Accessibility links

مُحمد.. إعاقةٌ ذهنيةٌ تَعشقُ الأرقام بذكاءٍ فطريٍّ


إعلان

كيف يستطيعُ مُحمد التعامل مع الأرقام بذكاءٍ فطريٍّ رغم إعاقته الذهنية؟

صنعاء – “اليمني الأميركي” ـ محمد العلفي

يزورُ يوميًّا مقهىً شعبيًّا وسط صنعاء، ويجلسُ بجانب أصدقائه الذين يحبّونه ويُبادلونه مشاعر صادقة؛ ما يجعله يكشفُ لهم عن بعض ملامح ذكائه الفطري في جمْع العملات النقدية الورقية ذات الأرقام التسلسلية المميزة وحفْظ أرقام الهواتف ولوحات السيارات بسهولة والتعرف على أيام المناسبات العامة في الأعوام المقبلة.

إنه محمد الدحومة شابٌّ يتجاوزٌ الأربعين من عمره، لكن شكله ما زال يتمتعُ بملامح طفولية.

وُلِد بإعاقةٍ ذهنيةٍ أثّرتْ في قدرته على الكلام، وغيرها من القدرات، لكنه يتمتعُ بمشاعر إنسانية فياضة بجانب مواهبه مع الأرقام.

قصة (مُحمد) مثالٌ لِما يتمتعُ به أمثاله من ذوي الاحتياجات الخاصة مِن مواهبَ، وما تعانيه حالاتهم من إهمالٍ في الرعاية الصحية والتعليمية وغيرها من أشكالِ الرعاية في اليمن.

“اليمني الأميركي” التقتْ مُحمد الدحومة في شارع المطاعم بصنعاء، وهو المكان الذي يُفضِّلُ ارتياده بشكلٍ شبه يومي، وهناك تعرَّفنا إلى حكايته عن قرب.

 

محمد الدحومة

محمد الدحومة

 

                                    براءة الطفولة

عند لقائك (مُحمد) تتعرفُ إليه من ملامح الطفولة التي ترتسمُ على محيّاه رغم أنّ العقد الرابع من عمره مُشارِفٌ على الانقضاء… التقيناه وهو يهمّ بمغادرة أحد المقاهي الشعبية.

تملكتْني الحيرة، وأنا أحاولُ إقناع مـُحمد بالبقاء وعدم المغادرة، بينما يدورُ في ذهني سؤال مفادهُ: كيف سأتمكنُ من فهْم مُحمد ومحاورته؟، لكن خلال محاولاتي فتْح آفاقِ الحديث معه، إذا بصوت أحدهم يقول: «مُحمدٌ إنسانٌ فريدٌ، وإذا أحبك سيثقُ بك، وسيُطلعكَ على عالمه مع الأرقام».

 

محمد ميمي - صديق محمد الدحومة

محمد ميمي – صديق محمد الدحومة

 

                                     صَدِيق

يُتابِعُ مُحمد ميمي، وهو أحد الأصدقاء القلائل لشخصية قصتنا محمد الدحومة: «لدى مُحمد قدرة عجيبة في التعامل مع الأرقام؛ فعالمه في الأرقام، ويُحِبُّ جمْع العملات الورقية ذات التسلسل المتميِّز… وإنْ أحبَّكَ فسيحفظ رقم جوالك، وحتى رقم اللوحة المعدنية لسيارتك، وسيأتي ويعرضُ عليك العملات النقدية المميزة التي يحصلُ عليها».

وحتى يُبرهِنُ على كلامه أعطى محمد قلمًا، وقال له: اكتب رقم عدنان، أخذ محمد القلم بصعوبة، وبالفعل قام بكتابة رقم الجوال.

يقولُ: «عرفتُ (مُحمد) في هذا المقهى منذ قرابة خمس سنوات، وهو مِن أجمل الشخصيات التي عرفتها، وتبعثُ عليك بالتفاؤل.. أحيانًا تصلُ إلى مرحلة من اليأس، وبمجرد أنْ تلتقيه تحسّ أنّ الدنيا عالمٌ ثانٍ».

 

على الرغم من معاناته من إعاقةٍ ذهنيةٍ يتمتعُ بمواهبَ في التعامل مع الأرقام الحسابية وجمْع العملات النقدية الورقية ذات الأرقام التسلسلية والتعرُّف على أيام المناسبات في الأعوامِ المقْبِلة

إنْ أحبَّكَ محمد فسيحفظ رقم جوالك وحتى رقم اللوحة المعدنية لسيارتك، وسيأتي ويعرض عليك العملات النقدية المميزة التي يحصلُ عليها

لو توفرت له بيئة مناسبة لَكانَ بالإمكان أنْ يُبدِعَ كما هو الحال مع المشاهير والعظماء من ذوي الإعاقة في العالم

                                 علاقته بالعملات

ويُشيرُ إلى النشوة التي تتملّكُ (مُحمد) عندما تقعُ بين يديه عُملة ورقيّة ذات رقمٍ تسلسليٍّ مميّز، وفي حال أعطيته عملة نقدية ذات رقمٍ مميز، فستُصبح من أفضل أصحابه.

«ذات مرة، ونحن نحتسي الشاي مع بقية الأصدقاء، كان لدى مُحمد عملة ورقية من فئة 200 ريال ذات رقمٍ تسلسلي ( 330000)، فأعطيته 500 ريال سعودي مقابل تلك العملة، إلا أنه رفضَ ذلك رفضًا قاطعًا»، يضيف.

يُلوّحُ محمد الدحومة بيده، ويُتمتمُ والفرحة تغمره، وهو يحاولُ أنْ يشرحَ لنا أنه يحتفظُ في المنزل بعملات ورقية من فئات مختلفة (ألف، خمسمائة، خمسين) تحملُ نفس الرقم التسلسلي (4600000)، ويكادُ يطيرُ من الفرحة لتفرّده على البقية بامتلاكه هذه العملات الورقية.

ولم يكفْ عن تمتماته التي كانت تزيدُ فرحته عند فهْمنا فحواها، وهو يشرحُ أنه يمتلكُ فئتَي خمسمائة ريال، وخمسين ريالًا تحملان ذات الرقم التسلسلي (200000)، وأخرى من فئتي المئة والمئتي ريال تحملان الرقم التسلسلي (655000).

                              مقدرة على التنقل والوصول

ينتقلُ محمد من منزله الكائن في شارع حدة (جنوب العاصمة) إلى شارع المطاعم بصورة يومية، ولا يُمكِنُ أنْ يُخطئ المكان أو التوقيت، كما أنه يُلبِّي دعوات حضور الزفاف.

يستغربُ صديقه مقدرته في التعرف على الأماكن، خاصة في حفلات الزفاف…

يقول: «الذي يُدهشني هو مقدرة مُحمد في التعرف على الأماكن، والانتقال إليها؛ فيكفي أنْ تعطيه دعوة لحضور زفاف، وستجده يحضُرُ إلى المكان المخصص أينما كان… أكثر من مرة نذهبُ حفلات الزفاف ونتفاجأ بحضوره».

                                   معرفته لأيام المناسبات

يُشيرُ مُحمد ميمي إلى مقدرة شخصية قصتنا في التعرف على أيام المناسبات لأعوامٍ قادمة؛ وهو ما كذّبْته في قرارة نفسي، خاصة وأنا أرى أمامي شخصية تظهر عليها الإعاقة الذهنية؛ نظرًا للصعوبة التي يعانيها عند محاولته الكلام، أو حتى الأكل.

لكنه بدأ يُتمتمُ بثقة منقطعة النظير بأنّ أول يوم في رمضان القادم سيصادفُ يوم الثلاثاء، فيما عيد الفطر سيكون يوم الخميس، وعيد الأضحى يوم الثلاثاء.

والأمر الذي أبهرني في ذكاء هذه الشخصية أنه لم يكد يُنهي كلامه حتى طالَبَنا بالتأكد من صحة كلامه من خلال مطالعة التقويم في الهاتف الذي أكّد صحة كلامه، وهو يكادُ يطيرُ من الفرح، وكأنه هزمَنا وانتصرَ لذكائه الذي يُقلّلُ منه المحيطون به.

                                       لماذا؟

بعد هذه القدرات والإبهار الذي أصابني به مُحمد كان السؤال: لماذا تم إهمال هذه الشخصية، ولم يتم الاهتمام بهذه العقلية؟

دفعتني تساؤلاتي للتواصل مع الحاج أحمد – والد مُحمد، الذي أكّدَ بحرقة العاجز أنّ ابنه كان ضحية الجهل والإهمال وظُلم المجتمع.

يروي والد محمد كيف أنّ ابنه وُلِدَ وهو مصابٌ بالإعاقة الذهنية، مستعرضًا فصول المعاناة التي عاناها كلّما تقدَّمَ ابنه في العمر حتى بلغَ سِنّ المدرسة، حيث تنقلَ به خلال سنوات التعليم الخمس الأولى بين ثلاث مدارس بحثًا عن البيئة الآمنة لابنه.

ويُشيرُ إلى أنه، وبالرغم من ذكاء محمد، لكنه كان يتعرضُ لسوء المعاملة من قِبَل زملائه ومعلِّميه، ووصلتْ في كثيرٍ من الحالات إلى الاعتداء الجسدي بالضرب، وهو ما أثّر سلبًا في حالته الصحية، وبدأَ يعاني من نوبات عصبية تتقاربُ كلّما زاد الضغط النفسي عليه.

عندما دخل مُحمد الصف الخامس، من فصول التعليم الأساسي، لم يجدْ له قبولًا في المدرسة، وزادت معاناته أكثر؛ ما جعلَ الأب ينقل ابنه إلى مركزٍ لذوي الاحتياجات الخاصة.

لكن الأب الذي اعتقد أنه وجَد المكان والبيئة الآمنة لفلذة كبده تفاجأ؛ كونه لم يجد التعامل والاهتمام الذي كان يأملهما لابنه؛ الأمر الذي جعله يسحبُ ابنه، ويبقيه في البيت.

                                       نافذة أمل

يقولُ والد محمد إنّ نافذة الأمل فُتِحتْ لابنه عندما عرض عليه الدكتور حمود الخميسي، من الهلال الأحمر اليمني، أنْ يأخذ ابنه إلى روسيا، حيث يتم الاعتناء بمثل حالاته.

سافر الوالد وكلّه أمل…. يقول: «سافرنا إلى روسيا، وهناك أدخلتُ ابني معهدًا متخصِّصًا لمدة 6 أشهر، وكان هناك تحسُّنٌ كبيرٌ لحالته، وبدأ يتعلمُ ويُظهِرُ قدراته، لكن ….».

ما إنْ فُتِحتْ نافذة الأمل حتى أغلقها قرار رئيس الاتحاد السوفيتي آنذاك، ميخائيل غورباتشوف، في حزيران (يونيو) من العام 1987، بتطبيق برنامج البيريسترويكا (إعادة الهيكلة).

يقولُ الحاج أحمد: «كنّا نُعامَلُ كمواطنين روس، لكن عقب إعلان الرئيس لبرنامج البيريسترويكا لم أستطِع الاستمرار؛ نظرًا لغلاء المعيشة، فعدتُ أنا وابني إلى اليمن، حيث لم يتم قبوله في أيّ مدرسة».

هنا يتجلّى حجم المأساة التي عاناها (محمد)؛ نتيجة عدم اعتناء الدولة بحالته، إذ لو توفرت له بيئة مناسبة لكانَ بالإمكان أنْ يُبدعَ كما هو الحال مع المشاهير والعظماء من ذوي الإعاقة في العالم.

يُشارُ إلى أنّ مِن بين ذوي الاحتياجات الخاصة مَن يمتلكون مواهب خاصة كالتي يمتلكها مُحمد في علاقته بالأرقام، ومثل هذه المواهب لو توفرت لها الرعاية اللازمة لاستطاع المعاق تحقيق نتائج فارقة في علاقته بموهبته، وهذا يتطلبُ من الدولة والمجتمع التعامل المختلِف والواعي مع هذه الحالات.

   
 
إعلان

تعليقات