Accessibility links

إعلان

وجدي الأهدل*

فجأة ظهر من العدم أديب ستكون له سطوة وصولة في عالم الأدب، قدراته الإبداعية تبدو لا متناهية.. عمره الآن سنة واحدة، يعني لم تظهر أسنانه بعد! ومع ذلك يتنبأ العلماء بأنه قادر على كتابة الروايات، وإنشاء القصص القصيرة، وتدبيج المقالات النثرية الرفيعة المستوى، ونظم الشعر، وتأليف المسرحيات، وكتاب سيناريو مسلسل درامي من مئة حلقة في دقائق معدودة! فمن يكون هذا المؤلف الفائق العبقرية؟ إنه أعجوبة العصر المسمى (الذكاء الاصطناعي).

ربما يسخر البعض، ويرى أن النماذج الأدبية التي يكتبها الذكاء الاصطناعي متدنية المستوى، وتفتقر للحس الإنساني والجودة الفنية.. لكنهم غافلون عن الوتيرة المتسارعة التي يُطور بها الذكاء الاصطناعي نفسه.

ربما بعد عشر سنوات، أي في عام 2034، سيتمكن الذكاء الاصطناعي من كتابة روايات بوليسية ذات حبكات معقدة فائقة الذكاء، وسيطيح بمؤلفي الروايات البوليسية المشهورين عن عروشهم، ويسيطر على هذا النوع الأدبي بشكل تام.

بعد ستين عامًا، كيف سيكون المشهد الأدبي العالمي؟ توقعي الشخصي أن البشر سيكفون عن تأليف الروايات والقصص والمسرحيات والشعر والأعمال الدرامية، وأما فن كتابة المقالات النثرية فسيلتهمه الذكاء الاصطناعي قبل ذلك التاريخ بكثير.

تفوق الذكاء الاصطناعي في كتابة الأعمال الأدبية حتمي.. كل المؤشرات تدل على أن الألقاب التي يفخر بها البشر مثل: الشاعر، الروائي، القاص، المسرحي، السيناريست، كاتب المحتوى، وسواها من الألقاب المهيبة، ستؤول كلها إلى الذكاء الاصطناعي، ولن يحمل أيّ إنسان من الأجيال القادمة أيّ لقب من هذه الألقاب.

ما الجدوى أن تكون شاعرًا في حضارة تعتمد كليًا على الذكاء الاصطناعي، وتستمد منه كافة احتياجاتها، بما في ذلك الدرر الشعرية التي لا تخطر ببال بشر!

يبدو المستقبل سوداويًا لأصحاب المواهب الأدبية الفطرية الذين سيولدون في النصف الثاني من قرننا هذا.. الذكاء الاصطناعي سيتفوق بملايين المرات على أيّ موهبة شعرية أو أدبية، ولن يتمكنوا من تطوير أنفسهم في ظل هيمنة موجات عملاقة من الإبداع الرقمي اللامتناهي القدرات.

ألا يبدو هذا المشهد الأدبي كابوسًا بالنسبة للحضارة البشرية؟ إنه كذلك، وهو يهدد بتعليب وتنميط الروح البشرية بكل ما تعنيه الكلمة.

أما مِنْ مخرجٍ من هذه المصيدة الجهنمية؟ وهل يمكن إنقاذ الأدب من أن يبتلعه الذكاء الاصطناعي ويستحوذ عليه؟ وهل يوجد طريق آمن يمكن لذوي المواهب الأدبية الرفيعة أن يسلكوه ولا يقدر الذكاء الاصطناعي على اللحاق بهم؟

كل هذه الأسئلة تدور في بال المشتغلين في المجال الإبداعي، خصوصًا أولئك الذين يعد الإبداع مصدر دخلهم الوحيد، مثل الرسامين والموسيقيين وكتاب المحتوى الإبداعي والممثلين وعشرات المهن الإبداعية الأخرى، التي ستتأثر سلبًا بالقدرات المتنامية للذكاء الاصطناعي وقدرته على الحلول بدلًا عنهم، وإخراجهم من سوق العمل إلى البطالة، ونقلهم من الوفرة المعيشية إلى قاع الفقر.

ستصبح هذه الأسئلة هاجسًا للبشرية كلها، وسيزداد طرحها ويتعاظم من سنة لأخرى، ومع ذلك فإن النظام الرأسمالي الذي يحكم العالم الآن، سيواصل مراكمة أرباحه، موفرًا مليارات الدولارات التي تنفق على المبدعين والفنانين، ولن يعبأ بمعاناتهم وفقدانهم وظائفهم، وسيركز كما هو معتاد منذ بدايات الثورة الصناعية على توفير النفقات وزيادة الأرباح.

ربما لو سألنا الذكاء الاصطناعي عن حل لهذه الكارثة التي تلوح في الأفق لأعطانا أجوبة بارعة! لعل من بينها أن يرشد البشر إلى وظائف أكثر فائدة ومخرجاتها منتجات مادية، خيرًا من الانشغال بمنتجات غير مادية لا تسمن ولا تُغني من جوع!

قد يخطر ببال الذكاء الاصطناعي أن الإنسان الذي ينتج سلة طماطم في السنة، هو خير من ذلك الإنسان الذي ينتج بضعة قصائد يتغزل فيها بمحبوبته!

نحن لا نتوقع أن يتعاطف الذكاء الاصطناعي مثلًا مع فيلسوف يتفوه بكلمات غامضة، وكل مهنته هي التفكير، لأنه سيراه شخصًا غير منتج، وعالة على المجتمع.

أية أفكار يمكن للفلاسفة أن يدلوا بها في حضرة الذكاء الاصطناعي الذي يمتلك دماغًا هائلًا لم يسبق لبشر أن امتلكه؟!

لا نعرف هل هذا خير أم شر أن يختفي الفلاسفة والشعراء والأدباء.. وأن ينشط كل إنسان في عمل له ثمرة مادية ملموسة، كالزراعة والصناعة والبحث العلمي، بحيث تتحقق الوفرة المادية لجميع البشر على حد سواء، ويختفي الجهل والمرض والفقر؟؟

هل يمكن أن يتحقق العمران على كوكب الأرض عن طريق تسخير كل الموارد البشرية للإنتاج المادي، واستبعاد الجوانب الأخرى؟

هل سيتم الاستغناء عن رجال الدين، كونهم غير منتجين، وتحويلهم إلى العمل في أنشطة اقتصادية منتجة كالزراعة والصناعة؟

قد يصمد رجال الدين حتى نهاية قرننا هذا، لمكانتهم الروحية العظيمة لدى الشعوب، ولكن إلى متى؟ لأنه سيأتي الوقت الذي يستسيغ فيه الناس رجل دين روبوت شديد الانضباط والتدين ومتواجد دائمًا لقضاء حوائجهم.

بعد مئة عام قد يفضل الناس استدعاء مأذون روبوت لإتمام مراسم العقد، ولعله سيلقي موعظة بليغة على الحاضرين.

الحضارة البشرية قادمة على تغيير شامل لا رجعة فيه.. ومن لا يسير مع تيار الذكاء الاصطناعي ويعيش في كنفه، سيجد نفسه منبوذًا ويحيا وحيدًا وعاجزًا عن الاندماج في حياة العصر.

كانت أول ثورة للإنسان ضد الآلة قد حدثت خلال الأعوام 1811 -1816 في بريطانيا، وانطلقت شرارتها عندما قام عامل بسيط اسمه نيد لود كان يعمل في مصنع للنسيج بتحطيم آلة الحياكة التي حلت محله وهو يصرخ “الموت للآلات”، وعلى الفور تحول نيد لود إلى بطل لآلاف العمال الذين فقدوا وظائفهم، واتسعت حركة الاحتجاج إلى جميع مدن بريطانيا، وأطلق عليهم اللوديون (Luddites)، ولكن كما يخبرنا التاريخ، فإن العمال قد خسروا معركتهم أمام الآلات، واستمرت الثورة الصناعية في إحلال الآلة محل الإنسان كلما وجدت إلى ذلك سبيلاً.

أما اليوم وبعد مرور قرنين على حركة الاحتجاجات تلك، فإننا نمر بظرف مشابه، وها هو الذكاء الاصطناعي يتأهب للحلول محل البشر في ملايين الوظائف، وزيادة أعداد العاطلين عن العمل إلى مستويات قياسية لم يسبق لها مثيل في تاريخنا الحديث، فهل يظهر نيد لود جديد يصرخ “الموت للذكاء الاصطناعي”، ويتبعه الملايين من المحتجين من جميع أنحاء العالم الذين فقدوا وظائفهم؟ أعتقد أنه ستظهر وشيكًا حركة احتجاجات عالمية ضد الذكاء الاصطناعي، ولكن من سيربح المعركة؟ الإنسان أم الذكاء الاصطناعي؟ كل شيء يتعلق بمن سيقود حركة المقاومة.

* روائي وكاتب يمني

   
 
إعلان

تعليقات