Accessibility links

إعلان

وجدي الأهدل*

ما هي عقيدة محمد بن العربي المعروف باسم (ابن عربي)؟.. نجد شرحًا مبسّطًا لها على يد صاحبها نفسه، في كتابه “عنقاء مُغْرِب في ختم الأولياء وشمس المغرب”، الذي يمكن أن نعده كتابًا معرفيًّا ينتمي إلى حقل علم النفس.
وهذا الكتاب النفيس يُضاهي في عمق تحليلاته ما جاءت به مدرسة علم النفس التحليلي لكارل غوستاف يونغ.
مع وجوب الإشارة إلى أن هناك فارقًا مهمًّا بينهما: علم النفس التحليلي ينطبق على أبناء الحضارة الغربية؛ لأن النّص المؤسِّس لـ(الخافية) عندهم هو الكتاب المقدس. أما أبناء الحضارة الإسلامية فإنّ محتويات (الخافية) عندهم مختلفة؛ لأن نصّهم المؤسِّس هو القرآن الكريم.
والكتاب الذي بين أيدينا هو أول كتاب في الحضارة الإسلامية يتجاسر على وصف محتويات (خافية) الإنسان المسلم.
يبدأ ابن العربي بخطوة منهجية أولية: فصل عقيدته عن العقائد الصوفية الفاسدة السائدة في عصره، التي توهّم كثير من الخواص في زمنه صحتها، ثم التبس الأمر على جمهور واسع من المثقفين في عصرنا فوضعوها كلها في سلة واحدة، دون تمييز، وهذا خطأ فادح.
ولنتدبر المقطع التالي من كتابه المذكور:
“قال من قال: سبحاني ما أعظم شأني.
دون شؤوني كلها هيهات وهل يعرى من شيء إلا من لبسه؟، أو يؤخذ شيء إلا ممن حبسه؟، ومتى لبس الحق صفات النقص حتى سلبها عنه أو تعريه، ووالله ما هذه حالة التنزيه، وإنما الملحد الجاحد، حكم على الغائب بالشاهد، وظن أن ذلك نص فنسب إليه النقص، فإنما أُنزه نفسي أن أُلبس عليها ما لبسه هذا الملحد، وأُعرّيها عنه حتى أكون المحقق الموحد، فنفسي إذًا نُزهتْ، وذاتي قُدستْ، والباري سبحانه منزّه عن التنزيه، فكيف عن التشبيه، فالتنزيه راجع إلى تطهير محلك لا إلى ذاته” (عنقاء مغرب، ص112).
وهو هنا يشير إلى أبي يزيد البسطامي، وإنْ لم يذكر اسمه تأدبًا، وأمثاله من المتصوفة الذين آمنوا بـ”وحدة الوجود”، وأن الله قد حلَّ في كلّ شيء.
والخلاصة أنه يحكم بالضلال والإلحاد على كلّ صوفي اعتقد أنه متصل بالذات الإلهية اتصالاً ماديًّا، وعدَّ هذا وهمًا خطيرًا وقع فيه كثيرون من سالكي الطريق الروحي. وفي ثنايا كتابه فقرات تحذيرية شديدة اللهجة من هذه المتاهات، واستشهد بقوله تعالى: “وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ”.
لماذا نقول إن ابن العربي على حق؟، وإن تحذيره صحيح للحفاظ على الصحة العقلية والنفسية للإنسان المسلم؟؛ لأن الطريق الروحي المؤدي إلى الإيمان بوحدة الوجود لا ينتمي لجذورنا الحضارية الإسلامية، ولكن إلى الحضارة الهندوسية، ونصها المؤسِّس الكتاب الهندوسي المقدس “المهابهاراتا”.
وإذًا هذا الطريق الروحي لا يناسب الإنسان المسلم، الذي نصه المؤسِّس القرآن، ولكنه يناسب أبناء الحضارة الهندوسية.
ونجد هذا التحذير بحذافيره موجود أيضًا لدى عالم النفس السويسري كارل غوستاف يونغ، وقد شرحه بالتفصيل في “الكتاب الأحمر”.
ونجد التحذيرات ذاتها تتكرر في الكتاب التاوي الباطني “سر الزهرة الذهبية”.
لقد خَبِر ابن العربي هذه التجربة النفسية المرعبة، وتمكن من اجتيازها، ووصل إلى بر الأمان بنجاح، لحسن حظنا.
استخدم ابن العربي العديد من الصور والتشبيهات لشرح تجربته الروحية، وهي حالات نفسية بالغة الغرابة، وغير مفهومة للعقل الواعي، ويصعب على اللغة التعبير عنها، ولذلك قد نجدُ أن كتاباته غامضة، وهي ليست كذلك، ولكن المعاني التي يريد تقريبها إلى أذهاننا عويصة جدًّا؛ لأنها رموز نفسية مبهمة تأتي على هيئة صور فقط.
مثلاً يُشَبِّه ابن العربي الإنسان العادي العقلاني أو الغافل عن الطريق الروحي بمن يقف على ساحل لا بحر له، فهو آمن، ولكنه محروم من المتعة الروحية. ويُشَبِّه الإنسان الذي قرر المضي قدمًا في الطريق الروحاني ثم وقع في الضلال بالإنسان الذي يقف في بحر لا ساحل له.. وهل يمكن للعقل البشري تحمل هذا الوضع طويلاً؟ وإلى متى يمكنه البقاء طافيًا على سطح الماء فلا يغرق؟، إنه تنظيم مؤلم، وسيؤدي به في النهاية إلى الجنون.
يقول كارل غوستاف يونغ: “الطريق ليس بدون أخطار. كل شيء حسن فباهظ الكلفة، ونمو الشخصية من أبهظ الأشياء كُلفة”(سر الزهرة الذهبية، ص112).
الحل الروحاني الصحيح بحسب مصطلحات ابن العربي هو أن يجتمع البحر والساحل معًا. بهذه المعادلة فقط يستطيع العقل البشري اجتياز الجنون، ومخاطر الطريق التي تحدّث عنها يونغ، ومن ثم تحقيق التوازن الصحيح بين الذات والروح. أو بتعبير علماء النفس: بين الأنا واللا شعور.
وفي المقطع التالي يوضح ابن العربي عقيدته بصورة لا لبس فيها:
“فاعلم أنك متصل به في الصفات المعنوية، من جهة الظلال من غير اتصال منفصل عنه بالصفات النفسية المجهولة في كل حال من غير انفصال”(عنقاء مغرب، ص112).
هذه الفقرة وما يتبعها من فقرات مترادفة المعاني، تؤكد أنه يمكن للإنسان الاتصال بالذات الإلهية معنويًّا.. ولديه تعبير لطيف عن العقل الباطن حين أشار إليه بقوله: “من جهة الظلال”، وهي مفردة موفقة تمامًا للتعبير عن (الخافية) التي تتبعنا كظلنا.
هنا نصل إلى لب الموضوع: ابن العربي يقول بوضوح إن الاتصال بالذات الإلهية بواسطة العقل أو الحواس مستحيل، ولكن الاتصال ممكن عن طريق العقل الباطن فقط.
هذه الإمكانية الرائعة متاحة لكل إنسان: الذكر والأنثى، الأبيض والأسود، المؤمن والملحد، وذلك عن طريق الرؤيا التي تأتي في المنام.
إن هذه العقيدة جزء لا يتجزأ من العقيدة الإسلامية الصحيحة. قال الرسول صلى الله عليه وسلم: “الرؤيا الصادقة من الله، والحلم من الشيطان”. وقال عليه الصلاة والسلام: “ليس يبقى بعدي من النبوة إلا الرؤيا الصالحة”.
يوافق العلم الحديث ممثلاً في علم النفس التحليلي على صحة منهج ابن العربي، من حيث إن العقل الباطن هو قناة اتصال مع الأسمى والأعلى، وإن هذا المتصوف قد توصل إلى الطريق الروحي الصحيح.
وبالمناسبة فإن ابن العربي نفسه قد نوه في بداية كتابه إلى أن هذا الطريق الروحي العظيم ليس حصرًا على ديانة معيّنة، ولا على فئة المتدينين فقط، بل قال إنه طريق مفتوح لكل الأمم والبشر دون استثناء مطلقًا.
لا أحد محروم من السير على هذا الطريق مهما اختلفت الطرائق؛ لأن الحرمان المبدئي وعدم إتاحة الفرصة المتساوية لكل إنسان في الهداية تتنافى مع مبدأ العدالة الإلهية.
لقد عانى ابن العربي من سوء فهم منهجه، ورمي بأشنع التّهم، وأُنزل منزلة المتصوفة المهرطقين، وهو الذي أوضح في ثنايا كتبه الأوهام التي تعتري الصوفي الضال وأظهر زيفها، وشبهه بمن يخرج من النهار إلى الليل ثم لم تُشرق عليه الشمس بعد ذلك قط.. وفي هذا الظلام الدامس يتخبط الصوفي الضال ويتوهم أحوالاً لا صحة لها.. وأما الصوفي الناجي من الضلال فهو الذي يلج الليل ويجاهد بكل قواه للسيطرة على أهوائه والتغلب على مخاوفه فلا يستسلم للوهم والجنون.
وما هي النتيجة؟، سوف تُشرق عليه شمس النهار. ولكن هذه الشمس لن تُشرق من الشرق بل من الغرب! وهذه الحركة النفسية التراجعية للخلف – ليست بداية يوم جديد ولكنها عودة للأمس- هي الآلية النفسية الصحيحة للخروج من مأزق الجنون والتمتع بالصحة النفسية والعقلية معًا.
إشارة ابن العربي إلى أنّ التطور النفسي المنتظر يشبه شروق الشمس من المغرب، هي إشارة متعددة الدلالات، وتعني فيما تعنيه أن يتصالح الإنسان مع ماضيه، وهذه المصالحة لا تتم لفظيًّا في العيادة النفسية، ولا بقوة الإرادة ونحن مسترخون على أسرّتنا، ولكنها مصالحة تتطلب رحلة داخلية محفوفة بالمخاطر وذات مسار مجهول، وربما إذا قمنا بها لن نكون من القلة المحظوظة التي تصل إلى نهاية الطريق وتحظى برؤية الشمس تُشرق من المغرب.
*كاتب وروائي يمني

   
 
إعلان

تعليقات