Accessibility links

إعلان
إعلان

وجدي الأهدل*

ديفيد آيك لاعب كرة قدم بريطاني، مواليد 1952، شغل مركز حارس مرمى في فريق هيرفورد، وبعد إصابته عمل مقدمًا للبرامج التلفزيونية، ثم ادعى أنه تلقى وحيًا لإنقاذ البشرية.. ومنذ تلك اللحظة تغيرت حياته، وألّف 16 كتابًا تصب كلها فيما يعرف بـ(نظرية المؤامرة).

في عام 1998 أصدر ديفيد آيك أحد أشهر كتبه، ألا وهو “السر الأكبر”، وبعد شهر من صدوره قامت الحكومة البريطانية بمصادرة جميع النسخ، وهو إجراء نادر للغاية في بلد يتبنى حرية الفكر والمعتقد.

ملخص الكتاب المثير للجدل أن جنسًا من الزواحف الأصلية والهجينة يسيطر على كوكب الأرض منذ آلاف السنين، وأن سلاحهم للتربع على قمة السلطة في كثير من بلدان العالم هو (السحر الأسود).

لكن رغم مصادرة الكتاب ومحاولة عرقلة انتشاره، فإن الأفكار الواردة فيه لاقت رواجًا في العالم المتحضر، وبحسب استطلاعات الرأي في الولايات المتحدة الأمريكية، فإن هناك 12 مليون أمريكي يؤمنون بصحة نظرية الزواحف البشرية، وأن ديفيد آيك قد كشف الحقيقة المخفية عن البشر منذ آلاف السنين.

في هذا الكتاب يطرح ديفيد آيك أن الأديان السماوية ما هي إلا مؤامرة من الزواحف، الهدف منها إبقاء العقول البشرية تحت سيطرتها، وأن موسى وعيسى لم يوجدا، وأن الزواحف هي التي اخترعتهما من العدم للتحكم بالقطيع البشري عن طريق الدين.

يشرح ديفيد آيك أن “الأنوناكي” الذين ورد ذكرهم في الحضارة السومرية هم كائنات فضائية متطورة للغاية، وعن طريق مزج جيناتهم بجينات البشر تمكنوا من توليد جنس بشري هجين، وهذه السلالة المتطورة هي التي تسيطر الآن على المناصب العليا في كوكب الأرض، ومنهم ملوك ورؤساء، وبيوتات المال الشهيرة في العالم.

أحد الأفكار الغريبة التي يوردها ديفيد آيك هي أن العرق الآري كانوا يعيشون على كوكب المريخ ثم انتقلوا إلى الأرض! وعلى غرار هذه الأفكار يتنقل ديفيد آيك من فكرة لأخرى محاولاً الربط فيما بينها بروابط واهية.. فتظهر الكثير من الثغرات غير المنطقية، والبعيدة تمامًا عن الصحة.

كتاب “السر الأكبر” برأيي يمكن أن يندرج ضمن الأدب الروائي، في فئة الروايات الفانتازية، وخطأ المؤلف محاولته إقناعنا أن ما يكتبه ليس خيالًا ولكن حقيقة دامغة، موردًا كمًّا هائلًا من الأدلة، ومن الممكن أن تكون هذه الأدلة صحيحة، ولكنها لا تتعلق بالموضوع الذي يريد أن يقنعنا به (الزواحف البشرية)، ولكنها تتعلق بموضوع آخر، هو التنظيمات السرية كالماسونية وما شابهها.

يقول ديفيد آيك إن بعض البشر لديهم القدرة على التحول إلى زواحف.. الحقيقة أنه هو نفسه من قام بهذا التحول! حين حوّل خياله الخصب من حقل الأدب إلى حقل المعتقدات.. أيّ أن كتابه الآنف الذكر تحول من عمل أدبي خيالي إلى عمل عقائدي، بالضبط كما توهم أن البشر يتحولون إلى زواحف.

50% من المعلومات التي يوردها ديفيد آيك صحيحة، وهي معروفة من قبل، فلم يأتِ بجديد، ولكنه يوظف هذه الـ 50% من المعلومات الصحيحة لنؤمن بصحة المعلومات الخاطئة التي يسردها.

عندما يصل ديفيد آيك إلى نقطة التشكيك في العلم الحديث، وأنه هو الآخر مؤامرة من الزواحف، حينها نستفيق تمامًا من الأوهام التي يروج لها، ونعلم أنه يعاني من اضطراب عقلي فاضح.

قرأت الكثير من الردود على أفكار ديفيد آيك، ولكن لم أجد بينها من يذكر أنه مصاب بمرض نفسي شائع، هو مرض الذُهان، وأن هذا المرض النفسي هو الذي أنتج تلك الخيالات العجيبة المبثوثة في كتابه.

نجد تعريفًا لمرض الذُهان في الويكيبيديا كما يلي:

“الذهان هو حالة غير طبيعية للعقل تؤدي إلى صعوبات في تحديد ما هو حقيقي وما هو غير حقيقي. قد تشمل الأعراض معتقدات خاطئة (أوهام) ورؤية أو سماع أشياء لا يراها الآخرون أو لا يسمعونها”.

يذكر ديفيد آيك في بداية كتابه أنه كان يسمع صوتًا يدعوه إلى كشف الحقيقة وهداية البشرية.. وهذا عرض من أعراض الذُهان بالغ الوضوح.

لقد اعتمد ديفيد آيك في كتابه على شهادات أشخاص يعانون مثله من مرض الذُهان. أيّ أنه لسوء حظه تتبع سلالة كاملة من المرضى بالذهان في أمريكا وأوروبا، واعتمد أقوالهم الشفهية الموثقة في مقابلات تلفزيونية أو إذاعية أو في المجلات والصحف والكتب كمصادر لا يرقى إليها الشك.

هل لاحظ علماء النفس والأمراض العقلية أن المصابين بالذهان يتفقون فيما بينهم على صحة الخيالات التي تتراءى لهم وحدهم؟؟

في الكتاب الذي ترجمه د. عبدالوهاب المقالح، وعنوانه “رسالة سلام إلى العالم” لمؤلفته الهولندية مي مي ماير، تحدثت بشفافية عن تجربتها المريرة مع مرض الذهان، قالت إنها في أوج مرضها كانت تتحدث مع المريخيين، وأن المسيح ظهر لها عدة مرات، إلخ.

إن مرضى الذهان أشخاص عاديون تمامًا، ويمكنهم متابعة شؤون حياتهم دون أن يشعروا بأيّ اعتلال.. ظاهريًّا يبدو (الذهاني) طبيعيًّا وكل شيء على ما يرام، ولكن إذا كسر أحد ما الحاجز ونال ثقته، فإنه يمكن أن يبوح له بالأمور الخيالية التي تدور في ذهنه.

استقى ديفيد آيك فكرة الزواحف البشرية من مصدر غير متوقع: ديانا سبنسر أميرة ويلز! ولكن هل صرحت ديانا بأن العائلة المالكة البريطانية من الزواحف؟ لم يحدث ذلك مطلقًا، ولكن بعد وفاتها سربت صديقتها الحميمة (كريستين) أن الأميرة ذكرت لها أن أعضاء العائلة المالكة هم زواحف وليسوا بشرًا.. من المحتمل أن الأميرة ديانا التي كانت على خلاف حاد مع العائلة المالكة قالت ذلك الكلام بمعنى مجازي، ولكن صديقتها الغبية أخذت الكلام بمعناه الحرفي.

نحن أيضًا نستخدم هذه الأساليب التعبيرية المجازية، فنقول عن فلان إنه ذئب، وعن فلانة إنها حشرة، ولا نقصد بالطبع المعنى الحرفي، ولكن نقصد أن فيهما شيئًا من طباع تلك الحيوانات.

المؤكد أن الأميرة ديانا كانت مصابة بمرض الذُهان، والمسبب الرئيسي للإصابة بهذا المرض هي الصدمة.. وفي حالتها فإن جميع محفزات الإصابة بالمرض كانت متوفرة، فهي تحولت من إنسانة عادية لا يعرفها أحد، إلى حديث العالم بأسره، وأعداد هائلة من الصحفيين تلاحقها في كل مكان، والأسوأ أن حياتها فقدت خصوصيتها، مع أجهزة التنصت المزروعة في كل مكان حولها، والتنصت على مكالمتها، فهناك عدد لا يستهان به من أجهزة الاستخبارات التي كانت تضعها تحت أنظارها.. وهذا شيء مفهوم بشأن شخصية عالمية وذات تأثير على مليارات البشر، ولكن بالنسبة للشخص نفسه المعني بهذه المراقبة الضاغطة ليل نهار، إذا لم يكن مستعدًّا لهذا الاهتمام منذ الولادة، فإنه سيفقد صوابه حتمًا في النهاية.

الذُهان مرض نفسي شديد الخفاء، والمرضى به لا يعلمون أنهم مرضى، ولا يمكن اكتشافه عن طريق إجراء أيّ نوع من الفحوصات، والأثر الوحيد الذي يدل على الإصابة بالمرض هو حدوث تغيير في سلوك الشخص، وفي بداية المرض يكون هذا التغيير طفيفًا، ثم يتفاقم كلما وجد محفزات تساعده في الاستحواذ على دماغ ضحيته.

أحيانًا يمكن أن نعثر على دليل يبرهن على إصابة الشخص بمرض الذهان عن طريق تصريحه بأفكاره الغريبة غير القابلة للتصديق، كما فعل ديفيد آيك في كتابه “السر الأكبر”.

*روائي يمني.

   
 
إعلان

تعليقات