Accessibility links

إعلان

فكري قاسم *
تزوجت خالتي سنة 1987، واستقر بها المقام بعد شهر من الزفاف في السعودية نظرًا لظروف زوجها الذي يعمل سائقًا، كثير السفريات، ويغيب كثيرًا عن البيت، ويتركها لوحدها؛ ما سبّب لها الضجر والإحساس بالوحدة، ومرت سنتين هناك وهي على هذا الحال دون أن تنجب مولودًا يؤنس لها البيت، قبل أن يعود زوجها بإحدى المرات من سفرية إلى أفريقيا مصطحبًا معه ببغاء أفريقيًّا صغيرًا، ريشه ملون، مطروح في قفص أنيق أعطاه لخالتي هدية تؤانس وحدتها وتتسلى به.
فرحت به خالتي، وسمته “محبوب”، وأمضت معه سنتين في صحبة ولطف، وعلمته الكلام حتى أصبح ببغاء فصيحًا، يهدر طول الوقت، يردد كل ما يُقال له، ونسيت خالتي معه وحدتها، وأصبح محبوب صديقها وجليسها وطفلها الذي تعتني به، وقُدّر لها هي وزوجها العودة إلى اليمن أثناء حرب الخليج سنة 1991 حاملين محبوب، الببغاء النادر، معهم للاستقرار في البلد. وكان شكله الملون وحجمه الكبير وكلامه الزقع مع كل من يجابره من الناس ورقصه وفرحه داخل القفص بالنسبة لي أعجوبة فريدة من نوعها، وكان محبوب في حقيقة الحال اسم على مسمى لطائر فتان تحبه من الوهلة الأولى عندما تتعرف عليه.
وبمرور عام من عودة خالتي وزوجها أنجبا مولودهما الأول ولد بكر، وبمرور العام الثالث أنجبا المولود الثاني، وكان أي واحد يسأل خالتي: كم معك جهال؟ لا تنسى محبوب من الحسبة، وتقول لهم: ثلاثة، ومحبوب في حسبتها بين الناس مولودها البكر.
توفي زوج خالتي من بعد ذلك بـ5 سنوات، وأصبحت أرملة  تعول ثلاثة، ولد وبنت، ومحبوب الطائر الذي كان قد كبر هو الآخر داخل القفص كواحد من أفراد العائلة في بيت خالتي، وكانت ظروف الخالة قد استاءت، والحمل فوق ظهرها صار ثقيلًا، كأيّ أرملة مات زوجها وخلّف لها تركة من الأعباء في بيت بلا ضمار.
سنة 2005 تغيرت أحوال محبوب الراقص المرح وأصبح في القفص ببغاء متنرفزًا، كثير الصراخ، وما كوده ينتف ريشه، ولا يتقبل الهُدار مع أحد، حتى مع خالتي نفسها، واستمرت حالته لأشهر متواصلة حتى نحف جسمه، وخفّ ريشه، وبان جلده، واستدعى الأمر بخالتي التي أربكها حال محبوب أن تأخذه إلى طبيب بيطري يشوف ما له، ولمو مسوي بنفسه كذا، وأيش هو العلاج؟
الطبيب البيطري بعد أن كشف عليه، تحت فوق، وجا له من كل الجهات، تبين له فيما بعد أن محبوب مصاب بالاكتئاب نتيجة الوحدة القاسية التي عاشها لسنوات طوال من عمره بلا شريكة  تؤانسه المقام في القفص !

– وما هو علاجه طيب؟
خالتي سألت الدكتور، وقال لها:

–  ما بش علاج غير تزوجوه بأنثى ببغاء من نفس هذا النوع.
خالتي شلت محبوب وسارت به سوق الطيور تدور له على عروسة بنت حلال من نفس الفصيلة، وقالوا لها إن هذا نوع نادر، ولا يتواجد إلا في أفريقيا، أو في بعض البيوت الثرية التي تهتم بتربية الطيور النادرة !

– طيب وإذا أني أشتي أطلب له مرة تناسبه من هذا النوع الأفريقي، كم شيكلف الموضوع منسب يرسلوها لليمن؟
خالتي تسأل أحد باعة الطيور في السوق، وقال لها: 

– شيكلف حوالي ثلاثمائة وخمسين ألف ريال !
روحت خالتي ساع المصروعة من اينه تدي 350 ألف ريال، وظروفها زي الزفت، وكل الذهب الذي معاها بالكاد يجيب مائتيّ ألف ريال، وعليها مسؤوليات والتزامات معيشية كثيرة؟

طننت لها يومين ورجعت لا عند الطبيب البيطري تشوف له لو في حل أرخص وأنسب، أو زواجة عرفي، أو مسيار، أو أي شيء من هذا القبيل، المهم يتعافى محبوب، ويخرج فيسع من حالة الاكتئاب المتزايدة، وقال لها ما فيش حل غير أنها إما أن تزوجه وفق التقاليد الأفريقية، أو تبيعه لأي ميسور عنده هذا النوع النادر من الببغاوات، وجن جنونها، وكانت تبكي له،  وتقول: أبيعه؟ ومنو يبيع ابنه؟ وكيف أبيع ابني؟!

دورت له في الحواري القريبة عن بيوت الميسورين تسألهم لو معاهم ببغاوات من نفس النوع حق زواجة لابنها محبوب، الذي شيتعالج وشترجع له روحه، وشيرجعوا كلهم يدوروه، ولا لقيت له مرة، وكان الموضوع بالنسبة لها محنة حقيقية أتعبتها وشغلت تفكيرها، وجعلتها في بكاء مستمر عليه وعلى أرياشه الجميلة المتطايرة في كل زوة من البيت، ولم تيأس.. جربت توسع له القفص بشكل مضاعف مرتين عن مساحة القفص السابق الذي يعيش فيه محبوب، وما فيش فائدة، ظل الاكتئاب ملازم له بشكل متصاعد في كل يوم أكثر من الثاني.

جربت تغالطه، ودخلت له للقفص دجاجة رقشاء يتواله معها؛ يمكن يحبها مع الوقت، يمكن يلاقي فيها شريكة حياة من الحاصل يجزع بها وقته لوما يفتح الله، لكن محبوب كان ببغاء مؤدب وابن ناس ماشي على الصراط المستقيم، ولا له في الدجاج، ولا في الحرام وقلة الأدب، وما يشتي من الدنيا إلا مرة من نفس جنسه لو ما بقي له في جسمه حتى ريشة واحدة.

وظل محبوب على حالته تلك مكتئبًا، لا صوت يردد الكلام، ولا رقص، ولا هدار، ولا ريش يفتن الناظرين، ومات المسكين داخل القفص بصمت دون أن يقرب الدجاجة التي وجدت نفسها فجأة أرملة هي الأخرى من دون دحرة واحدة، وكان موته المحزن عند خالتي فاجعة كبيرة، وظلت تبكيه لأشهر عديدة من بعد ذلك، وأي واحدة في الحارة لما كانت تسألها كيف مات محبوب؟ وليش مات؟ جوابها المعتاد:

– كان يشتي زواجة، وما قدرت أزوجه، ولا هو نفسه رضي يقرب الحرام.. الله يرحمه كان مؤدب زيادة!
وهات يا بكاء، وهي تتكلم عنه بين صحباتها في الحارة تمامًا مثلما تتكلم أي أم مكلومة عن ابنها الفقيد المرحوم المغفور له شهيد الأدب الزائد.

*كاتب يمني ساخر.

   
 
إعلان

تعليقات