Accessibility links

إعلان
إعلان

استيقظت قبيل الفجر أشهق إثر جاثوم مفزع، ينتابني شعور بالاختناق، ذلك الشعور الذي يسبق أي حدثٍ سيئ ولم يخطئ حدسي، فما هي إلا ساعات حتى زُلزلت الدار، بصراخ مالكها الذي أتى لقبض إيجاره، في ساعات الصبح الأولى:

-“ميت في البيت، الرَجَّال اللي مستأجر ديوان الحوش شنق نفسه”

الديوان: هذا ما كانت تسمى به الغرفة التي تتخذ حيزًا لا بأس به، مع حمامٍ ملاصقٍ لها في الفناء الخلفي للدار المكونة من خمسة طوابق، والتي تتربع على مساحة لا بأس بها في واجهة أحد الأحياء القديمة.

أفاد “حارس الدار” أنه عندما دخل ليتأكد من الأمر وجد جثة الرجل متدليةً من “مِعلَقٍ” حديدي يتوسط الديوان، كان يستخدم قديمًا في تعليق “الفوانيس” قبل انتشار الكهرباء.

بعد الظهيرة، وقفت بينهم أشاهد جثته البادئة بالتصلب مسجاةً على أرضيته. ظننته أكبر سنًّا، لكنه بدا بعمري تقريبًا، في بداية ثلاثينياته.. أخذت أتأمله، وجه شاحب، عينان جاحظتان بحدقتين متسعتين، فك مرتخٍ، مع بروز جزء من اللسان، وشفتان مزرقتان.. لا أدري لمَ لم أقرأ من قسماته سوى علامات الفزع.

ما زال “الديوان” الذي كان يسكنه عالقًا في إحدى الفترات السحيقة، كل ما فيه يوحي بذلك إذ لم تصل إليه حتى الكهرباء التجارية.. هذا ما لاحظته عندما رأيت فانوسًا وكأنه خارج من حكايات ألف ليلة وليلة مركونًا في زاويته، وأعواد ثقابٍ متناثرة.

تزاحم جيراننا حوله، وأراهن بأن أحدهم يعرف اسمه، سمعت من وشوشاتهم أنه كان منطويًا، يخرج مبكرًا، ويعود متسللاً في سكون الليل، تحيطه هالة من الغموض يمشي كخيال، يسترق الحياة بعينين ضبابيتين، تشبهان كثيرًا طيف الدار العتيقة الذي ظهر مؤخرًا.

لم أجد له صديقًا واحدًا أو قريبًا بين الزحام، دعوت له بالرحمة وآثرت الخروج فضجيج من حوله يكاد يحفر نفقًا في رأسي.

توجهت إلى جامعٍ قريب، إذ أحسست بتوقٍ غريبٍ للجوء إليه.. أن أغتسل في بركته، أنغمس متطهرًا، عائدًا دون خطايا.. خطايا! ما الذي ارتكبته.. لا يهم.

اقتربت من البركة، دنوت علّي أجد فيها شيئًا من ملامحي التي فقدتها، انتفضت مرعوبًا أهوي في ظلمة سحيقة، عندما لم أرَ انعكاس صورتي على سطحها..

يا للهول، ما الذي فعلته!

عادت الأحداث تنخر في ذاكرتي، تلاشى كل ما حولي متحولاً إلى رماد متطاير، عصف حولي كإعصار أتسرب رويدًا إليه، مخلبٌ ناري لوجه هلامي ظهر من اللا شيء، انتشلني دون مقاومة مني وكأنما كنت مشلولاً وأعادني من حيث بدأت.. “الديوان”

لماذا أعادني إلى هنا!

لماذا لست في الجحيم مثلاً، أغفَرَ الله لي، أم أنني في جحيم آخر! ما الذي أقوله، وما أدراني، فلم يسبق أن تلقيت دعوة لإلقاء نظرة عليه.

لكني أعلم أنه مصيري، فلي أعمال لا أفخر بها إطلاقًا، وأعظمها دهسي لراعية شابة، ولم أحرك ساكنًا لإنقاذها.. تركتها تلفظ آخر أنفاسها، ثم حشرت جثتها في صندوق سيارتي خوفًا من تغريمي أو سجني، وتوجهت لأبعد مكان ناءٍ، وواريت جريمتي.

منذ ذلك اليوم المشؤوم وطيفها يتخطفني، أراها أينما وليت وجهي، أغافلها بنومي، فتباغت حلمي، أصحو كل ليلة لاهثًا بفرائصٍ مرتعدة.. تفترسني عيناها المتوسلتان لإنقاذها، وجهها الذي خضبته الدماء، وأنينها المثير للرجفة في أوصالي.

تخلصت من سيارتي، وصرت أتحاشى السيارات وكأنها نذير للموت، 

أمشي أميالاً، أخوض غمار العالم بخدرٍ وقدمين متقرحتين.. صرت مجرد 

جسد نحيل تسكنه الهواجس والآثام، بل شبحٍ خاوٍ من كل شيء، حتى من ضميري الذي انسل حتى داسته قدمي.. لم يعد هناك من شيء سوى رائحة الموت.. الموت والخوف الذي لم أستطع كبح لجامه ووجهها.

نصبت مشنقتي مثقلاً بظلمة دفينة وكأن روحها تجثم على جسدي، وأنهيت كل ذلك الجنون.

ستة أشهر مرت على انتحاري، ولم يجرؤ أحدٌ طوال هذه المدة على 

استئجار “الديوان”.

أحطت بقبة شفافة، تحرسها مخلوقات هلامية تتبدل وتتشكل ملامحها، إذ تتخذ ملامح الغضب كلما استأتُ، وملامح الهدوء كلما غيبت مشاعري 

كصنم بائس.. في عالم الأرواح يتماهى كل شيء مع بعضه، ويصبح أكثر شفافية وترابطًا من العالم المادي.

استأجر “الديوان” أخيرًا شيخٌ في أواخر سبعينياته.. ينهشني نحيبه كل ليلة، تجلدني دموعه كسياط تستشيط غضبًا، وكأننا متصلان بطريقة ما.. أتعذب لألمه وأسكن لهدوئه وكأنني سجين جسده وليس القبة الشفافة.. انتابتني 

التساؤلات عن سبب ذلك، حتى أخرج يومًا صورة له، وبجانبه امرأة فيما يبدو أنها زوجته.. يتوسطهما وجه ندي طاردني طويلاً.

تمضي الأيام، وما زلت في جحيمي الذاتي، يتذمر الرجل مرارًا من انطفاء الفانوس كلما علقه على “الِمعلق”، لا يعلم أنني أتدلى منه منذ الليلة الأولى.

*رانيا الشوكاني
الحاصلة على تنويه لجنة تحكيم جائزة الربادي للقصة القصيرة (الدورة الثالثة).
   
 
إعلان

تعليقات