحبها: أين المهندس؟، فقلت: موجود، أي خدمات؟ فرد: أريد تجي معي تصلح السخان في البيت؟، فقلت: تمام؛ فقال: غلق الورشة وأركب معي.. وذهبتُ معه للبيت، وفي البيت فحصت السخان، وقلت له أنه يحتاج قطعة غيار من الورشة؛ فطلبْ من السائق أن يعود بي للورشة لإحضار القطعة، وعدتُ للورشة، وكان صاحبها ينتظرني، وعندما رأى السيارة سألني: من أين جئت؟ فقلت كنتُ مع صاحب هذه السيارة أصلّح السخان في بيته، والسخان يحتاج قطعة غيار، لكن صاحب الورشة أخذ القطعة وذهب مع السائق بنفسه، وعندما عاد قال لي: هل تعرف مَن الرجل الذي أخذك لبيته؟ فقلت: لا. فقال: هذا يا حمار هو الرئيس إبراهيم الحمدي.. من حينها وأنا أتذكر هذه الحكاية، ولا أعرف ماذا أقول؟! بل عندما أحكيها لا يصدقني الكثير، ومعهم حق؛ فأنا أحيانًا لا أصدق أن ذلك كان اليمن، وأن ذلك كان رئيس اليمن.
وبعد:
ما حملته حكاية عبده غالب ليست سوى سطر في فصل من فصول عديدة لتغريبة يمنية طويلة.

   
 
إعلان

تعليقات