Accessibility links

إعلان

وضاح عبدالباري طاهر*

يقع كتاب “محطات حركة التنوير الأوروبية” المهم في 166 صفحة بالقطع المتوسط، للأستاذ عبدالله إسحاق، وهو إصداره الأول. يحتوي الكتاب على تمهيد، وفيه يتحدث عن بداية عصر النهضة، أو الاستفاقة Renaisence  في المدن الإيطالية، ويربطه بتاريخ سقوط القسطنطينية على أيدي العثمانيين، وهي الفترة التي صاحبت هروب العلماء والمفكرين منها، واستقرار المقام بهم في المدن الإيطالية، وحملهم بقايا مخزون التراث الإغريقي والروماني.

ولا أدري لماذا لم يشر الأستاذ عبدالله إلى مصدر هذه الرواية؟ وكل الكتاب خلا من ذكر الهوامش، إلا ما كان في آخر الكتاب من ذكره للمصادر التي استقى منها، وبنى عليها مادة كتابه هذا.

وأخشى أن تكون هذه الرواية التي لم يشر إلى مصدرها الأستاذ عبدالله، فيها تجاهل لدور العرب المسلمين في المساهمة في تكوين الفكر الأوروبي.

نعم ذكر مثل ذلك الأستاذ الأديب الكبير طه حسين في مقاله الذي كتبه في رثاء شاعري مصر: “حافظ وشوقي”، في معرض حديثه عن الأدب في مصر فقال: “حتى كان سلطان الترك العثمانيين، وإغارته على كل شيء، وإفساده لكل شيء، وقضاؤه على حضارتين في أقل من قرن؛ على الحضارة الإسلامية في مصر، وعلى الحضارة البيزنطية في قسطنطينية. فأما الحضارة البيزنطية، فقد هربت جذوتها من الترك إلى إيطاليا، حيث أشعلت أوروبا كلها، فأحيتها، وأما الحضارة الإسلامية، فلم تمعن في الهرب، ولم تعبر البحر، ولكنها اختبأت في الأزهر إلى أن يأذن الله لها أن تخرج منه، فتشعل الشرق، وترد إليه الحياة”. (علم الأدب، ص 487). 

والآن لنأت على ذكر الرواية الأخرى، يقول الدكتور عبدالرحمن بدوي في مستهل كتابه (دور العرب في تكوين الفكر الأوروبي)،  متحدثًا عن هذا الدور: “تمت عملية الإخصاب بين الفكر العربي البالغ كمال تطوره، وبين العقل الأوروبي، وهو بسبيل يقظته، وتلمس طريقه في البداية، تمت عملية الإخصاب هذه في منطقتين الأولى: إسبانيا، وفي مدينة طليطلة منها بخاصة، والثانية: صقلية وجنوب إيطاليا، خصوصًا في عهد ملوك النورمان، وأشهرهم رجار الثاني المتوفى سنة 1157م، وفردريك الثاني المتوفى سنة 1250م، فقد كانت هاتان المنطقتان نقطتي التلاقي بين الثقافة العربية الإسلامية الزاهرة، وبين العقلية الأوروبية الناشئة؛ لأنهما على الحدود بين دار الإسلام وبين أوروبا”.

ثم يتحدث الأستاذ إسحاق عن العقلية السائدة في القرون الوسطى، فبعد إصدار قسطنطينن الأول إمبراطور روما مرسوم ميلانو الشهير عام 313م، باعتبار المسيحية إحدى الديانات للإمبراطورية الرومانية، ثم ما تلا ذلك من الجدل الدائر داخل الكنائس المسيحية حول صفة المسيح، والذي على إثره صدر قانون الإيمان بعد عقد المجمع المسكوني في نيقيه لتوحيد الناس على عقيدة واحدة، بما يذكرنا هذا الصنيع أيضًا بالمرسوم القادري الذي أصدره القادر بالله العباسي بإملاء عقيدة واحدة لجميع المسلمين، هي معيار الإيمان القويم، ومن خرج عنها رمي بالابتداع والضلال.

والحاصل أن الناظر إلى حال أوروبا في العصور الوسطى، وحال المسلمين يجد شيئًا من التشابه بين أتباع الملتين، فكليهما عانى من الاستبداد السياسي والديني، ولولا تباشير النهضة التي بدأت في المدن الإيطالية بفضل القرب من الأندلس والاحتكاك بالحضارة الإسلامية فيها، ثم الثورة الإنجليزية عام 1688م التي كانت سباقة بين الدول الأوروبية في إشاعة النهج الديمقراطي، ومنح الحريات للمواطن الإنجليزي، الأمر الذي أثار إعجاب الفيلسوف الفرنسي فولتير أثناء تواجده في إنجلترا عقب خروجه من الباستيل في باريس، ليقول: “عند الإنجليز الإنسان يذهب إلى الجنة سالكًا الطريق الذي يختاره لنفسه دون وساطة من أحد، كما أنها – أي انجلترا – البلد الذي تحجم سلطة الملوك فيها، فالحاكم تترك له السلطة كاملة لفعل الخير، وتكبل يديه من فعل الشر”. (محطات التنوير، ص121).  

وكذلك الثورة الفرنسية 1789 – 1799م التي تأثرت بالثورة الإنجليزية الملهمة لأعظم المفكرين الفرنسيين أمثال فولتير، وموتنسكيو، وروسو.

بالإضافة إلى حركة مارتن لوثر الإصلاحية الدينية 1483 – 1536م الذي نعى على البابا والأكليروس احتكار تفسير الكتاب المقدس، وأكد أن ذلك حق مشروع لكل إنسان، وأن من حق القس الزواج إن هو رغب في ذلك.

لقد دعا مارتن لوثر إلى العودة إلى جوهر دعوة المسيح، وراعه، وهو يزور روما التي كان ينظر إليها كمدينة للقديسين، ليجد مشاهد البذخ والترف الذي يغرق فيه القسس والرهبان الإيطاليون.

لقد كان من أهم أعمال مارتن لوثر هو ترجمة الكتاب المقدس بعهديه القديم والحديث من اللاتينية إلى اللغة الألمانية، ليصبح بمتناول الناس بعد أن كان حكرًا على القساوسة.

ثم يتحدث الأستاذ إسحاق عن حركة العلوم الإنسانية في أوروبا، وذكر أبرز الشعراء والفلاسفة كشاعر إيطاليا العظيم دانتي، والفيلسوف ديكارت صاحب منهج الشك، واسبينوزا صاحب كتاب اللاهوت والسياسة الذي أثر على عالم الفيزياء الشهير أنشتاين الذي أجاب عن سؤال إيمانه بالله، بأنه يؤمن بإله سبينوزا.

ولا بأس أن نأتي على ذكر شاعر إيطاليا الشهير دانتي كتأكيد على تأثير الحضارة العربية الإسلامية على النهضة الأوروبية.

يقول الدكتور بدوي (ص28): “أما المسألة الثالثة والأخيرة، ونعني بها تأثير محيي الدين ابن عربي في دانته الشاعر الإيطالي العظيم، وتأثير كتاب المعراج الذي ترجم إلى اللاتينية، وذكره برونتو لا تيني أستاذ دانته، فقد أصبح القول فيها نهائيًّا حاسمًا بعد أن اكتشفت الترجمات الفرنسية، والإسبانية، واللاتينية لكتاب المعراج، وكل من يقرأ المعراج هذا يدرك في الحال التشابه الدقيق البارز للعيان بين تصوير دانته للجحيم والجنة، وبين تصوير كتاب المعراج لهما، هذا التشابه الذي يتناول أحيانا أدق التفاصيل…، فإذا كان دانته أعظم شعراء إيطاليا، وأول شاعر أوروبي عظيم، قد استمد مادة غزيرة لرائعته الخالدة الكوميديا الإلهية من التصويرات الأخروية الإسلامية، وبخاصة ما ورد منها عند ابن عربي الصوفي العظيم، فهل ثم أبلغ من هذا دليلاً على مدى تأثير التصوف الإسلامي في تكوين الحياة الروحية في أوروبا؟”.  

ويقول أيضًا، (ص49): “كانت قنبلة هائلة تلك التي ألقاها المستشرق الإسباني العظيم أسين بلاثيوس، وهو يلقي خطاب استقباله في الأكاديمية الملكية الإسبانية في جلسة 26 يناير سنة 1919م، لما أعلن أن دانته في الكوميديا الإلهية قد تأثر بالإسلام تأثرًا عميقًا واسع المدى، يتغلغل حتى في تفاصيل تصويره للجحيم والجنة، إذ تبين له أن ثمة متشابهات وثيقة بين ماورد في بعض الكتب الإسلامية عن معراج النبي (صلعم)، وما في رسالة الغفران للمعري، وبعض كتب محيي الدين ابن عربي من ناحية، وبين ما ورد في الكوميديا الإلهية، وفي هذه المشابهات من الدقة والتفصيل ما يجعل من المؤكد أن التشابه هنا لم يكن أمرًا عرضيًّا، وتوارد خواطر، بل كان من تأثر مباشر بالتصويرات الإسلامية للآخرة. وراح أسين يعدد نقاط التشابه هذه استنادًا إلى المصادر الإسلامية مقارنًا إياها بما ورد في الكوميديا الإلهية وكل ذلك بعلم غزير، ومنهج دقيق”. 

بقيت مسألة أخرى وقد ذكرها بدوي في كتابه دور العرب، (ص 27- 28)، وهي تأثير الغزالي في المفكر الرياضي الفرنسي بسكال، فلبسكال حجة مشهورة لإثبات وجود الآخرة، وتسمى الحجة اختصارًا باسم “رهان بسكال” Le Pari de Pascal، وخلاصتها أن بسكال يوجه خطابه إلى المنكرين للآخرة قائلاً: إذا كسبتم كسبتم كل شيء، وإذا خسرتم لم تخسروا شيئًا، وإذا لم يكن هناك آخرة (كذا وردت والصواب: وإذا كان هناك آخرة)، تكسبون وتكسبون كل شيء، وإذا لم يكن هناك آخرة، فلن تخسروا شيئًا، فالأولى إذن أن يراهن المرء على ما هو مضمون المكسب على كل حال”.

يقول بدوي: “هذه الحجة ذكرها الغزالي في الإحياء…، وفي ميزان العمل، وفي الأربعين وفصله تفصيلاً رائعًا محكمًا بعبارات تختلف بين كل كتاب والآخر، ولكنها تتشابه في المضمون العام للحجة، وطريقة سياقها، وهو نفسه في ميزان العمل ينسب إلى الإمام علي بن أبي طالب الصورة الأولى لهذه الحجة فيقول: “قال علي – رضي الله عنه – لمن كان يشاغبه ويماريه في أمر الآخرة: إن كان الأمر على ما زعمت تخلصنا جميعًا، وإن كان الأمر كما قلت، فقد هلكت ونجوت”.

أي إذا كان الأمر على ما زعم هذا المماري في أمر الآخرة أي المنكر لوجودها القائل أن ليس ثمة آخرة، فقد تخلصنا جميعًا من عذاب الله، وإذا كان الأمر كما يقول المؤمنون بالآخرة هلك المنكرون، ونجا المؤمنون، وهذه الجملة التي قالها الإمام علي هي بعينها التي قالها بسكال بعد ذلك بأكثر من عشرة قرون”.

والذي فات الدكتور بدوي أن يذكره أن المعري نفسه سبق الغزالي واستدل بهذه الحجة التي احتج بها الإمام علي على خصمه حيث قال:

قال المنجم والطبيب كلاهما / لا تحشر الأجساد قلت إليكما 

إن صح قولكما فلستُ بخاسرٍ/ أو صح قولي فالخسار عليكما 

في الأخير، فكتاب محطات من حركات التنوير الأوروبية كتاب مهم لمن يتلمس طريقه باحثًا عن أسرار النهضة، وعوامل الرقي، إذا ما قرأ وقارن، واستلهم الدروس من عبر التاريخ، وسير الأمم في مضمار رفعتها ورقيها.

*كاتب يمني.

   
 
إعلان

تعليقات