Accessibility links

إعلان

متأخرًا عن موعد قدومه المعتاد، دلف باب البار على مهل.. كان البار يغرق في ضوء ذهبي شاحب، وعلى طاولاته الخشبية المكسيّ نصفها بالجلد الأحمر يتناثر بعض السكارى الذين لن يطول بهم المقام قبل أن يغادروا.

انحرف قليلاً إلى اليمين، وبدأ بخلع معطفه الرمادي الذي يصل حتى ركبتيه. لاحظت النادلة، التي كانت تنتظره بدورها لأكثر من سبب، أن شاربه ولحيته لم يشذبا مؤخرًا.

طاولته المعتادة شاغرة يتوسطها لوحه بيضاء صغيرة بحامل معدني كُتب عليها “Table 2 – Reserved“، تقع في الركن الأيمن من صدر البار، بحيث يمكنه الحديث مع من يقف خلف المصطبة بدون أي جهد، خلع قبعة الصوف الروسية وهو يجلس على المقعد، بدت عيناه اللوزيتان وكأنهما تغرقان في محجريه اللذين اتسعا مؤخرًا أيضًا. لوّحت له النادلة ذات النهد النافر والعينين الذابلتين، مشيرة بأصبعها أن يمنحها برهة، فعلت ذلك بينما رسمت على وجهها ابتسامة مهترئة تعبت وهي تعيد ارتداءها أمام كل زبون.

لحظات، وكانت تتجه نحوه، وهي تحمل قنينة شراب كونياك من نوع “Rémy Martin” وكوب زجاجي رباعي الشكل فيه عدد من مكعبات الثلج، وضعتهن على الطاولة.. استدارت لتلتقط من على المصطبة أيضًا صحنًا صغيرًا فيه مكسرات، أوراق النعناع، وقطع ليمون مدورة، وبينما كان يحاول تجنب نظراتها الحانقة وجد نفسه يقول بلا مقدمات:

 لم يكن هناك فتاة أخرى؟

 حقًّا؟! ولماذا تعتقد أنه يهمني إن كنت تنام مع غيري؟

 لأنّ نظراتك تمزقني!

 أنت تعرف أنه لا يفترض بنا مواعدة رواد البار، ورغم أني كسرت تلك القاعدة أمام إلحاحك العجيب، جئتك ولم تفتح الباب اللعين؟ ألا ترى أن في ذلك قلة احترام؟

 أنت على حق، ولكنني كنت على وشك أن ….

تلعثم وابتلع صوته، ولكنها لم تمهله:

 أن ماذا؟ أرجوك لا تخبرني أنك كنت على وشك أن تشنق نفسك، فقد نفد كل مخزوني من الشفقة.

 كلا ليس كذلك، كنت على وشك أن أكتب!

انبثقت فقاعة ابتسامة من فمها، ورغم أنها كانت بمسحة ساخرة إلا أنها لم تخفِ تعجبها أيضًا من هذا الرد.

 هل قررت أن تصير شاعرًا؟

 ليس كذلك، أنا فقط أعتقد أن الكتابة ستساعدني على تجاوز ون ….

قبل أن يكمل جملته التفتت النادلة على وقع نداء زبون آخر، وكان عليها أن تغادر. سكب من الكونياك في الكأس، علق قطعة ليمون على حافته، وألقى وريقات النعناع على سطح السائل الذهبي، مع كل رشفة كان الماضي يطفو على سطح أفكاره مجددًا، وقبل أن تعود النادلة لمتابعة الحديث كان قد أنهى كأسه الرابع، مفعول الكونياك أتى أُكله، وبدأت الكلمات تداعب أطراف أصابعه، شعر أنه على وشك أن يقذف بعض الأسطر، إنها فرصته ليتقيأ خيبته.

كانت رياح كانون الأول الجافة تلفح وجهه في الخارج، وندف الثلج اللزجة تزيد خطواته ارتباكًا، تذكر وهو يمسك عمود إنارة كي يستعيد توازنه أنه التقى بـ ليندا أول مرة ذات ليلة من ليال ديترويت الباردة.. انزلقت سيارة والدها على الطريق السريع وسط عاصفة ثلجية، وقرر بشهامة العربي أن يساعده ويوصله إلى البيت قبل أن تقضي عليه برودة نهاية العام الوحشية، ألحّ الأب أن يدخل الشاب إلى منزله ويتناولون العشاء سوية كنوع من الشكر لصنيعه، وعندها التقى فتاة أحلامه التي ستمزق قلبه بعد عشرين شتاء. قفز قلبه من مكانه وأدرك أنه على استعداد أن يصنع أي شيء فقط لينال إعجابها، ترك كلية الآداب وأصبح مهندسًا لأجل عينيها، ولأجلها أيضًا لم يترك عيادة في الولاية إلا وزارها. 

وقف على إشارة التقاطع ورفع بصره نحو المبنى الطويل الذي يسكنه، ويبعد عدة مربعات سكنية… انعكاس ضوء سيارة من الشارع المقابل على سطح الثلج جعله يدرك فداحة الموقف، وصعوبة الوصول إلى البيت في هكذا حالة، وتحت وطأة الوجع الذي قضاه أمام الورق في شقته آخر أسبوع قرر العودة إلى البار.

بيدين فارغتين توجهت النادلة نحو كومة الحزن على طاولة رقم 2:

 لماذا عدت مجددًا؟ أحمد، أرجوك إذا كنت تعتقد أنني غاضبة منك، وهذه طريقتك في الاعتذار، فأنت مخطئ.. حاول أن تتجاوز ما تمر به، وفي كل الأحوال أنت زبون وصديق قديم.. يمكنك المغادرة.

  كلا، لم آتِ للاعتذار، كل ما في الأمر أن هذا هو المكان الوحيد الذي لا أتذكر فيه أنني عاجز عن إنجاب الأولاد والكلمات.

*عرفات مصلح – الفائز بالمركز الرابع في جائزة الربادي للقصة القصيرة (الدورة الثالثة).

   
 
إعلان

تعليقات