Accessibility links

إعلان

وجدي الأهدل*

سوزان كين محامية وكاتبة أمريكية، مواليد (1968)، درست في جامعة برنستون – كلية هارفرد للحقوق، مؤلفة كتاب “الهدوء: قوة الانطوائيين في عالم لا يمكنه التوقف عن الحديث”، الذي صدر عام 2012، وترجمه للعربية عماد إبراهيم عبده، وهو من أكثر الكتب مبيعًا في أمريكا، حسب صحيفة نيويورك تايمز.

أهمية الكتاب تنبع من أنه يلفت النظر إلى خطأ فادح وقعت فيه البشرية، خصوصًا في القرن الماضي، حين تم الإعلاء من شأن قيم تربوية تركز على اكتساب الشخصية القوية، والمهارة على الإقناع، والفصاحة والخطابة والتحدث بطلاقة، وأن يكون الإنسان اجتماعيًا وقادرًا على اكتساب الأصدقاء، وتوسيع دائرة علاقاته إلى أقصى مدى ممكن… إلخ هذه الطباع التي يُرغم الطفل والفتى في كافة بلدان العالم على اكتسابها والتحلي بها، بحجة أنها أدوات ضرورية ليشق طريقه في الحياة.

تزعم سوزان كين أن هذه القيم التربوية لا تُنتج سوى مندوبي مبيعات، وأدت إلى تخريج أجيال من الموظفين البارعين في التسويق!

تذكر سوزان إحصائية مثيرة للانتباه: يصرف الأمريكيون 11 مليار دولار سنويًّا في صفوف التنمية البشرية، بحثًا عن الذات المثالية!

والظاهرة نفسها تكرر في كل دول العالم مع تفاوت في الأرقام، ولننظر مثلًا إلى اليمن التي رغم تدني مستوى الدخل فيها إلى الحضيض، فإن دورات التنمية البشرية مزدهرة، والشباب يتدافعون للالتحاق بها.

قسّم عالم النفس كارل غوستاف يونغ الشخصية الإنسانية إلى قسمين: الشخصية الانبساطية، والشخصية الانطوائية.

خصصت سوزان كين فصلًا كاملًا لتوضيح الفروق بين الانبساطي والانطوائي، خلاصته ما يلي:

“يعمل الانطوائيون غالبًا بشكل أبطأ وبتروٍ أكثر، إنهم يحبون التركيز على مهمة واحدة في كل مرة، ويمكن أن تكون لديهم قدرات هائلة في التركيز.. إنهم محصنون نسبيًّا ضد إغراءات الثروة والشهرة.. وعلى العكس الانبساطيون: مندفعون ومتشوقون لمطاردة النجاح والحصول على جوائز مثل المال والمكانة”.

يرى (يونغ) أنه لا يوجد إنسان انبساطي أو انطوائي 100%، ولو حدث فإن هذا الشخص سيكون مكانه المناسب هو مستشفى المجانين! والصحيح هو أن الإنسان الطبيعي لديه نسبة من هذا وذاك، والنسبة الأعلى من أيهما هي التي تكسبه طبعه الغالب عليه.

لكن كما لاحظت سوزان كين، فإن عالمنا يمجّد (قوة الشخصية) أي أنه منحاز إلى الأشخاص من ذوي الشخصية الانبساطية، وهم الذين يحتلون المراكز القيادية في كل المؤسسات تقريبًا، ويسمع الناس أصواتهم الجهيرة وخطبهم الفصيحة.

عالم نفس أمريكي اسمه (غوردون ألبرت) لاحظ ما يحدث فأدلى بملاحظة في الصميم:

“يبدو أن حضارتنا الحالية تمنح أهمية كبيرة للشخص الوصولي”.

يركز الانبساطي على الخارج، ويركز الانطوائي على الداخل.. ولكن لأننا نعيش في عصر يُشدد على المكاسب المادية، فإن الانطوائي مضطر إلى تقليد طرق الانبساطي ومجاراته، ليحقق الدخل المادي الجيد أو الترقية الوظيفية التي يرى نفسه أهلًا لها، ويهمل الإصغاء إلى عالمه الداخلي الذي قد يحتوي على مواد نافعة للبشرية.

توصلت سوزان كين إلى استنتاج مهم بشأن الأمم، وذكرت مثلًا أن سكان أمريكا هم الانبساطيون الذين هاجروا من أوروبا، وأما الانطوائيون فهم الذين فضلوا البقاء في أماكنهم الأصلية ولم يغادروها:

“من المنطقي أن يكون هؤلاء المسافرون أكثر انبساطًا من أولئك الذين بقوا في موطنهم، وأنهم قد أورثوا سماتهم لأولادهم وأولاد أولادهم”.

ملاحظة أخرى مهمة تدلي بها سوزان كين حين ترجح أن الريفي والبدوي انبساطي، وأما المدني فيغلب عليه الطبع الانطوائي.

حين ننظر إلى ظاهرة الهجرة اليمنية، سنلاحظ أن النسبة الأكبر من المهاجرين جاءت من الريف، وبنسبة أقل من المدن.. على سبيل المثال معظم المهاجرين اليمنيين في أمريكا ينحدرون من ريف المناطق الوسطى ويافع.

تضرب سوزان كين مثلًا بارعًا على الشخصيتين (الانطوائية والانبساطية) معروف لنا أيضًا، يتعلق بالنبي موسى عليه السلام وشقيقه هارون، فالأول انطوائي ميّال للعزلة وعدم مخالطة البشر ويفتقر لمهارة الحديث، والثاني جاء على عكسه ومكملًا للجوانب الناقصة في الأول، فهارون الانبساطي خطيب مفوّه، اجتماعي، ويفضل صحبة الناس.. إذا تأملنا في هذا الثنائي فهِمنا أن الانبساطي والانطوائي ليسا متناقضين، ولا عدوَّين، ولكنهما يكملان بعضهما بطريقة مدهشة.

جميع الأنبياء انطوائيون، وكذلك الفلاسفة، والمفكرون البارزون، والعلماء الأفذاذ الذين ساهموا في تقدم العلم.

مشكلة عصرنا هي الإعجاب بالانبساطي وفتح المجال العام أمامه، والامتعاض من الانطوائي وإزاحته إلى الصفوف الخلفية.

لن تنجح الحضارة البشرية وتنجو من الحروب والفناء والجشع إلا بتوازن العنصرين، أيّ أن يكون للانطوائيين مواقع مهمة في السلطة، لأنهم بطريقة ما صوتُ الضمير الحي.

يصلح الانبساطي أن يترأس السلطة التنفيذية، ويصلح الانطوائي أن يترأس السلطة التشريعية، علمًا أن الدولة التي يحكمها انطوائي ستحقق إنجازات استراتيجية أفضل.

ينتمي الرئيس صدام حسين إلى النمط الانبساطي ربما زيادة عن اللزوم، إلى درجة أنه أراد أن يبسط ظل شخصيته على دول مجاورة فدمّر بلاده، وعلى عكسه السلطان قابوس الذي ينتمي إلى النمط الانطوائي، فحقق لشعبه مكاسب عظيمة في فترة زمنية قياسية.

الرئيس إبراهيم الحمدي كانت لديه شخصية انبساطية، وهذا ما سهّل اغتياله.

على الأرجح حُكْم اليمن يحتاج إلى شخصيات ذات نمط انطوائي، تتميز بالحذر والشك، والميل إلى تجنب اللقاءات الجماهيرية والظهور في المناسبات الاجتماعية والوطنية إلا في أدنى الحدود.

عبر مئات الصفحات أوردت سوزان كين نتائج دراسات كثيرة أُجريت في الولايات المتحدة على مختلف الشرائح الاجتماعية، وكانت كلها تشير إلى تفوق الشخصية الانطوائية في التحصيل العلمي وإنتاج المعرفة.

السبب ببساطة أن الانبساطي يميل إلى حضور الحفلات والمناسبات والانغماس في شبكة علاقات اجتماعية واسعة، فلا يكاد يجد وقتًا للقراءة والانكباب على زيادة معلوماته في مجال تخصصه، ولا يملك الصبر اللازم للإنتاج الأدبي أو العلمي، بينما يتمكن الانطوائي الذي يلوذ بقوقعته عازلًا نفسه عن المجتمع من تطوير ذاته بالتدريج وصولًا إلى القدرة على إنتاج شيء جديد.

“قوة الانطوائيين” التي تحدثت عنها سوزان كين بالتفصيل ليست انحيازًا أعمى مع نمط من الشخصية ضد نمط آخر، ولكنها صيحة تحذير للمجتمع الإنساني ألا ينبهر بالشخصيات الانبساطية التي تفرض نفسها في كل مكان، وأن عليه البحث عن الشخصيات الانطوائية ذات الكفاءة وتمكينها من المشاركة في صنع القرار وإدارة الدولة، فهارون وحده لا يكفي، ولعلنا نتذكر أن هارون عندما تُرك وحده في مركز القيادة تحول قومه إلى عبادة العجل.. وما أكثر الذين يعبدون العجول في زمننا!!

* كاتب وروائي يمني.

   
 
إعلان

تعليقات