Accessibility links

إعلان

وجدي الأهدل*

إلياس كانيتي روائي وكاتب مسرحي وباحث ألماني، مواليد 1905، ينحدر من أصول إسبانية يهودية، هاجر إلى بريطانيا عام 1938 هربًا من السلطة النازية، وحصل على جائزة نوبل سنة 1981.

أبرز أعماله المسرحية: الأباطيل، كوميديا الأباطيل، المرقمون. وتوفي في عام 1994.

قد تبدو العبقرية في أذهاننا شيئًا بالغ التعقيد، لكن هذا الكاتب المسرحي يصدم قراءه ومشاهدي مسرحياته بأن العبقرية قريبة المنال، وفي متناول اليد، بشرط أن يبسط الإنسان راحته ليقطفها، ومسرحيته “المرقمون”(1) التي تربو صفحاتها على المائة هي نموذج رائع للأدب المسرحي الجاد، وفي الوقت نفسه تخلو هذه المسرحية من الصعوبة والحبكات العسيرة الفهم والجمل البلاغية الطنانة، وذلك على الرغم من جسامة الرسالة التي تحملها، ومضمونها المُحرض ضد كل نظام ديكتاتوري يُلغي شخصية الإنسان وحقه في الحرية.

تقوم المسرحية على فكرة متناهية في البساطة، وهي بساطة أبعد ما تكون عن السذاجة، إذ هي أشد وقعًا في النفوس من مليون خطبة، عن مجتمع خانع خاضع، تحول إلى قطيع، وكل فرد فيه يحمل رقمًا يشبه تاريخ الانتهاء الذي يوضع على المعلبات، وعندما يولد كائن بشري في هذا البلد، غير المسمى، تُعطى له قلادة يحملها طيلة حياته، مكتوب فيها عدد السنوات التي سيعيشها، وعندما يحين موعد وفاته يقوم (الحافظ) بفتح القلادة، المحظور على أحد غيره فتحها، ويأخذ روحه.

الرجال والنساء ينادون بعضهم بعضًا بعدد السنوات المكتوبة لهم مُسبقًا.. المرأة التي رقمها 58 تعرف ويعرف الجميع أنها ستعيش 58 سنة فقط.

يتحكم طاغية سماه المؤلف بـ(الحافظ) في حياة هؤلاء الناس، فهو أولًا يحرمهم من حقهم البديهي في أن يحملوا أسماءهم، وثانيًا يضع حدًّا محدودًا لأعمارهم، وحين نحلل هذه الفكرة نجد أن كل طغاة الأرض يمارسون هذا الجنون على شعوبهم تحت أقنعة مختلفة.

وبالنسبة للديكتاتور الذي بلغ به الاستكبار مداه، فإنه ما عاد بإمكانه أن يتعامل مع مواطنيه كذوات تحمل أسماءً وتخفق في جوانحها الأفكار والمشاعر، وإنما كنكرات يُشار إليها بالأرقام، فالشعب هو كذا مليون لا أكثر، كما أن الديكتاتور يمنح نفسه حق الحياة والموت، وهو يمارس هذا الفعل الإجرامي عندما يخوض حروبًا أهلية أو خارجية، وعندما يقمع معارضيه والثائرين في وجهه ويسلبهم أرواحهم.

وفي القرآن الكريم توضيح بليغ لهذا النهج الديكتاتوري الذي يحاول منازعة الخالق في حق الحياة والموت حين يرد ذكر الطاغية (نمرود) الذي قال عن نفسه: “أنا أحيي وأميت” (البقرة – الآية 258).

تتكون المسرحية من فصلين، ويتميز الفصل الأول ببناء مشهدي مُفارق للتصاعد الدرامي المعهود، حيث يفتتح إلياس كانتي مسرحيته بسلسلة من المشاهد المكثفة لشخصيات مختلفة في كل مرة، وبالتتابع تتجلى أطروحته الفكرية الهائلة، ونتشرّب حبكته السلسة، ومهارة الربط التي تجمع خيوط المشاهد المتفرقة في نسيج واحد بفضل بطل المسرحية الذي يشكل القاسم المشترك ويقود حركة التغيير.

وعناوين المشاهد في الفصل الأول تعطي فكرة واضحة عن أسلوبه المسرحي: “دردشة حول سالف الأيام، أمٌّ تجري خلف ابنها الصغير، خمسون وصديقه، الدعاية، الجدة والحفيدة، زميلان، الزوجان، خمسون وامرأة شابة أثناء دفن طفلها، السيدان الشابان، السيدتان، خمسون أمام حشد من الناس، الحافظ وكورس من غير المتساوين في لحظاتهم”.

ينجح بطل المسرحية (خمسون) في كشف ألاعيب الطاغية (الحافظ) عندما يطلب منه تأجيل موعد موته الذي أزف، ويعقد معه صفقة.. وعندها يتأكد (خمسون) أن هذا الطاغية صنع وهمًا حول قوته وجبروته، وأنه بعدم الاستسلام له يمكن هزمه.

(خمسون) الذي تجرأ وفتح قلادته واكتشف خلوها من أي تاريخ يحدد موعد وفاته، تحول إلى رجل ثوري ينشر الوعي الجديد، ويُبشر الناس بأنهم لن يموتوا إذا فتحوا قلائدهم، بل سيعرفون الحقيقة.

تقوم الثورة وتتخلص الجماهير من القلائد الفارغة التي كبلت أعناقها منذ الميلاد، ويتوارى (الحافظ) بعيدًا، وتنهار هالته الأسطورية، ويبدأ عصر جديد، عصر الحرية، حيث يعيش كل فرد بقدر ما يريد.

صدرت مسرحية “المرقمون” باللغة الألمانية عام 1952، ويستطيع المشاهد أو القارئ أن يلمح شخصية (هتلر) بين السطور، وكذلك يُحس بمقدار سطوة الحزب النازي على الشعب الألماني وشدة تحكّمه في حياتهم إبان فترة حكمه.

“المرقمون” مسرحية ثورية، تدعو الجماهير الواقعة تحت الاستبداد إلى التحرر والثورة.

* روائي يمني.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــ

الهوامش:

(1) المرقمون: إلياس كانيتي، مسرحية، ترجمة حسن البحري، سلسلة المسرح العالمي، الكويت، العدد 361، سبتمبر 2012.

   
 
إعلان

تعليقات