Accessibility links

إعلان

وجدي الأهدل*

(التنوع) كان السبب الأساسي في خلق الإنسان. قبل إصدار ذلك (القرار) كان الكون خاليًا من التنوع، ويسير على إيقاع واحد، ثابت وساكن.

فيا هل ترى ستكون مملكة الله هي نفسها بدون الإنسان؟ بدون هذا العنصر المُتغيِّر؟ 

لقد اعترضتْ الملائكة على هذا (النوع) الجديد من الخَلق:

“وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً ۖ قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ ۖ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ” سورة البقرة، الآية 30.

إن هذا الاعتراض على التنوع في الكون يُذكرنا بالاعتراض الذي يرفعه القوميون الشوفينيون في وجه القوميات الأخرى، وهم يرفضون التنوع العرقي بحجج مقاربة في معناها للحجج التي طرحتها الملائكة.

هناك سر في (التنوع) لم تكن تعلمه الملائكة، ويجهله كذلك القومي المتطرف المتعصب لعرقه.

كانت عدن في النصف الأول من القرن الماضي مدينة كوزموبوليتانية، تعج بخليط متنوع من الأعراق واللغات والأديان، وأعجوبة اقتصادية حتى إنها وصلت إلى مرتبة الميناء الثاني عالميًّا بعد ميناء نيويورك في تزويد السفن بالوقود.

ولكن هذا (التنوع) تلقى ضربة مميتة، عندما جاءت حكومة وطنية من أبناء البلد، ترفع شعارات أممية، وتمارس على أرض الواقع سياسات تُقصي الآخر وتحرمه من المساواة، فإذا بعدن تتحول بالتدريج، من مدينة عالمية متعددة الثقافات، ووجهة اقتصادية مزدهرة، إلى قرية منغلقة على نفسها، يتصارع سكانها على فتات موائد الأمس الغابر.

الآن في هذه اللحظة، إذا أرسلنا البصر شرقًا وغربًا، رأينا أممًا نهضتْ فاستقرتْ، وأممًا تنهض، وأخرى تسقط.

فأما الأمم التي نهضتْ فاستقرتْ، فمثالها اليابان وأوروبا الغربية وكندا والولايات المتحدة الأمريكية.

وأما الأمم التي دخلت في مرحلة النهوض، فتكاد تشمل طيفًا واسعًا من الدول في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية.

وأما الأمم الساقطة، فهي التي جثتْ على ركبتيها وعجزتْ عن اللحاق بركب التطور والحداثة، فهي أمم تمد يديها لاستجداء المساعدات، وتلهثُ وراء القروض العاجلة والآجلة لتدبر نفقاتها، ذلك لأنها تُقيم أودها على موارد الأمم الأخرى، وليس على مواردها الذاتية.

فما السر وراء نهوض الأمم أو سقوطها؟ وكيف تربح أمة من الأمم النهضة؟

النهضة نهضتان، نهضة إنسانية ونهضة شيطانية، وبتعبير آخر هناك نهضة حقيقية وأخرى مزيفة.

والتفريق بين النهضتين سهل نسبيًّا، ويمكننا العودة إلى القرآن الكريم لمعرفة الفرق الشاسع بينهما، فالعدو الأول للبشرية – حتى لو أخذناه في سياق رمزي – عندما سأله الله لماذا رفض السجود لآدم، أدلى بحجة ذات دلالات هامّة:

“قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ” سورة الأعراف، الآية 12.

إن جواب إبليس الممتلئ بالغرور والكبرياء يعطينا مؤشرًا أن النهضة التي تقوم على أسس غير إنسانية، وتحمل في داخلها فكرة أننا خير شعب على الأرض، وازدراء الشعوب الأخرى، ستؤدي لا محالة إلى نتائج كارثية، وحروب ومجازر دموية، ثم تؤول إلى نهايات مفجعة، كما حدث مع النهضة الألمانية في النصف الأول من القرن العشرين، التي قامت على مبادئ النازية وتفوق العرق الآري، فانتهت إلى دمار ألمانيا وتقسيمها ووضعها تحت الاحتلال، والأسوأ طبعًا مصرع ستة ملايين ألماني دفاعًا عن نهضة شيطانية مزيفة.

وعلى المنوال ذاته انتهى الحال بالنهضة اليابانية، حين حلم عسكريون ساقطون أخلاقيًّا ببناء إمبراطورية تحتل البلدان المجاورة بحجة التفوق العرقي للشعب الياباني، فجلبوا على شعبهم الويلات: قنبلتين ذريتين، واحتلالًا أجنبيًّا، وحرمانهم من حق الدفاع عن وطنهم.

يتردد في المقالات العربية السطحية أن اليابانيين قد انتقموا من هزيمتهم العسكرية في الحرب العالمية الثانية عن طريق تحقيق المعجزة الاقتصادية، ولكن الحقيقة أن الشعب الياباني قد استيقظ وزالت الغشاوة عن عينيه، فأدرك فداحة جرائم الطغمة العسكرية التي كانت تحكمه، فانتقم منها هي بالذات، فأزاحها من طريقه تمامًا، وشيّد نهضته الجديدة على أُسس إنسانية، تقوم على فضيلة التواضع في جوهرها، فلم يعد الياباني عنصريًّا يؤمن بخرافة أنه من طينة أعلى من البشر الآخرين، ولكنه مساوٍ لهم، وهم مساوون له.

بعد توقيع اليابان على وثيقة الاستسلام في 2 سبتمبر 1945 حدثت صدمة للعقل الياباني، حتى إن بعض الجنود ظلوا لسنوات يحاربون في بعض الجزر النائية رافضين الاستسلام، ولكن التغيير الحقيقي بدأ منذ تلك اللحظة، وهو تغيير في الرؤية.. من رفض الآخر والاستعلاء عليه، إلى القبول بالآخر والتعلم منه.

وهذه الحقيقة الأخلاقية توصل إليها الألمان بعد استسلامهم للحلفاء، فانطلقتْ النهضة الجديدة في ألمانيا على أسس إنسانية سليمة، والمواطن الألماني اليوم هو من أكثر البشر إيمانًا بحقوق الإنسان وتمسكًا بمبدأ المساواة الإنسانية.

لقد أراد المصريون تسريع وتائر النهضة في بلادهم، فجاءت ثورة 23 يوليو 1952، وبدا حسنًا أن تحمل الثورة وجهًا قوميًّا يعتز بالعرق العربي، لكن هذه النزعة العروبية –المعادية للأجانب – أدت إلى رحيل الأعراق الأخرى التي كانت مستقرة في الحواضر المصرية إلى الخارج، فخسرت مصر تنوعها العرقي الذي كان سببًا خفيًّا وغير ظاهر في تقدمها وتميزها عن محيطها الإقليمي، وفي نشاط اقتصادها وازدهاره، والأهم من كل ذلك التعدد الثقافي الذي جلبته معها تلك الجاليات الأجنبية ومزجته مع الثقافة المحلية.

كانت مصر قبل الثورة بوتقة لانصهار ثقافات شعوب البحر المتوسط، وكانت تلك السواعد المختلفة الألوان والأديان والألسنة تساهم على هذا النحو أو ذاك في النهضة المصرية، والأثر الباقي عن تلك المرحلة الذهبية للتنوع العرقي في مصر ملحوظ، ويمكن تتبعه بمئات الشواهد، أبسطها في مجال فن العمارة.

أدى التقوقع القومي لمصر إبان المرحلة الناصرية إلى خسارتها أفرادًا وجماعات كانوا يشكلون عنصرًا حيويًّا في نهضة مصر.

والدرس المستفاد من التجربة الناصرية التي آلت إلى الفشل – رغم توفر بنية تحتية جيدة – هو أن الفكر القومي طريق خاطئ إلى النهضة، لا سيما أنه يلوح متقاطعًا مع النهضة الزائفة التي تقوم على الاستعلاء والكبرياء القومي، ولا مناص من الاعتراف بأنها صدى للقومية النازية والفاشية والعسكريتارية اليابانية. ولمن يشكك بشأن ضلال الفكر القومي العربي، فعليه أن يتأمل في النتائج، فينظر إلى الهزائم الساحقة التي لحقت بألمانيا النازية وإيطاليا الفاشية واليابان الإمبراطورية، ويُقارنها بالهزائم الثقيلة التي لحقت بمصر في يونيو 1967، وباحتلال العراق عام 2003 الواقع آنذاك تحت حكم الفكر القومي البعثي.

ولا ننكرُ أن جمال عبدالناصر قد أوجد نهضة في مصر، ولكنها نهضة لم تقم على أسس إنسانية، لذلك اضمحلتْ ولم يكتب لها الاستمرار.

وكذلك على النسق نفسه سار صدام حسين متخذًا من الفكر القومي العروبي هاديًا إلى النهضة، ولا نجادل أنه قد أوجد نهضة في العراق – يدينُ في معظمها لأسلافه من الحكام السابقين- ولكنها نهضة زائفة، سرعان ما انتهتْ بهزيمة عسكرية مخزية، واحتلال جثم على أنفاس الشعب العراقي.

إن المبدأ الأول الذي تقوم عليه النهضة هو المساواة، وعند تثبيت هذا المبدأ الإنساني العظيم يأتي التنوع الثقافي من تلقاء نفسه، فهو العنصر الذي يمهد الطريق أمام النهضة، ومن اتساع دائرة النهضة تنشأ (الحضارة).

المفاجأة هي أن المبدأ الأول لنشوء الحضارة (المساواة) هو نفسه المبدأ الأول في الإسلام! لذلك ما إن تمكن هذا المبدأ من نفوس العرب حتى اتخذوا طريقهم إلى النهضة بيسر، وغدت بغداد عاصمة العالم وقلبه النابض، وفيها انصهرت عديد من الأعراق والأديان واللغات، وولدتْ بالتدريج حضارة لا تزال عظمتها تشع حتى اليوم.

إن الحضارة العربية – الإسلامية التي شملت العالم بأنوارها، ومهدت لظهور عصر النهضة في أوروبا، تدين بفضل ميلادها إلى فضيلة (المساواة) التي جلبت كنتيجة لها التنوع البشري الهائل داخل الإمبراطورية الإسلامية.

ساهم التنوع الثقافي والعرقي في خلق الحضارة الإسلامية خلال العصر الذهبي- من منتصف القرن الثامن وحتى القرن الرابع عشر الميلادي – بينما غرقت أوروبا في عصر رديء يطلق عليه المؤرخون الغربيون مصطلح “القرون المظلمة”، والسبب هو انغلاق القارة الأوروبية على ذاتها، وعدم تلقيها مؤثرات خارجية تخرجها من ظلمتها، لولا أن قبسًا من نور الحضارة وصل إليهم عن طريق الاحتكاك بالمسلمين في الأندلس وعبر الحروب الصليبية، فأضاء لهم الطريق للخروج من نفق القرون المظلمة.

وقلة محدودة جدًّا من مثقفي الغرب تدرك الأثر الحاسم للثقافة العربية – الإسلامية في إخراج أوروبا من عصر الظلمات إلى عصر النهضة.

* كاتب روائي يمني.

   
 
إعلان

تعليقات