Accessibility links

إعلان
إعلان

وجدان محسن الشاذلي
(يقولون إني متّ، وأنا أحدثكم، يقومون بحفر قبري في الخارج…)

تلك الجثة المسجّاة في الزاوية الشرقية من الحجرة، والتي تنتحب أمي وزوجتي عند قدميها، قيل بأنها جثتي…!

إذن من أنا؟

إذا كنت ميتًا.. فماذا أفعل هنا؟!

ما هو الموت؟ لا يبدو لي على الإطلاق مثلما كنت أتخيله في ذروة أفكاري وهلوساتي…!

لم تطرق تلك الحسناء باب غرفتي، لتطلب منّي الخروج برفقتها إلى الشارع، تتأبط ذراعي وتجرني من شارع إلى آخر في اتجاه المقبرة، وتطلب أن أضطجع في أحد تلك القبور المفتوحة وأغمض عينيّ؛ فأذهب في غفوة طويلة….

هل يعني الموت انتهاء صلاحية جميع تلك الفواتير التي تمتلئ بها رفوف البيت، إغلاق دفاتر الديون في دكان العم صالح، وأن يحمل عن كاهلي شخص آخر ثقل هؤلاء الأطفال؟! هل يعني ذلك أنني لم أعد مضطرًّا بعد اليوم أن أسلك طرقًا ملتوية للوصول إلى المنزل…؟

يُلحّ عليّ السؤال….

– ترى ما هو الموت؟

هل هو تلك الغفوة التي تلي الحياة، أم الصحوة التي تسبقها؟!

مشحونًا بالسؤال أقف على عتبة الباب، أطالع النسوة الوافدات لمشاركة أمي وزوجتي طقوس النواح على جثتي، مثلما جرت العادة.

أصغي لأصواتهن التي تعلو وتنخفض وفق إيقاع منتظم كلما دلفت إحداهن إلى الحجرة، وكلما توقف سيل الوافدات.

كانت تنازعني جملة من المشاعر المتناقضة… تارة أشعر برغبة جارفة في الضحك على هؤلاء النسوة المولولات على جثة هذا الميت الحي، وتارة أخرى تنتابني رغبة شديدة في مشاركتهن البكاء…!

واكتظت الغرفة بالنسوة، تعالت أصوات النحيب وأصبح الهواء ثقيلًا بشكل لا يطاق، فشعرت بالضيق يتملكني؛ فقررت الخروج لبعض الوقت.

عند عتبة باب المنزل، يقف أبي وشقيقي أكرم، وكأن الطير وقع على رأسيهما، يتهامسان على الأرجح في شأن أمور تتعلق بجنازتي…

جرجرت قدمي صوبهما، وقبل أن أصل توقفت بجانبهما سيارة أجرة يبدو أنهما كانا في انتظارها، صعد أبي في المقعد المجاور للسائق، ولحق به أكرم في المقعد الخلفي، قطعت بدوري المسافة المتبقية بيني وسيارة الأجرة في وثبتين بعد أن قررت مرافقتهما.

حاولت أن أفتح باب السيارة دون جدوى، كانت يدي تهوي في الفراغ، ولم يلزمني أكثر من لحظة لأفهم.. لقد أسعفتني ذاكرتي السينمائية الجيدة بجملة من المشاهد والمحاولات الخرقاء لأرواح وأشباح في يومها الأول وهي تحاول أن تتصرف كأشخاص ما زالوا على قيد الحياة! ابتسمت لهذه الفكرة وحشرت جسمي عبر النافذة في المقعد الخلفي بجانب أكرم.

كانت في البدء مجموعة من الهمهمات والأصوات المبهمة التي تصل إلى أذني منذ الصباح، همهمات غير مفهومة تصيب رأسي بصداع مجنون…!

مع الوقت أصبحت تتضح أكثر، أستطيع أن أجزم الآن بأنني قادر على سماع أفكار الآخرين.. بكل وضوح يمكنني سماع ذلك الصوت الذي يتحدث في رؤوسهم!

وبقدْر ما أدهشني هذا الاكتشاف، بقدر ما أربكني وأخافني!

أستطيع أن أسمع الآن الحديث الذي يدور في رأس سائق التاكسي: يا فاتح يا عليم، من الصباح أول مشوار على طول للمقبرة، الله يستر!

كان صوت أبي أقل وضوحًا، كان يصلني واهنًا ومتقطعًا: الله المستعان، لم يجلب لنا سوى الهم في حياته وبعد موته!

ثم صوت شقيقي أكرم أكثر وضوحًا: الآن القبر والكفن، وعشاء الضيوف المعزين (أهل البلاد) بيكلّف أقل حاجة مائة ألف لا حول ولا قوة إلا بالله…

توقف التاكسي عند البوابة الكبيرة للمقبرة، ترجّل منه أبي وأكرم، وبقيت أنا في الداخل أراقب المشهد عبر نافذة السيارة، ذهب أبي مباشرة صوب حجرة حارس الأموات، وهي حجرة مربعة بنافذة واحدة ملاصقة على يسار البوابة، وتبع أكرم أبي، ثلاث خطوات، ثم توقف في منتصف المسافة ما بين التكسي والغرفة كأنما تذكر شيئًا.

أكمل أبي طريقه لوحده، وذهب يطرق باب حجرة الحارس، فخرج له رجل كهل في منتصف الخمسينيات تقريبًا، كان بالتأكيد حارس المقبرة.

بالمناسبة، لماذا يضعون حارسًا على الأموات؟!

فالأموات حتمًا لن يهربوا، واللصوص لن يجدوا لديهم شيئًا ليسرقوه.. سبق وأن سُرقت منهم حياتهم بأكملها! ثم إنّ هذه المقابر على كل حال، ليست مقابر فرعونية!

لم يأخذ أبي أكثر من خمس دقائق مع حارس المقبرة، ثم عاد أدراجه إلى حيث يقف أكرم، وسمعتهما يتهامسان:

– الرجّال يريد ثلاثون ألفًا ثمن القبر، وعشرة آلاف لشواهد القبر و(اللحود)، قال أبي.

– كما تعلم نحن في نهاية الشهر، وأنا لا أحتكم الآن على ثمن (كيس تمباك)، أجاب أكرم.

– الله المستعان… لم يجلب لنا غير الهم في حياته وبعد موته.. وهذه المرة قالها أبي بصوت مسموع، ثم أردف:

– استغفر الله، أستغفر الله…

– الله يرحمه… ردد الاثنان معًا.

في طريق العودة إلى البيت، كان الصمت بداخل سيارة الأجرة صاخبًا بصوت أفكار أبي وأكرم، أعلى من صوت أفكار السائق:

أكرم: القبر وتوابعه بأربعين ألف، طيب وغداء المعزين كم بيكلف…؟!

– (اللي باقي معي في حسابي بالصرافة ما يتجاوز (١٥٠) ألف؛ وفرتها عشان زواج بنتي زينب).

أبي: (وفرت بواقي راتب التقاعد قرش فوق قرش عشان بسوي العملية حق عيوني، الآن بتروح كلها في الجنازة، وأكيد عاده عليه ديون، بيجون الناس بيطالبونا فيها بعد الدفن، لا حول ولا قوة إلا بالله).

حمدًا لله؛ أنني لم أكن مضطرًّا بعد لسماع المزيد من تلك الأفكار، لقد توقفت سيارة الأجرة للتو أمام المنزل، فكنت هذه المرة أول من غادرها…!

الأمر الغريب والمدهش، طوال تلك المدة التي كنت أصغي فيها لصوت أفكار أبي وأكرم الصامتة، لم تتكون لديّ أي مشاعر أو ردة فعل طوال الوقت تقريبًا.. كنت فارغًا تمامًا من الأحاسيس والشعور والأحكام، شفافًا لدرجة تجعل جميع تلك الكلمات وحمولتها تمر من خلالي دون أن تخدش أو تحرك عصبونًا واحدًا بداخلي، ودون أن تحفز لديّ أية ردة فعل من أيّ نوع كان!

هل يحدث هذا لأني بعيدٌ عن جسدي؟ هل كان ليختلف الحال لو أنني سمعت منهما ما سمعته وأنا بداخل جسمي؟!

أخذت طريقي إلى داخل البيت، مباشرة إلى حيث تنام جثتي، كانت الحجرة ممتلئة على آخرها بالنساء المعزيات، غير أنها الآن أكثر هدوءًا مما تركتها قبل ساعة، لا تسمع فيها غير همس في تلك الزاوية أو الأخرى بين اثنتين أو ثلاث منهنّ يهمسن لبعضهن وهن يتلفتن بطريقة غريبة؟!

شققت طريقي بين ظهور وأرداف النساء المفترشات أرضية الحجرة مباشرة إلى حيث تجلس أمي وزوجتي، كنت واثقًا بأنني لم أعد مرئيًّا، ويمكنني التحرك بحرية. 

حين أصبحت على بعد خطوة واحدة أو اثنتين من أمي، توقفت، وعُدتُ خطوتين إلى الخلف.. لا أريد أن أقترب من أمي إلى تلك النقطة التي يسعني فيها أن أسمع صوت أفكارها؛ أمي على وجه التحديد لا أريد أن أسمع منها فكرة واحدة سيئة عني، أريد أن أظل أنا تلك الفكرة الأجمل التي لطالما رأيتها في عينيها، وأحسست بها في دفء صوتها، حتى وإن كنت أخادع نفسي، وأنا أعرف بأنه ليس هناك أسوأ من أن تخادع نفسك وأنت تعرف بأنك تخدعها!

وقفت هناك على مسافة من أمي وزوجتي أتأملهما، وكأنني أراهما للمرة الأولى… كيف ومتى تكاثرت هذه التجاعيد وغطت وجه أمي، ومتى نبتت تلك الشامة السوداء أسفل أذنها اليسرى، وذلك الأثر للجرح القديم في شفتها العليا، كيف حدث ذلك…؟!

وكانت دهشتي أكبر وأنا أتأمل وجه زوجتي، يبدو أن هذه المرأة لا تكبر على الإطلاق مهما تقدم بها العمر، نفس الوجه الطفولي، ما زالت تلك الطفلة التي رفعتُ (الطرحة) عن وجهها ليلة الدخلة قبل سبع سنوات!

آخر مرة نظرت فيها إلى أمي كانت تقريبًا في طفولتي، ولا أعلم بعدها متى وكيف توقفت عن النظر إليها… أما بالنسبة لزوجتي، أتذكر بأنني نظرت إليها ليلة زفافنا، وربما استمررت بالنظر إليها فيما بعد لمدة شهر العسل كما يسمونه، أو ربما أقل من ذلك!

كان عليّ فقط أن أحرك رأسي بضع سنتيمترات جهة اليسار، يسار أمي، هناك حيث يجلس صغيريّ العزيزين… هل قلت العزيزين؟!

نرجس ويونس، هما أيضًا وكأنني أراهما للمرة الأولى!

نرجس نسخة مصغرة عن وجه أمها، غير أنه أكثر نظارة وإشراقًا.. ومنذ متى تمتلك تلك الغمازتين على خديها…؟ لا أعلم!

وها هو يونس، الذي يمتلك عينيّ أمه ونعومة وسواد شعرها، ثم هذا الفم وتلك الابتسامة لا أتذكر أين رأيتهما من قبل!

كم مرة نظرت إليهم جميعًا من قبل؟! بلا شك كنت أراهم كل يوم تقريبًا، ولكن يبدو أنني لم أكن أراهم حتى وأنا أنظر إليهم، لم أرهم بهذا الوضوح والعمق من قبل – حتمًا – كما أفعل الآن! لا أتذكر على وجه التحديد متى توقفت عن رؤيتهم… حقًّا إن هناك أشياء لكثر ما امتلكناها، نسيناها!

دخل أبي يعربد وسط النساء، ماطًّا صوته: طريق، طريق… ومن خلفه شقيقي أكرم وصديقه صالح، وخلفهم شقيق زوجتي ماهر، كان مشهد دخولهم لا يحتاج إلى الكثير من الذكاء لتفهم النساء في الغرفة بأنه قد حان موعد أخذ الجثة إلى المسجد، إلى المُغتسل على وجه التحديد، فجأة اندفعت بداخل الحجرة عاصفة من الولولة والنُّواح، وكأنها تخرج من حنجرة واحدة، حنجرة وصدر أمي، التي كانت تنتحب عند قدميّ جثتي بحرقة وصمت.

تبعت النعش من البيت إلى المسجد، وجلست هناك مقابل بوابته الرئيسة على دكة أحد المحال التجارية الموصدة، في انتظار أن يفرغوا من تغسيل جثتي والصلاة عليها… 

جلست أفكر في كل ما حدث معي منذ صباح هذا اليوم، وأنا أتمنى لو أن هذا كله مجرد حلم، أو قصة متخيلة لروايةٍ ما، وجدت نفسي متورطًا في عيش أحداثها، وسأفرغ بعد قليل من قراءتها، وسأغادر الكابوس، ولكن لا يبدو الأمر كذلك هذه المرة! يبدو فعلاً أن تلك الجثة في المسجد، والتي سيُقيمون عليها صلاة الجنازة بعد قليل، هي فعلاً جثتي!

ولكن ماذا أفعل هنا…؟ لماذا أنا خارج تلك الجثة، أتابع مشهد موتي وأحداث جنازتي في بثٍّ حيّ ومباشر! لماذا يحدث لي هذا كله؟!

وقطع خيط أفكاري صوت رجل يصعد سلالم المسجد، كان يخاطب رجلاً آخر يجلس بجانبي، ولا أعلم متى جلس هنا ولم أشعر به! لم أنتبه لِما قاله المخاطب في المرة الأولى، وفي الثانية سمعته يقول: ألن تدخل المسجد، ستفوتك الصلاة؟!

فأجابه الرجل الذي يجلس بجانبي بإشارة من يمناه أن يأتي إليه، فاستدار الآخر بدوره من أمام عتبة باب المسجد، وعاد أدراجه في اتجاهنا.

كانا شابين ملتحيين من أولئك الذين يلقبون أنفسهم بـ(جماعة السنة)، أعرفهما جيدًا، سبق وأن كنا في الثانوية العامة معًا، كنت في الصف الثالث الثانوي، وكانا هما في الصف الثاني الثانوي، حين ذاع حينها صيت (جماعة السنة)، وهم ثلة من الشباب الحالمين بإعادة عصر وأمجاد الخلافة الإسلامية، وإقامة دولة (يثرب) هنا في القرن الحادي والعشرين…

وقف الشاب الذي كان يهم بدخول المسجد أمام صديقه، فباغته الآخر بالسؤال: هل ستصلي عليه؟

– ماذا؟

أضاف الآخر: هل ستصلي على ملحد؟!

– ولكن أبيه وأكرم…

– لا بأس، سنذهب إلى المقبرة ونعزيهما، أما الصلاة عليه فلا يجوز ذلك – هداك الله…

طأطأ الشاب الواقف رأسه دون أن ينبس بكلمة، وجلس بجانب صديقه.

بعد برهة قصيرة من الصمت، أضاف الأول: هل تتذكر ما قاله عن شيوخ الإسلام؟

– نعم، أتذكر بأنه قال إن العالِم (أديسون) مثلاً، خدم البشرية باختراعاته، أفضل مما فعلوا شيوخ الإسلام مجتمعين بمؤلفاتهم، التي لم تجلب غير الفتن.. وقال في ختام كلمته ذاك اليوم، إن ذلك الكافر أديسون أحق بدخول الجنة من جميع علماء المسلمين!

كان حوارًا سقيمًا أصابني بالغثيان، ولم يعد بوسعي أن أسمع المزيد، فحملت نفسي بعيدًا عنهما، وأنا أفكر هل أدخل المسجد لأصلي صلاة الجنازة على جثتي، أم أسبقها إلى المقبرة؟

ما أعرفه جيدًا، وما خبرته في حياتي، أن الناس عادة عندما يموت شخص يعرفونه، يتحول في نظرهم بطريقة ما – مهما كان سيئًا – إلى إنسان طيب ولطيف، ويبدأ الناس بمحبته، أو يتظاهرون بذلك مهما بلغت كراهيتهم له في حياته! ولكن الأمر لا ينطبق عليّ هنا على الإطلاق، منذ الصباح لم أسمع أحد يذكر لي فعلًا أو صفة واحدة حسنة، حتى إنه ليبدو لي أن جميع هؤلاء الأشخاص الذين كانوا يكرهونني في حياتي ازدادوا كراهيةً لي اليوم في موتي!

التفتُّ خلفي فرأيت جمعًا غفيرًا من الناس يطاردونني على نفس الطريق إلى المقبرة، في مقدمتهم يهتز نعشي والأياد تتقاذفه، حتى إنهم تمكنوا من اللحاق وتجاوزوني في لمحة، لِمَ كل هذه العجَلة؟!

رأيت في المقدمة أيضًا أبي وعمي، كلّ واحد منهما يتكئ على كتف الآخر بشكل حميمي، أدهشني المنظر؛ كون أبي وعمي على خصام شديد ولم يكلم أحدهما الآخر منذ أكثر من ثلاث سنوات…! فرأيت حينها وفهمت أمرًا آخر في هذا اليوم، وهو أن لا شيء تقريبًا يمكن أن يوحد الناس، ويلملم شتات قلوبهم، أكثر من المصائب!

حثثت خطاي خلفهم بطريقة لا إرادية، وكأن جثتي تسحبني خلفها بفعل قوة سحرية، شققت طريقي بين جموع المتأخرين عن مقدمة الجنازة، مجموعة من الشباب الذين لم تسعفهم أقدامهم على مجاراة سرعة ونشاط من يحملون النعش في المقدمة، وآخرون شباب كسالى يجرجرون أقدامهم بضجر وكأنهم ينفذون عقوبة قسرية فرضت عليهم بالمشي من باب المسجد إلى المقبرة.

في الطريق مررت بشابين يتحدثان عن توقعات (الكلاسيكو) القادم ما بين الريال وبرشلونة، اللذين سيلعبان بعد يومين من وفاتي، وهو أول كلاسيكو سأفوّته منذ أكثر من خمسة عشر عامًا!

على بعد خطوتين إلى الأمام، ثلاثة (شيابة) يناقشون أهوال عذاب القبر، وأحداث الليلة الأولى في العالم الآخر… وعلى بعد خطوتين أخرى إلى الأمام، شابان آخران يحاولان أن يتذكرا السبب الذي أشعل فتيل هذه الحرب في اليمن منذ ثمان سنوات!

واصلتُ طريقي متقدمًا وعيناي على النعش الذي تتقاذفه الأيادي وتركض به، واستوقفني صوت فكرة نزت عن رأس أحد الرجلين الصامتين اللذينِ تجاوزتهما، أبطأت من سرعتي والتفتّ إلى الخلف، وكانت توقعاتي في محلها، لا يمكن لأذني أن تخطئ صوت (صالح)، صاحب البقالة المقابلة لبيتنا.

حاولت أن أضبط إيقاع خطواتي على خطواته، فأصبح صوت أفكاره الصامتة يصلني واضحًا وصريحًا: يبدو أن حظك الجميل قد نفد أخيرًا، ومن هنا يبدأ حظي السعيد اليوم بعد صبر طويل دام ثمانية أعوام مريرة.

– لو كان الأمر بيدي، كنت دفنتك بنفسي منذ زمن طويل! 

– أنت لا تستحق أبدًا امرأة مثلها، ولا تستحق طفلين مثل نرجس ويونس! 

– ارقد الآن أيها البغيض في قبرك هذا للأبد، أما بالنسبة لي فمجرد مسألة وقت فقط قبل أن تؤول – أخيرًا – أجمل أملاكك لي وللأبد.. إنها مجرد أربعة أشهر أخرى وعشرة أيام فقط من الصبر الإضافي….

وأنا أصغي لصوت أفكار صالح وأفكار الآخرين الصامتة منذ لحظة وفاتي، فهمت اليوم إلى حدٍّ ما، أن حقيقة الإنسان ليس ما يقوله أو يفعله أمام الآخرين، بل ما يضمره في نفسه، ولا يحدّث به غير نفسه! إن الحياة السرية التي يعيشها الإنسان بينه وبين نفسه فحسب هي حقيقته النقية، والبقية مجرد زيف فضفاض لا أكثر ولا أقل.

حين وصلت إلى المقبرة، وجدتهم قد أنزلوا جثتي بداخل ذلك الجزء الضيق من القبر، وشرعوا في عملية لحدي… 

وقفت هناك على حافة القبر أستعيد شريط أحداث هذا اليوم منذ أن اكتشفت أمر جثتي، كنت مشحونًا بنفس السؤال الذي يطرق رأسي منذ الصباح: تُرى ما هو الموت؟ هل هو الغفوة التي تلي الحياة، أم الصحوة التي تسبقها؟!

تبقت قطعة واحدة من الإسمنت لإغلاق القبر، وأنا ما زلت على حافة القبر أفكر… ما هي الخيارات المتبقية لديّ الآن؟ 

هل أنزل إلى القبر وأضطجع بداخل جثتي، أم أعود إلى البيت؟

   
 
إعلان

تعليقات