Accessibility links

إعلان
إعلان

د. شاكر الأشول

هنالك اهتمام ملحوظ بهجرة المسلمين إلى أوروبا في الآونة الأخيرة بسبب ما أثارته معاناة اللاجئين أخيراً ورحلتهم إلى أوروبا بحثاً عن الحياة والأمان، وهرباً من الدمار والموت الذي حل في ديارهم، ما يثير موضوع هجرة المسلمين إلى أوروبا أيضاً هو رد الفعل الذي يواجه الوجود الإسلامي أو وجود المسلمين من قِبل اليمين المتطرف في أوروبا، والمتابع اليوم لموضوع الهجرة يقرأه وكأنه موضوع جديد وفريد في عالم اليوم، بينما في حقيقة الأمر كانت الهجرات وما زالت واقعاً إنسانياً عبر آلاف السنين الماضية، وكما كانت الهجرات جزءاً من واقع الإنسان، كانت أيضاً عمليتا تأثير المهاجر بالمجتمع المضيف وتأثره به واندماجه به.

وإذا كان المؤرخون يسجلون موجات الهجرة المختلفة من الجنوب إلى الشمال بحثاً عن الماء والحياة، وتحرك الجيوش والإمبراطوريات من الشمال إلى الجنوب، ومن الشرق إلى الغرب بحثاً عن الثروات والسلطان، فإن جينات الإنسان وحمضه النووي يسجل تاريخاً معقداً من الهجرات عبر آلاف السنين، فحص حمضك النووي يفصح عن سلالتك، وسلالتك تفصح عن تاريخ طويل من الهجرات تجعلك تدرك أن هجرات أجدادنا التي لا شك كانت مليئة بالتحديات مهدت لمجتمعات اليوم، وكذلك هو الحال لهجرة المسلمين اليوم ووجودهم في أوروبا، فالتحديات التي يواجهونها اليوم والصراع الثقافي والحضاري الذي نشهده سيشكل مجتمع المستقبل.

ربما من السذاجة أن نعتقد أن يكون وجود واندماج المسلمين في أوروبا سلساً ومرناً في وقت نجد فيه أن المجتمع الأوروبي يحاول أن يحافظ على هويته، وفي مقابل وجود هوية إسلامية تحاول أيضاً أن يكون لها وجود طبيعي بداخل المجتمع المضيف، إذاً من الطبيعي أن يكون هناك صراع بين مجتمع أوروبي له ثقافة بأطر معينة ومجتمع بدين مختلف وثقافة أخرى دخيلة بهوية قوية وإرث حضاري وثقافي توسعي.

هجرات المسلمين بين الأمس واليوم

عندما هاجر شخص أو مجموعة إلى مجتمع جديد في الماضي، فإن المجتمع المضيف مع مضي الوقت امتص اختلافاتهم ووجدوا أنفسهم بعد جيل أو جيلين أو أكثر جزءاً من المجتمع المضيف، وهذا ما حدث شرقاً وغرباً على اختلاف الثقافات المهاجرة والثقافات المضيفة. وسواءً كان الشخص جندياً فارسياً أو حبشياً أو تركياً في اليمن، أو كان حاجاً عراقياً أو بخارياً في مكة، أو يمنياً في جنوب الأردن، أو في شمال إفريقيا، أو يونانياً في مصر أو في سوريا أو حتى مغربياً في أميركا؛ لذلك فالمسلمون الذين هاجروا في الماضي ذابوا في المجتمعات التي استقبلتهم، خصوصاً أن هجرتهم كانت فردية أو أنهم واجهوا تحديات الانتقال بشكل فردي. واليوم لم يبقَ من أثر تلك الهجرات على أهلها غير بعض الأسماء والألقاب التي توحي بأصول مختلفة وصبغة جينية في الحمض النووي ما زالت تحتفظ بتاريخ الأجداد وسجل رحلتهم على هذه المعمورة، لقد كان من الطبيعي أن يحدث الاندماج والذوبان في المجتمع المضيف، لأن المهاجر الذي قطع مسافات طويلة انقطع تواصله بوطنه الأم، وبالتالي فقد أصبح المجتمع المضيف وطناً، وأصبح المهاجر جزءاً منه أضاف له وأخذ منه.

أما اليوم فالمسلمون الموجودون في أوروبا يمثلون مجتمعاً مصغراً بداخل المجتمع المضيف، يحاول الحفاظ على قيمه وهويته، ويستمد قوته من تزايد أعداد أفراده، وسهولة الاتصال والتفاعل مع الوطن الأصل والثقافة الأصل وقضايا المسلمين وتحدياتهم، وفي الوقت الذي يمكن لمجتمع المسلمين أن يعيش بسلام ووئام مع المجتمع المضيف، يظهر من المجتمعين جماعات متطرفة تساهم في توتر العلاقات وخلق جو من التهديد للآخر، يجعل الآخر في وضع المبالغة في رد الفعل والتحسب لأي ضرر، وكنتيجة لهذا الصراع سنجد أن العلاقة بين المسلمين والمجتمع الأوروبي في شد وجذب متبادل، يسيطر عليها أحياناً أصوات المتطرفين الذين تجره إلى دائرة العنف والتشددً وأحياناً صوت العقل والإنسانية، وهو صوت الغالبية التي تحاول العيش والتعايش وقبول الآخر بسلام.

الصراع نتيجة حتمية لهذا الوجود الإسلامي في أوروبا، خاصة في ظل الظروف الدولية وانتشار ظاهرة الإرهاب، وعدم الاستقرار في دول الشرق الأوسط، ونتيجة لتلك العوامل التي ربطت بين الهوية الإسلامية والموت والدمار والتفجيرات والحروب، ومع ذلك فيجب أن نقبل بإيجابية الصراع كمقدمة لمجتمع جديد متعايش، يقدم فيه المجتمع الإسلامي والأوروبي تنازلات للقبول بالآخر والعيش بسلام، باعتبار أن ذلك هو الخيار الوحيد لدول أوروبية تحتاج لدماء جديدة لتنمي مجتمعاتها، وللمسلمين الباحثين عن فضاء حر آمن للحياة والسلام بعيداً عن شرقه المثخن بالجراح.

لاستيعاب ما سيحدث علينا أن نفكر بتلك الأسرة المسلمة التي جاءت إلى ألمانيا، أو إلى بريطانيا، وأصبح لديها الأمان والحرية وفرصة التعليم والرعاية الصحية، فأبناؤها وبناتها سيتعلمون ويتخرجون وينخرطون في المجتمع، قد يحافظون على هويتهم الإسلامية، وقد يتنازلون عن الكثير منها، لكن وجودهم وأسماءهم في المجتمع ستكرس فكرة مشاركتهم المجتمعية، وأنهم أصبحوا جزءاً من المجتمع الألماني أو البريطاني، خاصة لو كانوا مولودين هناك، وقد تكون الصورة أكثر وضوحاً عندما نفكر بمستقبل أبنائهم وأحفادهم وأحفاد أحفادهم، جيل وراء جيل وراء جيل يضيف فيه الإنسان إلى مجتمعه، ويأخذ منه، ليمتلك هوية جديدة، وليصبح المسلم في أوروبا، مع الوقت، أوروبياً مسلماً، وفي أحيان أخرى أوروبياً فقط.

سيظهر التطرف الإسلامي والأوروبي في أوروبا بين الحين والآخر، فاستعداء الآخر طبيعة بشرية ثابتة لا تتغير، من يتغير فقط هو الآخر، لكن تدريجياً وعلى المدى البعيد سيندمج المسلمون بالمجتمع الأوروبي، فذلك أمر لا يمكن مقاومته، وسيتأثر المسلم بالمجتمع الأوروبي مثلما سيتأثر المجتمع الأوروبي بهؤلاء المسلمين القادمين الذين يأتون بأنفسهم وبكل شيء يملكونه، وهم في حالة استعداد لأخذ ما يستطيعون من أوروبا.

 

   
 
إعلان

تعليقات