Accessibility links

وقفة أخرى مع صاحب التحرير والتنوير الأستاذ المفسر الطاهر بن عاشور


إعلان

وضاح عبد الباري طاهر* 

     لم أستفد في حياتي من مذاكرة شخص كاستفادتي من مناقشة الأخ العزيز الدكتور أبكر هجام. ونحن في نقاشنا لبعض المسائل قد نتفق أحيانًا، ونختلف كثيرًا شأن البشر، إلا أن اختلافي معه لم يؤثر على علاقتنا التي أعتز وأعتد بها، فحالنا كما صور الشاعر العربي حين قال:

فتوافقٌ وتخالفٌ.. والود باقٍ في الضمير 

ود الأخوة ثابتٌ.. ووشاية الواشي تطير

كعادتي فتحت معه نافذة الحوار، وذكرت له استشكالي للآية الواردة في سورة الحج: (إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير). [سورة الحج، 23].

استشكلت مجيء حرف الجر (من) قبل لفظة أساور؛ مع أن الفعل (يحلون) يتعدى بنفسه، بحيث لا يحتاج إلى حرف الجر، أما الاستشكال الثاني، فهو المعنى الذي يفيده حرف الجر (من)، في قوله: (من أساور) الوارد في الآية.

فنقل لي الأخ العزيز الدكتور أبكر كلام ابن عاشور في تفسيره (التحرير والتنوير) لسورة الحج، وأخبرني في آخر النقاش أنه يتبنى رأيه الذي ذهب إليه، وهو الآتي:

قال ابن عاشور في (التحرير والتنوير)، 17/ 232: “و(مِن) في قوله: (من أساور) زائدة للتوكيد. ووجهه أنه لما لم يعهد تحلية الرجال بالأساور، كان الخبر عنهم بأنهم يُحلّون أساور معرّضاً للتردد في إرادة الحقيقة؛ فجيء بالمؤكد لإفادة المعنى الحقيقي؛ ولذلك فـ (أساور) في موضع المفعول الثاني لـ (يُحلَّون)، ولؤلؤاً، قرأه نافع، ويعقوب، وعاصم بالنصب عطفاً على محل أساور؛ أي يحلون لؤلؤا؛ً أي عقوداً ونحوها، وقرأه الباقون بالجرّ عطفًا على اللفظ والمعنى: أساور من ذهب، وأساور من لُؤلؤ”.

وقال ابن عاشور في تفسيره، 15/ 312 للآية الواردة في سورة الكهف: (أولئك لهم جنات عدن تجري من تحتهم الأنهار يحلون فيها من أساور من ذهب ويلبسون ثيابا خضرًا من سندس واستبرق). [الكهف: 31]:ٍ “و (مِن) في قوله: (من أساور) مزيدة للتأكيد على رأي الأخفش، وسيأتي وجهه في سورة الحج. ويجوز أن تكون للابتداء، وهو متعين عند الذين يمنعون زيادتها في الإثبات”.

وقال الزمخشري في تفسيره (الكشاف)، 2/ 720، عند تفسير سورة الكهف: “من الأولى للابتداء، والثانية للتبيين”. 

أما أبو حيان النحوي الذي يتصدى كثيرًا لصاحب الكشاف، ويناقشه الحساب في تفسيره (البحر المحيط)، فمر على الآية مرور الكرام، واكتفى بكلام صاحب الكشاف في تفسير سورة الكهف فقال: “قال الزمخشري: و (من) الأول للابتداء، والثانية للتبيين”، إلا أنه ذكر عقب ذلك احتمال أن تكون (من)، للتبعيض.

وقال في سورة الحج: “والظاهر أن (من) في (من أساور) للتبعيض، وفي (من ذهب)، لابتداء الغاية؛ أي أنشئت من ذهب”.

وقال ابن عطية في تفسيره (المحرر الوجيز)، 4/ 488 في تفسير سورة الحج: “و (من) في قوله: (من أساور)، هي لبيان الجنس، ويحتمل أن تكون للتبعيض”.

وقال الألوسي في تفسيره (روح المعاني) في تفسير سورة فاطر، 11/ 371: “و(من) للتبعيض؛ أي يحلون بعض أساور، كأنه بعض له امتياز، وتفوق على سائر الأبعاض، وجوز أن تكون للبيان؛ لما أن ذكر التحلية مما ينبئ عن الحلي المبهم، وقيل: زائدة؛ بناءً على ما يرى الأخفش من جواز زيادتها في الإثبات، وقيل: نعت لمفعول محذوف لـ (يحلون)، وأنه بمعنى يلبسون”.

وقال أيضًا في تفسير سورة الكهف: “(من) الأولى للابتداء، والثانية للبيان، والجار والمجرور في موضع صفة لأساور، وهذا ما اختاره الزمخشري وغيره. وجوز أبو البقاء في الأولى أن تكون زائدة في المفعول على قول الأخفش، ويدل عليه قوله تعالى: (وحلوا أساور). [الإنسان: 21]، وأن تكون بيانية؛ أي شيئًا، أو حليًا من أساور. وجوز غيره فيها أن تكون تبعيضية واقعة موقع المفعول، كما جوز هو وغيره ذلك في الثانية”. 

والآن لنلخص كلام المفسرين حول معنى (من) في قوله (من أساور)، وهي كالآتي:

  1.  للابتداء؛ بحسب ما ذهب إليه الزمخشري. لكن الباحث لا يظهر له معنى الابتداء، كما يظهر معنى الابتداء في قول القائل: خرجت من البصرة إلى الكوفة. فابتداء الخروج من البصرة ظاهر في المعنى الذي أفادته (من)، بخلاف قوله تعالى: (يحلون فيها من أساور).
  2. زائدة للتأكيد، كما ذهب إليه الأخفش وتابعه ابن عاشور، ولابن عاشور تعليل لهذه الزيادة ذكرها في أول البحث المنقول عنه.
  3. تبعيضية، ذكرها على وجه الاحتمال ابن عطية في محرره، وأبو حيان في بحره- في تفسيره لسورة الكهف، واستظهر هذا المعنى في تفسيره لسورة الحج. 

وقبل أن يشرع الباحث في مناقشة كلام ابن عاشور، يرى من اللازم ذكر جميع الآيات التي وردت بهذا التركيب، ليتسنى نقاش الأستاذ ابن عاشور. قال تعالى:

  1. (أولئك لهم جنات تجري من تحتهم الأنهار يحلون فيها من أساور من ذهب ويلبسون ثيابا خضرا من سندس واستبرق). الكهف: 31.
  2. (إن الله يدخل الذين آمنوا وعملوا الصالحات جنات تجري من تحتها الأنهار يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤا ولباسهم فيها حرير). الحج: 23.
  3. (جنات عدن يدخلونها يحلون فيها من أساور من ذهب ولؤلؤًا ولباسهم فيها حرير). فاطر: 33
  4. (عاليهم ثياب سندس خضر واستبرق وحلوا أساور من فضة وسقاهم ربهم شرابًا طهورا) الإنسان: 21.

والآن يمكن لنا أن نقول أولاً:

إن القول بعدم زيادة (من) في الكلام المثبت هو مذهب الكوفيين، وجمهور البصريين، بحسب كلام المفسر النحوي أبو حيان، وإنما ترد (من) زائدة في الكلام المنفي لغرض التوكيد، نحو قوله تعالى: (وما يضرونك من شيء)، وقوله: (ما فرطنا في الكتاب من شيء)، وقوله: (ما أنزل الله على بشر من شيء)، وغيرها من الآيات الكثيرة في هذا المعنى.

ثانيًا: لو كان هذا التوجيه الذي وجه به الآية ابن عاشور صحيحًا، وهي أن (من) زائدة لغرض التوكيد؛ فكيف أسقطها، ولم يأت بها سورة الإنسان، في قوله تعالى: (وحلوا أساور من فضة)؟ إذ لو صح ما يقول ابن عاشور؛ لاطرد إثباتها في هذه السورة؛ لرفع هذا التردد المحتمل في إرادة الحقيقة بتحليتهم الأساور كما يذهب إليه الأستاذ ابن عاشور.

بقي الآن ذكر سبب مجيء هذا الحرف (من) في آيات سور الحج، والكهف، وفاطر، وخلوه منها في سورة الإنسان التي عدى فيها الفعل إلى المفعول مباشرة، حيث قال: (وحلوا أساور من فضة).

والذي يراه الباحث أن توسط الجار والمجرور (فيها) في قوله تعالى: (يحلون فيها من أساور من ذهب) بين الفعل (يحلون) ومفعوله (أساور)، هو الموجب لمجيء (من) المفيدة للبيان في سورة الكهف، والحج، وفاطر؛ لئلا يتوهم أن (فيها) خبر مقدم، و(أساور) مبتدأ مؤخر، كنحو قوله تعالى: (فيها أنهار من ماء غير آسن). فلو لو لم يأت بـ (من) المفيدة للبيان، وأسقطها من قوله: (يحلون فيها من أساور)؛ لالتبس المعنى؛ فيظن القارئ أن (يحلون) فعل لازم، وأن (فيها) خبر مقدم، و(أساور) مبتدأ مؤخر؛ فيصير المعنى وكأنه أخبر بتحليتهم في قوله (يحلون)، ثم انتقل إلى الإخبار بأن في الجنة أساور من ذهب، ثم يكون الإشكال الأكبر مجيء لؤلؤا منصوبًا دون أي مسوغ، إذا ما ورد النص بهذا الشكل الملتبس الذي يتنزه عنه النظم الحكيم.

 لكنه لم يرد قطعًا هذا المعنى الفاسد، فاجتنبه، وقطع الطريق على هذا التوهم، وأراد الإفادة بأنه سبحانه يحلي المؤمنين في الجنة ويزينهم بحلية وزينة هي أساور من ذهب.

والذي يدل على هذا الكلام أن الآية في سورة الإنسان خالية من ذكر الجار والمجرور (فيها)، بخلاف بقية الآيات المذكورة آنفًا، فلما خلت من الجار والمجرور (فيها)، وأمن اللبس الذي يوجد في سور الكهف، وفاطر، والحج؛ عدي الفعل في قوله: (وحلوا أساور من فضة) إلى المفعول مباشرة وهو أساور.  

الأمر الثاني: يظهر للباحث أن (من) في قوله (من أساور) مفيدة للبيان؛ لأنه لما كانت وسائل التحلية والزينة متعددة، جاء بـ (من) المفيدة لبيان جنس التحلية التي يحليهم بها الله سبحانه في الجنة، وهي الأساور، وهذا ما ذهب إليه ابن عطية، وذكره الألوسي وجهًا آخر لأبي البقاء، وليس الأمير كما قيل بأنها زائدة، أو مفيدة للتبعيض، والذي يضعف كونها للتبعيض سقوطها في سورة الإنسان، حيث قال تعالى: (وحلوا أساور من فضة)، فكما أنهم حلوا أساور من فضة، كذلك حلوا أساور من ذهب، وإنما جيء بـ(من) في بقية السور لغرض التبيين، وللغرض الذي سقناه آنفًا.

استطراد وخاتمة: 

بقي أن نذكر في خاتمة هذا المبحث أن شيخ الإسلام القاضي العلامة محمد بن علي الشوكاني ذكر في تفسيره (فتح القدير)، 4/ 208 عند قوله تعالى: (وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحما طريًا وتستخرجوا منه حلية تلبسونها)، كلامًا قد يستغربه البعض. قال:” (وتستخرجوا منه حلية تلبسونها)؛ أي: لؤلؤًا ومرجانًا، كما في قوله سبحانه: (يخرج منهما اللؤلؤ والمرجان). [الرحمن: 22]. وظاهر قوله: (تلبسونها)؛ أنه يجوز للرجال أن يلبسوا اللؤلؤ والمرجان أي: يجعلونه حلية لهم كما يجوز للنساء، ولا حاجة لما تكلفه جماعة من المفسرين في تأويل قوله: (تلبسونها)، بقوله: تلبسه نساؤهم؛ لأنهنّ من جملتهم، أو لكونهنّ يلبسنها لأجلهم، وليس في الشريعة المطهرة ما يقتضي منع الرجال من التحلي باللؤلؤ والمرجان ما لم يستعمله على صفة لا يستعمله عليها إلاّ النساء خاصة؛ فإن ذلك ممنوع من جهة كونه تشبهًا بهنّ، وقد ورد الشرع بمنعه، لا من جهة كونه حلية لؤلؤ أو مرجان”.

ولعل هذه المسألة التي ذكرها الشوكاني هي إحدى المسائل التي شنع عليه بها تلميذه أولاً، وخصمه في آخر الأمر القاضي العلامة محمد بن علي العمراني في تاريخه (إتحاف النبيه بدولة القاسم بن محمد وبنيه)، وإنما ذكرت هذا الرأي عن الشوكاني؛ لأظهر ضعف كلام ابن عاشور: “أنه لم يعهد تحلية الرجال بالأساور”. وكيف يكون ذلك، وقد ورد في الأحاديث والسير أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لسراقة بن مالك في حديث الهجرة المشهور: “كيف بك إذا لبست سواري كسرى”، فلما كانت خلافة عمر أعطاه إياهما، وقال له البسهما، ففعل. انظر القصة في: الشفا بتعريف حقوق المصطفى، للقاضي عياض، وإمتاع الأسماع بما للنبى من الأحوال والأموال والحفدة والمتاع، للمقريزى.

وهنا نكون قد انتهينا من نقاش ما ذكره الإمام الجليل محمد الطاهر بن عاشور في تفسيره، والحمد لله أولاً وآخراً. 

*كاتب يمني. 

   
 
إعلان

تعليقات