Accessibility links

إعلان

وجدي الأهدل*

كيف يمكن للإنسان أن يتصل بجذوره؟ في الماضي كانت هذه المسألة بديهية، وغير مطروحة للنقاش، لأن المشكلة لم تطرأ بعد.

أدى ظهور المدن الكبرى في العالم العربي إلى خلق نماذج جديدة من (الشخصيات) التي يرغب الفرد العادي في تقليدها وتقمصها والتخلي عن شخصيته الأصلية.

فاقمت الهجرات من الريف إلى المدن التي ما تزال مستمرة حتى اليوم بوتيرة عالية من مسخ الشخصية الأصيلة للفرد العربي، وجعله مهتزًا منقطعًا عن جذوره، تتلاعب به الأفكار القادمة من الشرق والغرب كما تتلاعب الريح بورقة منبتة عن شجرتها.

الانتماء إلى المدينة يفرض على الإنسان دفع ضريبة معينة.. وأحيانًا قد تكون هذه الضريبة خصمًا من الجانب الأخلاقي ونقاوة الضمير.

يلهث الجيل الشاب في عالمنا العربي وراء الدعاية.. إنهم أغرار يصدقون الإعلانات التجارية والموضات الغربية في خلطة غريبة مدمرة تفقدهم الانتماء إلى ذواتهم – كما هي وكما أرادها الله – إلى مسوخ تقلد غيرها في الفكر والقول والعمل.

كل ما حولنا في الطبيعة يقول لنا: أنت أيها الإنسان كائن فريد من نوعك، والخالق المبدع زودك بما يؤكد هذه الحقيقة، من بصمات البنان والعين إلى الحمض النووي وملايين الشواهد في جسمك التي تحسم مسألة أنك لا تشبه أحدًا غيرك.

ومع ذلك يسعى الإنسان – ويبدو العربي أكثر من غيره ابتلاءً بهذه النقيصة – إلى التشبه بإنسان آخر، ربما يكون مغنيًا أو لاعبًا رياضيًا أو مفكرًا سياسيًا أو حتى نفرًا من معارفه له شخصية قوية وحقق النجاح المادي والاجتماعي.

في القرآن الكريم نجد التفاتًا إلى هذا السلوك المنحرف في قوله تعالى: “فقلنا لهم كونوا قردة خاسئين”. والمسخ هنا قد يقع على الجسم، وهذا الاحتمال الأول، وقد يقع على السلوك، وهو الاحتمال الثاني والأشد نكاية من الناحية النفسية والعقلية، وهو أن الإنسان (الممسوخ) يصير قردًا في سلوكه، وماهرًا في التقليد والتشبه بالآخرين.

وهذا السلوك (القردي) هو الذي يسيطر على شباب اليوم، وبسببه يعيش العالم العربي حالة من التدهور غير مسبوقة.

إن بناء شخصية الإنسان تحتاج إلى التوازن النفسي والعقلي، والإيمان أن كل شيء ممكن لأن الله موجود. وينبغي أن ننتبه إلى أن جزءًا من البشر فقدوا إيمانهم بالله على المستوى المباشر للعقل، وهؤلاء هم الملحدون، وأن هناك جزءً فقدوا إيمانهم على مستوى العقل الباطن وهؤلاء هم المقلدون.

الإيمان بالله يعني أن تؤمن بإمكانياتك الخاصة، وأنك نافع للبشرية كما أنت وبالحالة التي أنت عليها، حتى ولو لم تفهم مغزى كونك هكذا مختلفًا عن الآخرين.

التساؤل لماذا (أنا) لست كالآخرين خطأ قاتل، وأما التساؤل لماذا (أنا) لست مختلفًا عن الآخرين هو الصواب، وهو الطريق نحو معرفة الذات.

شيء مخيف أن نكتشف أننا مجرد مقلدون لغيرنا.. أن نعيش سنوات طويلة ونحن غير موجودين فعلًا في أجسامنا.. وكأننا أعرنا عقولنا وأحاسيسنا لآخرين، ولم نعط الفرصة قط لمشاعرنا الحقيقية وأحاسيسنا النابعة من أعماقنا بالظهور إلى العلن، وأن نسمح لها بالتأثير ومن ثم إحداث التغيير الإيجابي في سلوكنا اليومي ومنهجنا في الحياة.

تبدو هذه الكلمات بالنسبة للأجداد مجرد هراء مضحك، لأنهم ربما لم يعرفوا أحدًا يُحاكي شخصية شخص آخر، ولو صادفوا واحدًا فإنهم سيضحكون منه ويحاكونه محاكاة ساخرة تجعله يقلع تمامًا عن محاكاة غيره.

عاش أجدادنا على الفطرة، فجداتنا وأجدادنا نشأت وتطورت شخصياتهم بصورة طبيعية ولم تلوثهم أوهام الحضارة، ولم يتدهور أحدهم إلى مرحلة الخروج من جلده والتوهم أنه يعيش في جلد إنسان آخر، كان كل واحد منهم يحب نفسه كما هي، ولا يرتكب حماقة تلبُّس شخصية أخرى ليست شخصيته.

أقول إن هذا داء واسع الانتشار في زماننا، ولعل العدوى به ستنتشر أكثر في أطفالنا، لشدة تعلق الأطفال بالأجهزة الاليكترونية، فهذه الأجهزة الذكية كالهواتف والآيباد واللابتوب تعوق النمو الطبيعي لشخصية الطفل، فينحرف عن معرفة نفسه إلى معرفة طيف واسع جدًا من الشخصيات التي قد لا ندرك مدى خطورة تقمصها من قِبَل الأطفال.

الطفل عجينة قابلة للتشكل، وشخصيته الأصلية ليست محمية كما كانت شخصيات الأجداد، فهذه الشخصية الأصلية تتعرض للتآكل والإضعاف من التلفزيون والهاتف وسواهما من الشاشات، وليس مستبعدًا أن يفقد البوصلة نحو ذاته الجوانية المتفردة في ظل هذا الوابل غير المنقطع من الشخصيات ذات النجومية الطاغية، فيقف أمامها مبهورًا مسحورًا، وراغبًا في تقليد كلامها وحركاتها وملابسها وشكلها، وربما يقود هذا الافتتان إلى الرغبة في الاقتداء بها فيتحول مسار حياته باتجاه خاطئ، اتجاه لم تُمله عليه رغبة نابعة من داخله، وإنما ضوء ساطع أعمى عينيه  فتبعه دون تفكير.

لا أدري إن كان أحد قد انتبه إلى هذه المصيبة العظيمة أم لا؟؟ فالأمر هو أن 99% من أطفالنا لن يعثروا على شخصياتهم الأصلية عندما يبلغون سن الرشد، لأن أرواحهم مشتتة بين عدد لا يحصى من الشخصيات المبهرة اللامعة الهائلة التأثير.. هذا الطفل عندما يشب عن الطوق، لن يفكر (من أنا؟)، ولكنه سيفكر (أيّ واحد منهم هو أنا؟)!!

سوف يبحث عن ذاته في ذوات الآخرين، وهكذا تمضي حياته في ضلال وتذهب سدى، ولن يفهم أنه قد نسي البحث عن نفسه هو، ومن يكون.

* كاتب وروائي يمني.

   
 
إعلان

تعليقات