Accessibility links

إعلان
إعلان

وجدي الأهدل*
في البدايات كان يسيطر عليّ هاجس التجريب، وأردتُ بشدة أن أكتب رواية تجريبية، فكتبتُ روايتي الأولى “قوارب جبلية” تحت تأثير هذه الرغبة الملحة. قبلها كنت قد كتبتُ قصصًا قصيرة تتكئ على أساليب سردية مستمدة من التراث العربي الإسلامي، ولكن لحسن الحظ أنها لم ترَ النور، إذ أدركتُ أن لكل زمان أساليبه السردية التي تلائمه، وأن محاولة إحياء أساليب عتيقة عفا عليها الزمن مجرد تقليد لا يفيد أحدًا في الوقت الحاضر.

نجت قصة قصيرة واحدة من تلك المرحلة، عنوانها “صحف الألف الثالث” ونشرت ضمن المجموعة القصصية “صورة البطَّال”.

من يقرأ رواية “قوارب جبلية” سوف يستشعر محاولتي البحث عن أشكال كتابية جديدة غير مطروقة في الرواية اليمنية، إلا أن ردة الفعل العنيفة ضد الرواية فتحت عينيّ على الحقيقة المرة: أن زمن الكتابة بهذا الأسلوب الجديد لم يحن بعد، وأن المجتمع كما هو تقليدي ومحافظ في كافة شؤون حياته، فالأمر ينسحب أيضًا على الآداب والفنون التي تستجيب لهذه المعطيات فتأتي وفقًا لأنساق تقليدية ومحافظة في الشكل والمضمون على حد سواء.. أيّ أن الأمر كالعلاقة بين الصوت والصدى، فالصوت هو المجتمع، والصدى هو الأدب والفن.

ولذلك ارتأيتُ أن أعود إلى كتابة رواية تقليدية، تلتزم بقواعد المدرسة الواقعية في الكتابة، فجاءت رواية “حمار بين الأغاني” ضمن هذا التوجه.

وكما توقعت، فإن روايتي الثانية رغم احتوائها على مضمون معارض للسلطة أشد قسوة من روايتي الأولى، فإنها قد مرت بسلام!

فتأكدتُ من صدق حدسي: أن انتقالي من الشكل التجريبي إلى الشكل التقليدي في الكتابة قد وضعني في مساحة آمنة من ناحية السلطة، وفي منطقة مريحة من انتقادات النقاد.

لقد فهمت أن الشكل الكتابي الذي نستخدمه سوف يفضي حتمًا إلى تغيير في المضمون وطريقة عرضه.. كيمياء الكتابة نفسها تتغيّر، وهذا التغيير هو الذي يثير القلق والاضطراب في نفس المتلقي.

مع ذلك ظلت الرغبة الداخلية في التجديد على مستوى الرواية اليمنية مستعرة، فولدت روايتي الثالثة “فيلسوف الكرنتينة”، التي يمكن تصنيفها ضمن روايات (الديستوبيا). والديستوبيا تعني أدب المدينة الفاسدة، وهي تُعنى بتصوير مجتمع خيالي فاسد أو مخيف أو غير مرغوب فيه بطريقة ما. وهو عكس المكان الفاضل (اليوتوبيا). وأبرز نموذج لرواية الديستوبيا عالميًّا هي رواية “1984” للروائي البريطاني جورج أورويل، وعربيًا رواية “في ممر الفئران” لأحمد خالد توفيق.

في “فيلسوف الكرنتينة” تجري أحداث الرواية تحت الأرض، في مقبرة، أبطالها ديدان الجثث، التي تعيش حياة مشابهة لحياة البشر، باستثناء أنها تتغذى على جثث الأموات، ولا تشرب سوى النفط، ثم يظهر واحد من بينهم هو (الفيلسوف) يدعوهم إلى أكل الكتب وشرب الماء النظيف إذا أرادوا أن يصبحوا بشرًا، وكما نلاحظ فإن الرموز بسيطة ولا تحتاج إلى شرح، وقد عبّرتُ فيها عن رأيي في الفرد اليمني بخاصة والعربي بعامة أنه لا يزيد عن كونه دودة طفيلية تستمد غذاءها العقلي من الماضي، ويرفض بشدة التطور إلى إنسان.

روايتي الرابعة “بلاد بلا سماء” اتجهتُ فيها إلى الأخذ بتقنية تعدد الأصوات، حيث تنقسم الرواية إلى ستة فصول، كل فصل ترويه شخصية من شخصيات الرواية، وكل شخصية تساهم بقسط في بناء الرواية، فما ترويه الشخصيات ليست وجهات نظر حول حدث محدد، ولكنه تشييد جماعي للحدث الذي سيتضح في النهاية أنه غير محدد.

في روايتي الخامسة “أرض المؤامرات السعيدة”، وبحسب المادة التي كانت متوفرة بين يديّ، فقد رأيتُ أن الواقعية الاجتماعية هي الأصلح لمعالجة هذه المادة، فركزتُ على متانة الحبكة، وأن أكتبها بضمير المتكلم لتكون قريبة من فؤاد القارئ.

تدور أحداث الرواية حول صحافي تفسده السلطة بإغراءاتها، فيضعف ويصطف مع الظالمين ضد المظلومين، ويُسخر قلمه للتدليس وقلب الحقائق.

ناقد مبتدئ خاض معي نقاشًا حول هذه الرواية، فكان يخلط بيني وبين بطل الرواية، وبدلًا من أن يُدين الصحافي الفاسد مطهر فضل، إذا به يُدينني! لاشك أنه لا يصلح أن يكون ناقدًا محترمًا، لأنه محروم من نعمة الخيال، فهو وأمثاله لا يتصورون أن بإمكان الروائي خلق شخصية كاملة الأهلية، وتتمتع بالاستقلال الذاتي عن المؤلف.

يتساءل البعض كيف نوازن بين الموضوع والناحية الفنية عندما نكتب رواية؟ الجواب هو عندما يطغى الموضوع يخفت وهج الرواية وتنحدر إلى مستوى الحكاية، وتنزل رتبة الروائي إلى مرتبة الحكواتي.

وكلما اهتم الروائي بالناحية الفنية ازدادت قيمة الرواية، وهو ذاته يصبح أكثر استحقاقًا لأن يحمل صفة (روائي).

إذن: تقييم الروائي لا يكون بموضوعات رواياته، مهما كانت هذه الموضوعات سامية وإنسانية، ولكن بمهارته في استخدام تقنيات الكتابة.

يجري الكثير من الحديث حول مطالبة الروائي اليمني بالتجديد أو التجريب.. وهذا خطأ شنيع ويدل على عدم الفهم! ليس مطلوبًا من الروائي اليمني أن يُجدد أو يجرب، ولكن المطلوب منه إتقان تقنيات الكتابة.

يرتبط التجديد الروائي بالمجتمع المتجدد، أي المجتمع الذي يستيقظ كل صباح على وقع اختراعات واكتشافات جديدة أنتجها هذا المجتمع. مجتمع حي ينتج اتجاهات جديدة في أسلوب الحياة والعلاقات الاجتماعية والتعليم والدين.. لذلك من البديهي أن تصدر عن مجتمع متجدد روايات فيها تجديد، لأن نسغ التجديد يسري في كافة شؤون حياتهم، فولادة الجديد هنا طبيعية.

لكن بالنسبة للمجتمع اليمني الراكد، الذي وصل إلى مرحلة الموت لأنه عاجز عن التجدد علميًّا وثقافيًّا وفكريًّا، لهُوَ ضرب من الإجحاف أن نُطالب الروائي بالسباحة عكس التيار، وأن ينتج روايات فيها تجديد غير مسبوق على مستوى العالم!

وباختصار، إذا أراد الروائي اليمني كتابة رواية فيها تجديد فستكون مصطنعة، ولا تنتمي إلى المجتمع الذي نشأ فيه هذا الروائي.

يمكن للروائي اليمني أن يطمح للتجديد على مستوى الرواية اليمنية، لأن هذا ممكن، بل ضرورة، لكيلا تدخل الرواية اليمنية في مرحلة الشيخوخة وتموت هي أيضًا، وهكذا بجهود كوكبة من الروائيات والروائيين اليمنيين يمكن التقدم خطوة خطوة باتجاه هدف التجديد، وكما يقال فإن طريق الألف ميل يبدأ بخطوة، والرواية اليمنية قد قطعت بضع خطوات بسيطة على هذا الطريق الطويل.

بالنسبة للتجريب الروائي، هو كذلك دخيل على البيئة الثقافية المحلية، ولن يكون مقبولًا، إلا إذا قطع الروائي صلته ببيئته المحلية وانتقل إلى بيئة أخرى أكثر تطورًا، والسبب هو أن البيئة اليمنية لا تقبل ولا تتسامح مع التجريب بمعناه الواسع الذي يشمل كافة شؤون الحياة، لأنها بيئة تقليدية محافظة، وترفض الخروج عن الأنساق المتوارثة التي اعتادت عليها منذ الميلاد وحتى الوفاة، والمجتمع الذي يحرم نفسه من تجريب أيّ شيء جديد، هو بالأحرى سيستهدف أيّ فرد من أفراده يسعى إلى كسر هذا الجمود وتكسير الأصنام المألوفة لديهم.

متى يحق لنا أن نطالب الروائي اليمني بالتجديد والتجريب؟ متى نحاسبه على تقصيره؟ لتقريب الجواب إلى الأذهان سأضرب مثلًا بمجال آخر هو الرياضة. يأتي واحد ويتساءل لماذا لا يحرز اليمانيون واليمانيات ميداليات ذهبية وفضية وبرونزية في الأولمبياد؟ لماذا يخلو اليمن من الأبطال الأولمبيين؟ السبب هو عدم وجود بنية تحتية رياضية تصنع هؤلاء الأبطال. يجب أولًا أن ينفق المجتمع اليمني، الدولة والقطاع الخاص، مليارات الدولارات لبناء المنشآت الرياضية، وأضعافها من المليارات تُصرف على هؤلاء الرياضيين، وبعد ذلك سترون الأعاجيب، وكيف يحصد شباب وشابات اليمن الميداليات ويجعلون اسم بلدهم حيًّا يرن في المحافل الدولية.

الحال نفسه ينطبق على الثقافة، لابد أن يصرف المجتمع اليمني مليارات الدولارات لبناء بنية تحتية ثقافية، ويصرف مليارات أكثر منها لبناء شريحة عريضة من منتجي الثقافة، وبعد ذلك يحق لنا أن نطالب الأديب والفنان اليمني بالتجديد والتجريب في الأدب والفن.

*روائي وكاتب يمني.

   
 
إعلان

تعليقات