Accessibility links

إعلان

وجدي الأهدل*

فسّر الشعراء العرب القدماء عبقريتهم الغامضة في الإبداع بادعائهم أن لهم قرناء من الجنيات أو الجن، يُلقون على ألسنتهم الأبيات الشعرية.

وما يزال هذا المعتقد الخرافي متوارثًا عند المبدع العربي، تحت مسمى الوحي أو الإلهام، وبهذا المعنى هو لا ينشغل بالإبداع كطقس يومي، ولكنه ينتظر هبوط الإلهام عليه، ولو بعد شهور أو سنوات ليغامر بالتوغل في غابة الكلمات.

أما المبدعون في الغرب، فإن هؤلاء المساكين لا تتنازل الجنيات بطرق أبوابهم والهمس في آذانهم بسحر البيان، لذلك يكدحون كدحًا مضنيًا لكذا ساعة في اليوم حتى يستخرجوا ذهب الإبداع من مناجم العدم.

الفارق بين المبدع العربي وشقيقه الغربي مهول من ناحية الجهد المبذول في الكتابة، فالأول ينتظر الإلهام، والثاني لا يؤمن إلا بالعمل دون كلل أو ملل، ملتزمًا بروتين للكتابة مدى الحياة.

الدليل على صحة هذا الكلام يأتي من جريدة الغارديان البريطانية التي عملت سلسلة عن روتين الكتابة، شارك فيها 59 كاتبًا عالميًا، معظمهم بريطانيون.

ترجم المقالات الـ 59 إلى العربية علي زين، ونشر الكتاب عن منشورات تكوين الكويتية عام 2017.

غالبية الكاتبات والكُتاب أجمعوا على أنهم يكتبون يوميًا، ولكن الفارق بين واحد وآخر هو التفاوت في عدد الساعات، فهناك من يكتب 16 ساعة يوميًا، ولا يتبقى له سوى ثماني ساعات يأكل ويشرب وينام فيها، وهناك من يكتب أدنى من ذلك، من ست إلى ثلاث ساعات في اليوم الواحد.

إنهم قوم مدمنون على العمل، والكتابة بالنسبة لهم عمل كأيّ عمل آخر، بعضهم يمارسها بدوام كامل، وغير المتفرغ يمارسها كعمل إضافي، ولكن ولا واحد منهم يستخف بها ويتعامل مع الكتابة كهواية.

أسوأ شتيمة يتلقاها الكاتب في أوروبا وأمريكا أن يُقال عنه إنه من الهواة! هذا يُقلل من احترامه بين القراء إلى حد كبير.

عندما نقرأ المقالات الـ 59 نكتشف أن هناك ثقافة سائدة في الغرب تفترض أن على الكُتَّاب الالتزام بالعمل اليومي الشاق مثل نظرائهم الموظفين في المؤسسات، والعمال في المصانع والشركات، رغم أنهم عمليًا أحرار تمامًا من أية التزامات من هذا النوع، فلا أحد يراقبهم ليتأكد من تواجدهم في مكاتبهم، والقيد الوحيد المفروض عليهم هو مواعيد التسليم النهائية التي يلتزمون بها للناشرين.

وللتوضيح، هناك في الغرب هذا التقليد الرائع: يوقع الكاتب عقدًا مع دار النشر ويستلم دفعة أولى أجرًا على رواية لم يكتبها بعد، وفي الموعد المضروب يُسلم مخطوطة الرواية للناشر.

وبسبب هذه التقاليد في النشر، نجد المؤلف الغربي ينكب بهمة عظيمة على الكتابة، فقد أعطى كلمته للناشر، واستلم الثمرة الأولى لعمله مسبقًا، وهذا يعطيه دافعًا إضافيًا للانطلاق بحماس للنهوض بعبء كتابة روايته.

يقول هوارد جيكوبسون الروائي الفائز بجائزة البوكر لعام 2010:

“أستيقظ مثل راهب في الساعة السادسة صباحًا، متجنبًا الحديث مع أيّ كان، ثم أصنع الشاي، وأتوجه إلى طاولة الكتابة فورًا، ولا أنهض منها حتى تتورم عيناي”.

وهو بحسب كلامه يستمر في الكتابة حتى السادسة مساءً، أيّ أنه يُمضي 12 ساعة يوميًا في اللهاث سعيًا وراء الكلمات.

نحن للوهلة الأولى قد نعجب أشد العجب من هذا الروتين القاسي، ولكن انظروا ماذا يقول عن روتينه هذا:

“إن هذا المنوال الذي تسير وفقه من أيام العمل بسيط. ولا يستحق أن يُسمى روتينًا حتى”.

هذا المقدار الهائل من الوقت الذي يلتهم معظم ساعات اليوم، جعل الكاتب انتوني هورويتز يحذر من التهام نشاط الكتابة لصاحبها فلا يكاد يدري شيئًا عن الحياة الصاخبة خارج مكتبه:

“دائمًا ما أقول للكتاب الشباب لابد أن تعيش شيئًا ما وتحصل عليه، لتكتب شيئًا عنه، فلن يساعدك مجرد الجلوس وحيدًا في غرفة لتكتب”.

صيحة التحذير هذه تؤكد أن جيل الأدباء الشبان في أوروبا وأمريكا يأخذون الكتابة على نحو بالغ الجدية، وأنها عمل لا تهاون في أدائه مطلقًا.

قد يخطر ببال البعض هذا السؤال: ما الذي تفعله هذه العصبة من الكاتبات والكتّاب خلال 6-12 ساعة وأكثر يوميًا؟! علمًا أن بعضهم قد ينتج كتابًا واحدًا خلال عام كامل، والبعض الآخر يحتاج إلى عدة أعوام حتى ينتج رواية واحدة.

نعثر على الجواب الشافي عند الروائي مارك هادون:

“عادة ما أرمي ما لا يقل عن ثلاثة أرباع ما أكتب، ثم أقوم بصياغة ما تبقى، راجيًا أن أصل إلى ما يرضيني في نسخة ما بين الخامسة عشرة والخامسة والعشرين”.

جميع كُتاب الرواية في الغرب يعيدون كتابة رواياتهم عدة مرات، ولا يكلون عن تأدية هذا العمل المرهق أبدًا، ولكن هذا الصقل للجمل بصبر ودأب، والتحسين بلا هوادة للشخصيات والحوارات والحبكات، يقود في نهاية الأمر إلى ظهور كتاب يستحق أن يدفع فيه القراء من عشرة إلى عشرين دولارًا وأكثر.

وثمة شيء آخر يلتهم وقت الكُتَّاب هو البحث، فالرواية الغربية الجادة خلف سطورها ثقل معرفي أتى من أكوام من المراجع والمصادر، التي لجأ إليها الكاتب لإثراء روايته.

يقول الروائي بول بيتي، الذي هو أول أمريكي يفوز بجائزة البوكر (2016):

“الأمر الذي لا يتحدث عنه أحد، هو كل ذلك البحث قبل الكتابة، وبالنسبة لي هذا هو الجزء الأكبر والأهم من الكِتاب”.

نادرًا ما يتاح للروائي العربي هذا الترف، أن يمضي سنوات متنقلًا بين المكتبات، وغائصًا في الأرشيفات مطاردًا مادته الروائية. وإذا افترضنا أنه فعل ذلك، وأنفق من مدخراته الخاصة، فإنه بعد نشر روايته لن يحصل على العائد المادي الذي يكافئ جهوده، ولا من يعوضه عن سنوات عمره التي تصرمت في البحث والتنقيب، وغالبًا لن تباع من الرواية سوى نسخ محدودة، وستتوقف عند سقف الطبعة الأولى.

يعترف الكُتاب الـ 59 أن عدوهم اللدود هو الإنترنت! فهذا الفضاء الافتراضي الجذاب يسهل الانزلاق إليه والالتهاء عدة ساعات دون أن يشعر المتصفح بانقضاء الوقت.

ومنهم من يترحم على السنوات الغابرة قبل اختراع الشبكة العنكبوتية، ويحسد الأدباء القدامى على خلو زمانهم من هذه الملهيات.

وكان لافتًا للنظر أن العشرات منهم يفرون من بيوتهم إما هربًا من الإنترنت، أو سأمًا من القعود بمفردهم في عزلة تامة، ويفضلون الإنتاج في القطارات والمطارات والفنادق والمقاهي والمكتبات العامة، وفي أيّ مكان قد لا يخطر بالبال!

تقول الروائية فال مكدير الحاصلة على جائزة ثيكستون لرواية العام في روايات الجريمة:

“أحب أن أكتب في القطارات، لأن شبكة الواي فاي سيئة للغاية في المعتاد، وإشارة الهاتف متقطعة في أحسن الأحوال، والناس عمومًا يظهرون احترامًا لسماعات الأذن، واللابتوب المفتوح، ولطالما اندهشت من قدر ما أنتجته، وحصلت عليه أثناء رحلات القطار”.

وأما دوغلاس كوبلاند الحائز على جائزة الحاكم الكندية للتميز الأدبي عام 2017 فيقول:

“أولًا: أكتب معظم كتبي في الطائرات، فأنا أكون فعلًا في قمة سعادتي عندما أكتب على متن طائرة. ثانيًا: أكتب الكثير في غرف الفنادق.. إن الأماكن التي أكتب فيها ليست أماكن اعتيادية مطلقًا، فأنا لا أحب مطلقًا ما هو معتاد”.

الخلاصة أن الكاتب الغربي (المحترف) يُصارع بكل قواه لينتج، فمعاناته تتعلق بالإبداع فقط: هل سيفعلها مجددًا ويكتب أم سيعاني من الجفاف الأدبي.

بالنسبة للكاتب العربي معاناته مزدوجة، فهو يعاني من أجل توفير لقمة العيش، ويعاني مثله مثل أيّ مبدع في الغرب أو في أيّ مكان آخر من العالم من الورقة البيضاء التي تتحداه أن يُقرِّب لها قربانًا من روحه.

كتاب ممتع للغاية، ويقودنا في رحلة مشوقة حافلة بالمفاجآت عن طقوس الأدباء وروتينهم الكتابي.

* روائي وكاتب يمني.

   
 
إعلان

تعليقات