Accessibility links

إعلان
إعلان

وضاح عبدالباري طاهر*

لم يكن المفكر الجزائري مالك بن نبي الوحيد من بين كثير من المفكرين العرب والمسلمين ممن وقفوا على الحضارة الغربية، وأعجبوا بقوتها ورقيها، وظلوا – مع ذلك – ملء قلوبهم معتزين بالإسلام، ومؤمنين بأنه سيظل ملهمًا وقادرًا على استعادة دوره في هذه الحضارة.

تأثر مالك بن نبي برموز النهضة والإصلاح كجمال الدين الأفغاني، والشيخ محمد عبده، والكواكبي، والشيخ عبدالحميد بن باديس، وهو إلى جانب ثقافته العربية الإسلامية الواسعة على اطلاع عميق على الفلسفة الغربية؛ كونه قضى شطرًا من عمره في فرنسا دارسًا الميكانيك والكهرباء، إلا أنه لم يستطع إجراء الامتحان التطبيقي الضروري لتخرجه مهندسًا، وباءت محاولاته جميعًا بالإخفاق بسبب اعتذار المؤسسات والمصانع التي يمكن التطبيق فيها عن قبوله، بسبب نشاطه في مقاومة الاستعمار.

يعتبر كتابه (شروط النهضة) من أهم الأعمال التي قام بها، وفيه يؤكد على أثر الجانب الفكري والديني في قيام أيّ حضارة، وهو في رأيه هذا يوافق المؤرخ الإنجليزي توينبي (1889 – 1975م) الذي رفض نظرية الأجناس في مبدأ الحضارات؛ إذ إن البشرية بألوانها أسهمت في الحضارات، وأعطى الأولوية للعوامل الفكرية الروحية في بناء الحضارة.

إن السؤال الذي حير أوسكار الثاني، ملك السويد والنرويج عن سر نهضة العرب، ورصد له في مرسومه الملكي جائزة مالية تبلغ 1787 فرنكًا، ونيشانًا ذهبيًّا قيمته 1430 فرنكًا لمن يؤلف كتابًا في تاريخ العرب قبل الإسلام عن عوائدهم وسائر أعمالهم، “وبأية وسيلة أمكن لهم في زمن قصير أن يتقدموا هذا التقدم السريع، ويتغلبوا على عدة ممالك واسعة، وأقطار شاسعة يبلغ سكانها أضعاف أضعافهم مرارًا عديدة، حالة كون بلادهم حارة مقحطة خالية من بواعث المدنية”، هذا السؤال نجد جوابه لدى مالك بن نبي في كتابه هذا، حيث يقول: إن الحضارة “لا تنبعث – كما هو ملاحظ – إلا بالعقيدة الدينية، وينبغي أن نبحث في كل حضارة من الحضارات عن أصلها الديني الذي بعثها، ولعله ليس من الغلو في شيء أن يجد التاريخ في البوذية بذور الحضارة البوذية، وفي البرهمية بذور الحضارة البرهمية”.

ويقول: “من المعلوم أن جزيرة العرب مثلاً لم يكن بها – قبل نزول القرآن – إلا شعب بدوي يعيش في صحراء مجدبة، يذهب وقته هباءً لا ينتفع به، لذلك فقد كانت العوامل الثلاثة: الإنسان، والتراب، والوقت راكدة خامدة، وبعبارة أصح مكدسة لا تؤدي دورًا ما في التاريخ، حتى إذا ما تجلت الروح بغار حراء، كما تجلت من قبل بالوادي المقدس، أو بمياه الأردن، نشأت من بين هذه العناصر الثلاثة المكدسة حضارة جديدة، فكأنما ولدتها كلمة (اقرأ) التي أدهشت النبي الأمي، وأثارت معه وعليه العالم، فمن تلك اللحظة وثبت القبائل العربية على مسرح التاريخ، حيث ظلت قرونًا طوالاً تحمل للعالم حضارة جديدة، وتقوده إلى التمدن والرقي”.

ويقول: “مما هو جدير بالاعتبار أن هذه الوثبة لم تكن من صنع السياسيين، ولا العلماء الفطاحل، بل كانت بين أناس يتسمون بالبساطة، ورجال لا يزالون في بداوتهم، غير أن أنظارهم توجهت في تلك اللحظة إلى ما وراء أفق الأرض”. 

إن الشيء الذي أثار استغرابي أثناء قراءتي لهذا الكتاب، والذي يخالف ما درجنا عليه، وهو أن النهضة الأوروبية لم تكن لترى النور، لولا قطيعتها مع المسيحية، نجده لا يؤخذ على إطلاقه، ولنصغِ إلى مالك بن نبي، وهو ينقل عن المفكر هرمان دي كيسر لنج في كتابه (البحث التحليلي لأوروبا)، قوله: “كان أعظم ارتكاز حضارة أوروبا على روحها الدينية”.

وقوله: “إن الروح المسيحية، ومبدأها الخلقي هما القاعدتان اللتان شيدت عليهما أوروبا سيادتها التاريخية”.

ويؤكد مالك بن نبي هذا الرأي فيقول: “لو أننا تناولنا بالدراسة مشروعًا اجتماعيًّا كجمعية حضانة الأطفال في فرنسا – على سبيل المثال – لبدا لنا من أول نظرة في صورة جمعية تقوم على شؤونها دولة مدنية، فنحكم إذاً عليها بأنها مؤسسة نشأت في بادئ أمرها على أسس مدنية لا دينية، في حين لو درسنا تاريخها، ورجعنا إلى أصول فكرتها الأولى، لوجدناها ذات أصل مسيحي، فهي تدين بالفضل إلى القسيس (فانسان دي بول) الذي أنشأ مشروع الأطفال المشردين خلال النصف الأول من القرن السابع عشر”.

بل ذهب مالك بن نبي إلى أبعد من هذا فقال: إن للقيم المسيحية أثرًا في اختراع جهاز الراديو، ولقد وددت لو أن الأستاذ مالك بن نبي فصّل الحديث وأشبعه عند تناوله لهذه الجزئية المهمة.

ويرى مالك بن نبي أن بداية غروب الروح، وأفول الحضارة الإسلامية كانت بحرب صفين عام 38هـ، حيث يقول: “لست أدري لماذا لم ينتبه المؤرخون إلى هذه الوقعة التي حولت مجرى التاريخ الإسلامي؛ إذ أخرجت الحضارة الإسلامية إلى طور القيصرية”.

وهو بهذا يتفق مع توبنبي الذي يرى أن من أسباب الحضارات وجود أقلية مسيطرة فقدت قدرتها على الإبداع، وأخذت تحكم بالقهر، وفقدان التماسك الاجتماعي.

وفي حديثه عن مشكلة المرأة يذهب إلى أن كلا الطرفين: المغالي في قمعها وإبعادها عن المجتمع، والمبالغ في تحريرها يصدران عن دوافع جنسية لا شعورية طبقًا لتحليل فرويد.

ويقول: “إن مشكلة المرأة مشكلة إنسانية يتوقف على حلها تقدم المدنية، فلا يكون حلها إذن بمجرد تقليد ظاهري لأفعال المرأة الأوروبية، دونما نظر إلى الأسس التي بنت عليها المرأة الأوروبية سيرها”.

واقترح أن يُعقد للنساء مؤتمرًا عامًا يحددن فيه مهمة المرأة بالنسبة لصالح المجتمع؛ حتى لا تكون ضحية جهلها، وجهل الرجل بطبيعة دورها، بمشاركة علماء النفس، والتربية، والأطباء، وعلماء الاجتماع، وعلماء الشريعة، وغيرهم.

وفي الأخير: إن هذا الكتاب من أهم الكتاب التي تضيء الدرب لمن ينشد صلاحه، وصلاح محيطه الذي يضرب الآن في غمرة من الجهالة والوهم والتعصب.

* كاتب يمني.

   
 
إعلان

تعليقات