Accessibility links

محمد يحيى الزبيري (ابن الزبير) الشاعر المعتز بنفسه


إعلان

وضاح عبدالباري طاهر*

إن الحديث عن الأستاذ الأديب الشاعر اللغوي محمد يحيى الزبيري لا يبلى ولا يمل. فمع حبي للأدب والشعر منذ صباي إلا أن تعرفي على الأستاذ محمد يحيى الزبيري أثناء تردده لزيارة الوالد خاصة كل يوم جمعة، والإصغاء لأحاديثه الشيقة، ومذاكراته الأدبية، والتي كانت تنم على عمق معرفته بالأدب والشعر العربي جعلني أعشق التراث العربي وأحبه حبًّا جمًّا.

لم يكن الأمر بالنسبة لجدتي – رحمها الله – ووالدتي كذلك، فقد كان مجيء الأستاذ الزبيري بالنسبة لهما مصدر قلق وإزعاج؛ إذ كان يعني أن يتخلوا عن مداعتهم المفضلة، وإيثاره بها؛ فقد كان الأستاذ الزبيري من محبي المداعة وعشاقها.

لذلك طالما كنت أنا والخال العزيز يحيى عتيق في بعض الأحيان نحاكي صوته عند الباب للسؤال عن عبدالباري، فيكون الرد من جانبهم حاسمًا وسريعًا بأنه غير موجود، ثم لا نلبث أن نضحك ملء أفواهنا على ذلك المقلب الذي أجدنا حبكه.  

 ولد شاعرنا محمد يحيى الزبيري (ابن الزبير) كما يحلو له أن يُنادى مطلع الثلاثينيات من القرن العشرين في عزلة الشعوبة مديرية المعافر بمحافظة تعز، وتلقى علومه الأولية على يد قضاة القرية وفقهائها ثم انتقل إلى زبيد مطلع الأربعينيات. 

عاد إلى قريته ليعمل قاضيًا بعد أن تبحر في علوم الشرع واللغة، وبعد أن أجازه علماء زبيد بالفتوى في مطلع الخمسينيات، لكنه ما لبث أن غادر أرض الوطن متذمرًا من الأوضاع البائسة آنذاك، متنقلاً بين الحجاز والرياض والكويت ودبي.

نال الشهادة الثانوية من فرع الأزهر بالكويت عندما كان مشرفًا على بيت الطلبة اليمنيين هناك، وعقب اندلاع ثورة السادس والعشرين من سبتمبر هاجر إلى القاهرة؛ لتلقي العلوم العصرية هناك، فالتحق بكلية دار العلوم بموجب ثانوية فرع الأزهر من الكويت. 

لم يمكث ابن الزبير كثيرًا في القاهرة، إذ سرعان ما عاد إلى أرض الوطن في عام 1963 للمشاركة في النظام الجمهوري الجديد، فعمل صحفيًّا ومراجعًا لغويًّا في مؤسسة الثورة والنشر، كما عمل في نفس الوقت مديرًا لإدارة المناهج في وزارة التربية والتعليم من العام 1963 – 1966م نظًرا لشحة الكوادر آنذاك. 

شغل منصب مدير مكتب نائب رئيس الجمهورية عبدالله جزيلان في 1966م، ثم عمل ملحقًا ثقافيًّا للسفارة اليمنية بمصر حتى مطلع العام 1968، ثم عاد إلى الوطن ليعمل مدرسًا في مدارس عدن الثانوية حتى العام 1970م.

أعيد ليعمل مديرًا عامًّا لإدارة مناهج التربية والتعليم بصنعاء عام 1971م، ثم عمل بمؤسسة الثورة عام 1981 كاتبًا ومراجعًا لغويًّا.

انتدب ليعمل مدرسًا للغة العربية في كلية الآداب بجامعة صنعاء، ثم تم تعيينه موجهًا أكاديميًّا للغة والآداب العربية أواخر الثمانينيات.

هذا موجز بسيط عن سيرة حياة شاعرنا لا يفي بما عاشه من أحداث شارك في صنعها، ويلاحظ فيه تقلباته في الحياة الوظيفية وعدم استقراراه فيها، وكما ذكرت سابقًا أن لا أحد يتعرف على الأستاذ محمد يحيى الزبيري (ابن الزبير) دون أن يتذكر له كثيرًا من القصص والطرائف التي تتعلق به وتروى عنه. 

كان ابن الزبير مع ما امتاز به من العلم والأدب رجلاً شديد الاعتزاز بنفسه والاحترام لها، وعلى جانب كبير من حسن الخلق والكرم، فقد كان – رحمه الله – عند استلامه راتبه من الجامعة ينفق كثيرًا منه على بعض الطلبة ومعارفه المحتاجين، وقد كان الأستاذ الدكتور عبدالعزيز المقالح كثيرًا ما يتحدث عن عزة نفس ابن الزبير عند مقارنتها ببعض صغار النفوس.

كان شاعرنا الزبيري صديقًا للأستاذ مساوى الحكمي، وهو أحد النوابغ اليمنيين، ممن درس في زبيد، ثم درس الاقتصاد وأجاد اللغة الفرنسية، وتولى منصبًا كبيرًا في أحد البنوك السعودية وحاز الجنسية السعودية، ثم لما قامت الثورة اليمنية 26 سبتمبر تخلى عن جنسيته، ليعود آملاً في المساهمة في بناء وطنه.

كان ابن الزبير في بعض الأحيان يزور صديقه مساوى في ساعات متأخرة من الليل في أوقات كانت الاعتقالات على أشدها، وعيون الأمن ترصد الناس في كل مكان.  يدق ابن الزبير الباب، فيجيبه مساوى قائلاً بفصاحته المعهودة: 

  • من هذا الذي أغسق فوقب؟

فيجيبه ابن الزبير:

  • افتح يا أبا الحكم طابت ساحتك.. هل لي فيها من متسع؟!

فيرد عليه مساوى:

  • لا، ولا تلامسنَّ جُدُرَها.. والله ما جئتني في هذه الساعة إلا لأكون حرضًا، أو أكون من الهالكين.. انصرف راشدًا، يرحمك الله.

ومن القصص الطريفة التي تحكى عن الزبيري والحكمي أنْ حصل أنّ بعض الأصدقاء ممن كان يتردد على مجالس المقيل عند مساوى الحكمي أن وضع رسالة غرامية على لسان ابن الزبير إلى ربيبة الحكمي، ووضعوها تحت المتكى الذي يتكئ عليه ابن الزبير كعادته، ثم إن الحكمي، وهو في مجلسه، عثر على هذه الرسالة، فقرأها؛ فكتب عليها إلى ابن الزبير يتهدده ويتوعده، قائلاً له: 

من مساوى الحكمي إلى محمد يحيى الزبيري، كنت أظنك مناضلاً جسورًا، ورجلاً وقورًا، فإذا بك تهوي إلى الدرك الأسفل من النذالة. أَتَصْفُر في بيتي، وتهددني بطمث ابنتي من زوجتي؟!

ثم إن ابن الزبير مكث فترة طويلة بعد هذه الحادثة لا يزور مساوى تحرجًا؛ بسبب سوء الفهم الذي حصل بينهما.        

وعندما اشتدت الاعتقالات في اليمن الشمالي هرب ابن الزبير وصديقه مساوى إلى جنوب الوطن، ومكثا فترة هناك، حتى نفدت مصاريفهم، وأوشكوا على الطرد من الفندق الذي كانوا ينزلون فيه. فأخذ مساوى يندب حظه، ويتذكر أيامه الخالية مع زوجته ويقول: 

  • رباه أنت ولي النظر، بعد الطالبية وأبهتها سأقطنُ العرا؟!

فيجيب عليه ابن الزبير من فوره قائلاً:

  •  وتأكل “الخرا!

ثم يأخذا في العراك.

وذات يوم سمعت الأستاذ الزبيري يقول للوالد إنه رأى منامًا غريبًا، إذ كان قد رأى مساوى، وهو يسأله عن بعض شؤونه الخاصة، وهذا المنام قطعة أدبية تذكرنا بمنامات الوهراني.

قال الحكمي للزبيري: 

  • أي بني ما أول ما أنجبته من بنت ابن أبي كلب؟!
  • غلامًا.
  • وما أسميته؟
  • مصعبًا.
  • لكن ليس من تجلت عن وجهه الظلماء، بل من به ادلهمت، واحلولكت، فأظلمت الكون، وأغسقت الوجود، قيل إنه إن تحمل عليه يلهث، أو تتركه يلهث.

فرد عليه الزبيري مصوبًا: أنه – بفتح الهمزة -.

فأجابه الحكمي مستشهدًا ببيت من ألفية ابن مالك:

وإن بالكسرة أمُّ الأحرفِ      تأتي مع القول وبعد الحَلِفِ

يعني أنه يجب كسر همزة إن إذا جاءت بعد القول أو بعد الحلف.

وفي قول الحكمي: (لكن ليست من تجلت عن وجهه الظلماء) مناقضة وإشارة إلى قول الرقيات في مدح مصعب ابن الزبير:

إنما مصعبٌ شهابٌ من الل     ه تجلت عن وجهه الظلماءُ

ملكه ملك رحمة ليس فيه         جبروت منه ولا كبرياءُ

قد سبق القول إن ابن الزبير درس في مصر مطلع الستينيات، وفيها تعرف على فتاة مصرية يهودية، فأحبها وكلف بها كلفًا شديدًا، وكان له صديق يتقاسم معه السكن من أحفاد محمد بن علي الإدريسي حاكم المخلاف السليماني وتهامة، والذي خاض صراعًا مع ابن حميد الدين مطلع القرن الماضي. 

أوغر الشاب الإدريسي، والذي كان شديد السمرة كجده، صدر صديقه ابن الزبير على محبوبته اليهودية، وحذره منها بأنها على صلة بالمخابرات الإسرائيلية، فما كان من ابن الزبير أن استعجل في أمر كان له فيه أناة، وقام بلطم الفتاة، ثم إنه أُسقط في يده، وشعر بفداحة ما صنع، فقال مخاطبًا لها متوسلاً أن تعفو عنه:

يا بنت موسى خففي اللوم رجاءً يا مهاتي    وإذا يدي نالتك بالضرب تناسي سيئاتي

فأنا لموسى نده الأرقى                     بذاك سلي رواتي 

هلا درى الإدريس أني                  ابن الشموس المشرقات 

سل جدك الميمون محتده              سليل النيرات 

عن حاله يوم القدوم               إلى حمى أرض الأباة 

نضوًا تمزق خفه                 ومشردًا عبر الفلاة

من مثل هذا الأسود الغربيب          زير الزانيات 

حتى تمكن بالعنان             معززًا بالأبهاة 

نسى الصنيع كما نسيت      وأنت تحرمني مهاتي

فقال له الإدريسي: أما وقد قلت مثل هذا، فلا سبيل لي إلى إنكاره ورده.. لكن الإدريسي توسل في آخر الأمر إلى ابن الزبير أن يغير قوله: (زير الزانيات) إلى (فحل الغانيات).

عرف شاعرنا الزبيري بالبديهة السريعة، والأجوبة الحاضرة، فذات مرة سمع إحداهن تقول: إن العرب لا يحبون اللون الأحمر، ولا يتغنون به، فأجابها قائلاً: وكيف يكون ذلك، والنبي صلى الله عليه وسلم، يقول: “لئن يهدي بك الله رجلاً واحدًا خير لك من حمر النعم”..

ويقول المتنبي:

مَنْ الجآذر في زي الأعاريبِ        حمر الحلى والمطايا والجلابيبِ  

ظل ابن الزبير وفيًّا لمعاهد صباه، ومواطن حبه الأول أيام طلبه للعلم في زبيد، حتى إنه لما مات شيخه مفتي زبيد السيد محمد بن سليمان، بكى عليه كطفل صغير، ورثاه ورثى زبيد بمرثاة هي من عيون الشعر العربي، وهي على نفس وزن قصيدة المتنبي التي امتدح بها ابن العميد، والتي يقول فيها:

بادٍ هواكَ صبرت أم لم تصبرا       وبكاك إن لم يجرِ دمعك أو جرى

وقصيدة الزبيري في رثاء زبيد ومفتيها:

زخرت مناهلها ومجت أبحرا           فرأى الفتي فيها القراح الكوثرا 

عطشان ساغ له الشراب فما انثنى     إلا وقد عبَّ الكثير فأسأرا

ما لو تعاطته البرية كلها            لأنار في ديجورها وتفجرا 

عن مشرقات في الدروب لمن دجت     دنياه للعلياء تلهمه السُرى 

ما التاج والقاموس إلا ومضةٌ          من قمةٍ لاحت تنير الأعصرا

فبخٍ زبيد بخٍ لحسنك روضة          ونضيد طلع بالمعارف أثمرا

ليت الذي يومًا أعاد لأمه            موسى يعدني يا زبيد فأنظرا 

بلدًا به يومًا تفتق منطقي          نعم الديار لغيرها لن أشكرا 

كم ذا التجلد يا لصبرك عن هوى       ريم بها غضًا تثنى أحورا 

هو من ثوى في مهجتي دومًا ولم        يبرح شغافًا في هواه يسعرا 

هل لا يزال كما عهدته أغيًدا       يسبي القلوب إذا رنا كي يسحرا 

إن تنكر الحب القديم تجلدًا             فكفى بدمعك ناطقًا أن يخبرا 

وفي رأيي أن بيت الزبيري الأخير في حديثه عن كتمان الهوى أبلغ من بيت المتنبي حين قال:

أمر الفؤادُ جفونه فكتمنه         وكفى بجسمك مخبرا

بقي أن أذكر أن شاعرنا الزبيري بعد أن أجيز بالفتوى من علماء زبيد، كان له رحلة إلى الحجاز، وهناك كانت قد سبقته شهرته إلى عالم الحجاز الشهير السيد علوي المالكي، ولما التقى المالكي بالزبيري، ورأى هيئته ومظهره اللذين لا يدلان على ما كان بلغه، فقال له: تسمع بالمعيدي خير من أن تراه، ثم إنه أيضًا بعد ذلك رحل إلى نجد، والتقى فيها بأحد علماء الوهابية هناك، ولعله المفتي والذي قال له عند رؤيته له: 

  • أهلاً أهلاً بالمعطل، يقصد أن الزبيري أشعري العقيدة، يقول بتأويل الصفات الإلهية الواردة في القرآن، وهو بهذا التأويل يعد معطلاً لهذه الصفات. 

فأجابه الزبيري على الفور:

  مرحبًا مرحبًا بالمجسم، ويقصد الزبيري أن الحنابلة والوهابية يقولون بأن الصفات الإلهية الواردة في القرآن الكريم كاليد والعين صفات حقيقية لله سبحانه وتعالى، وهم بذلك يجسمون الباري. 

فقال له النجدي:

وماذا جاء بك عند المجسمة؟

فأجابه الزبيري: عرفنا ما عند المعطلة، وجئنا لنعلم ما عند المجسمة.

وذات يوم، وفي مكان منعزل في البلاد النجدية كان الزبيري مستغرقًا في فكره، شاردًا، فرآه أحدهم وسأله:

  • ماذا تصنع هنا يا زبيري؟

فأجاب:

  • أقلب طرفي في السماء؛ حتى تتواتر الآيات، وتتلاحق السور، ويتنجم التنزيل.

فذعر هذا الشخص، وقال له:

  •  يا مجنون!

فأجابه الزبيري: 

  • هكذا كل من أنزل عليه الذكر.. وابن الزبير يشير بذلك إلى الآية: (وقالوا يا أيها الذي نزل عليه الذكر إنك لمجنون). 

ولا أدري كيف نجا ابن الزبير بخيط رقبته من الوهابية، مع أن الوهابية لا يسمحون بما هو أقل من هذا بكثير؟!

وأثناء تواجده في الكويت، وفي مناسبة الاحتفال بالمولد النبوي، ألقى الزبيري قصيدة رائعة في هذه المناسبة عارض بها قصيدة شوقي:

ولد الهدى فالكائنات ضياء         وفم الزمان تبسم وثناء

فقال الزبيري رحمه الله:

ولد الهدى فأزيلت الظلماءُ       وتبجست بمياهها الأنواءُ 

وتلبس الديجور جلباب الضحي   وتألقت في أفقه الأضواءُ 

لولادة المختار أفضل مرسل         شرفت بمولده لنا حواءُ 

أمحمدٌ يا خير آتٍ بالهدى         وبكم تبشر قومها القدماءُ 

بمديحك ازددت علوًا في الورى        وتجاذباني المجد والعلياءُ

وأنا الزبيري إليك تحدو ركائبي      شوقًا إليك ولك الفؤاد فداءُ

ابن البلاغة والفصاحة والنهى      من ليس يدرك شأوي الشعراءُ 

وخلاصة البشر الكريم ومنتهى     الأوج الرفيع سمت بي الآراء

فما كان من المسؤولين إلا أن أنزلوه من المنصة، كما فعل العراقيون حين أنزلوا الشاعر عبدالله العلوي حين تغزل بالشاعرة العراقية آمال الزهاوي تغزلاً سافرًا على مرأى منهم ومسمع، وكذلك فعل المسؤولون الكويتيون؛ إذ رأوا أن ابن الزبير امتدح نفسه أكثر من المصطفى صلى الله عليه وسلم. 

 وللزبيري قصيدة رائعة عارض بها قصيدة عبدالرحيم البرعي التي يمتدح فيها أحد شيوخ التصوف في تهامة، وهي:

هب النسيم فماست منه أشجارُ    وغردت في بشام الشيح أطيارُ

فقال الزبيري: 

هب النسيم فلاحت منه أسرارُ     وغردت في غصون الدوح أطيارُ

فأضرمت في فؤاد الصب لفح شجا   فانثال دمع الجوى في الخد مغزارُ

يا ساجع الدوح إبَّانَ الهزيع فكم       تيمت قلبًا فلا آوتك أوكارُ

غرد بلحنك صوتًا فالنسيم سرى     وأُسكرت منه أنهار وأشجارُ

ثم إن ابن الزبير لم ينسَ نصيبه من الدنيا، فقال عن نفسه:  

ويا هزار الصفا وافينا من سبأٍ      بما يروق أقاصيص وأخبار

فأنت فذٌ وحيد الدهر معجزةٌ      ظنت بمثلك أزمان وأعصار

وعبقري أتيت بالفري ومن        يأتيه دومًا أتاه المجد يختار

وكما كان شاعرنا ابن الزبير كلفًا بالفتاة اليهودية التي أحبها بمصر، كان أيضًا مغرمًا بإحدى الحسناوات من الطالبات اليمنيات اللائي كنَّ يدرسن في القاهرة في تلك الفترة، وقد كان يحاول التقرب منها والتودد إليها؛ ليحظى بقلبها، إلا أن والدها كان يخشاه عليها، وكثيرًا ما كان يحذرها منه، فلما بلغ ذلك ابن الزبير، قال مستنكرًا: 

وكيف يظُن بي مثل ذلك، وأنا “منزه عن كل منفِّرِ طبعًا”.

والفقرة الأخيرة مقتبسة من أحد متون العقائد الأشعرية في الصفات التي يتصف بها النبي.

وأثناء تواجده في الكويت صادف قرار إنشاء الجيش، فكان كثير من الملتحين والمتشددين في الدين لا يرغبون في أن يحلقوا لحاهم، ويغيروا زيهم، ويمارسوا التدريب، وكانوا يعدون كل ذلك بدعة في الدين لا تجوز، فلم يجد المسؤولون في الكويت إلا اللجوء للزبيري؛ ليحل لهم هذه المعضلة، فاصطحب ابن الزبير صحيح البخاري معه، وأوقفهم على قصة لعب الأحباش بالحراب في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم العيد، واحتج عليهم بمذهب الشافعية الذين يذهبون إلى القول بكراهة حلق اللحية، لا تحريمها، ذاكرًا أبيات ابن رسلان صاحب الزبد في الفقه الشافعي، حيث يقول: 

وفاعلُ المكروه لم يُعذَّبِ         بل إن يكف الامتثال يُثَبِ

فما كان منهم إلا أن بادروا بحلق لحاهم، وتركوا لباسهم التقليدي، وانخرطوا في التدريب قائلين له بلهجتهم البدوية: صادج صادج!

وشاء المسؤول الكويتي أن يكافئ ابن الزبير بمنحه الجنسية الكويتية، لكنه رفض ذلك، وطلب منه أن يرسله إلى مصر لاستكمال تعليمه.

لابن الزبير قصائد وقصص لا تنسى، فمن قصائده المفعمة بالإنسانية والنبل والعاطفة الصادقة قصيدته (ومتى الطفل درى عسر الأب؟) كان قد أهداها إلى روح أخيه العلامة منصور بن يحيى الزبيري، وتحدث فيها عن مرض ابنه مصعب، وفيها يقول:

بكت الشهباء مصباحًا خبا        كان بالإيماض صنو الشهبِ 

إن منصورًا أطل مذ أتى           ديمةً نثت بعهدٍ مجدبِ 

أشعلوا الجذوة منذ أن أتوا             كونهم أكرم بذاك اللهب 

واشقيقًا دمر الدهر به                لي كيانًا ابن أمي وأبي 

ناصر الحق سماء أخصبت           عيش من يرجون دفق الشؤببِ 

يا ضياء الدين فليبك القضا              ابنه النحرير إلف الكتبِ 

فلها الفخر زبيد أطلعت                  شارقًا يجلو ظلام الغيهبِ

ليس من صب جفافًا في الحمى            كالذي أخجل ودق السحب 

فإلى الله إلى الله الشكا                   من زمانٍ رماني بالمرعبِ

في أخٍ كان ربيعًا إذ همى               وتمادى كيده في مصعب

قرحة أنهك منها كَبْدهُ                         وهو طفلٌ لم يكن بالمذنبِ

مستغيثًا بي ويشكوني وما                  من صبيٍ جاء لم يستغربِ 

ساخ في الفرش أليمًا جسمهُ                  ويح قلبي لصغيرٍ متعبِ

هاتفًا باسمي وباللوم انتحى                   ومتى الطفل درى عسر الأب؟!

أين حامي الحي؟ بالله اخبروا                  ذمة الراعي مناط المطلب 

لو تذكرها سيغدو المرتجى                    كلكم راع كذا قال النبي

هذه القصيدة تصور مدى الظروف القاسية التي عاشها ابن الزبير (أبو مصعب)؛ حيث يعجز فيها عن علاج ابنه الذي أحب أن يكنى به. 

هكذا عاش شاعرنا الذي ملأ اليمن أدبًا وشعرًا، ونذر نفسه مناضلاً في سبيل قيام نظام جمهوري يحظى جميع أبنائه بالعدل والحياة الكريمة.. عاش في شظف من العيش، وبؤس من الحياة، ومع ذلك، ظل ابن الزبير رافعًا رأسه يحظى بالاحترام والحب في قلوب كل من عرفه.. فرحم الله شاعرنا ابن الزبير، وغشى روحه بالنعيم المقيم.

*كاتب يمني.

   
 
إعلان

تعليقات