Accessibility links

قطب الإرشاد عبد الله بن علوي الحداد 1044- 1132هـ


إعلان

وضاح عبد الباري طاهر*

قليل من العلماء اليمنيين من جاوزت شهرتهم محيطهم إلى المحيط العربي والإسلامي، ومنهم القطب عبد الله بن علوي الحداد الذي ذاعت شهرته في أرجاء الجزيرة العربية والشرق الأقصى.

ولد الحداد في السبير، وهو موضع في ضاحية تريم الشمالية بالقرب من مدينة دمون ليلة الخميس 5 صفر عام 1044، وتحت كنف والده، تلقى القرآن وعلومه الأولية، وهو ينتسب لأسرة طيبة الأصل، كريمة المنبت، زهدت في المناصب الدنيوية، وكان لها دور كبير في نشر الإسلام بالسلوك القويم، والقدوة الحسنة في السواحل الإفريقية وجزر الهند الشرقية.  

فقد الحداد بصره بسبب الجدري، وهو في الرابعة من عمره، فكانت هذه التجربة القاسية رافدًا مهمًّا لتنامي نبوغه، وازدياد ذكائه؛ فأدرك ببصيرته ما لا يدركه المبصرون.

ومع شغفه بالعبادة والتصوف منذ نعومة أظفاره، إذ كان قد شرع يقرأ في (بداية الهداية) للغزالي، لكن أباه لم يشأ أن يتجه للتصوف قبل الامتلاء من علوم الشرع، فحفظ كتاب الإرشاد للعلامة ابن المقري الزبيدي إلى باب محرمات الإحرام، وأكبّ على أخذ العلوم من شيوخ العصر، وكان بعد الفراغ من دروسه يتعبد في أحد مساجد تريم حتى تبلغ صلواته المئة ركعة أو تزيد.

أخذ الحداد على كثير من الشيوخ الذين بلغوا المئة بحسب ذكر العلامة المحدث الجليل عيدروس بن عمر الحبشي، فمنهم العلامة عبد الله بن أحمد بلفقيه والد العلامة المتفنن عبد الرحمن بن عبد الله بلفقيه، وعلى سهل بن أحمد الحديلي، وعمر عبد الرحمن العطاس، وعبد الرحمن بن شيخ مولى عيديد، وغيرهم.

كما تتلمذ عليه طلاب صاروا أئمة عصرهم في العلم والتقوى والتصوف كأحمد بن زين الحبشي، وعمر البار، والأحسائي الذي قدم من الأحساء إلى حضرموت لطلب العلم لديه، وهو أحد أهم مدوني سيرته وكلامه. 

يذكر المؤرخون أن الحداد بلغ رتبة الاجتهاد المطلق، لكنه آثر التمسك بمذهب الشافعي. 

انتشرت مؤلفات الحداد في التصوف في كثير من الأقطار العربية والإسلامية، وهي التي يقال عنها إنها زبدة ما كتبه حجة الإسلام الغزالي، كما أن له راتبًا وأورادًا مشهورة تقرأ في كثير من مدن حضرموت اليمن والشرق الأقصى.

عاش الحداد هموم عصره ناقدًا ما عليه أهل زمنه من الجهالة، كما انتقد المظالم التي كان عليها ولاة عصره من استحلال قتل النفوس البريئة، ونهب الأموال الحلال.

ارتبط الحداد بالأرض، وكان له اتصال بالمزارعين، وكان يحثهم على الإكثار من زراعة الحبوب، وبالأخص البر، وبما أن التوقيت لزراعة البر في جهة حضرموت في منزلة الحوت، وإذا فاتهم زراعته في هذا التوقيت، فإنهم يتوقفون عن زراعته، إلا أنه شجعهم على أن يزرعوه ولو في نجم الثريا، وقد صدقت التجارب صائب رأيه، كما كان يحثهم على أن يزرعوا ثلاث مرات في السنة في قطعة الأرض الواحدة، شريطة أن يكثروا من السماد الطبيعي، فعملوا بإشارته، فجادت لهم الأرض بخيراتها.

وكما كان للحداد اتصال بالزراعة، فقد كان له أعمال تجارية يقوم بها أبناؤه وفق إرشاداته وتوجيهاته، كما أمرهم بالهجرة ابتغاء الرزق، وتحصيل القوت الحلال، وهو ما نجده في إحدى قصائده، إذ يقول:

وحفظ قوانين المعاش وما به الــ            ـــقوام، وضبط الكل تحت السياسةِ

وهو بهذا يسير بسير أئمة التصوف الربانيين، ومنهم الشيخ علي الخواص الذي يقول لأحد مريديه ناصحًا: “اسعَ على عيالك ليلاً ونهارًا، ولو سماك الناس دنيويًّا، فإنه خير من أن يسموك صالحًا، وأنت تأكل صدقاتهم وأوساخهم، وناظرٌ إلى ما في أيديهم”. 

لم يميز الحداد نفسه عن بقية أفراد أسرته في الوظائف المنزلية؛ إذ كان يقوم بإطعام الدواجن في مسكنه ومزرعته بنفسه، كما نجده يقول لأهله: اجعلوا عليّ شيئًا من خدمة البيت أقوم بها، فقيل له: لم تبقَ وظيفة بدون أحد، فقال لهم: اجعلوا عليّ طيّ قرب الماء أطويها وقت طيها.

أثنى كثير من العلماء والمؤرخين والأدباء على الإمام الحداد، وأثنوا على شاعريته، فمنهم علّامة حضرموت ومفتيها عبد الرحمن بن عبيد الله السقاف، والمؤرخ عبد الله بن محمد السقاف، والمؤرخ محمد بن أحمد الشاطري الذي يصفه بأنه “شاعر مطبوع، واسع الخيال، دقيق الوصف، مكثر مجيد”.

كما أنا نجد الدكتور جعفر الظفاري يتحدث عن شعره، فيقول في كتابه (الشعر الحميني)، ص 134: “يعتبر الحداد من أحسن وشاحي اليمن الحمينيين، ويحتوي ديوانه المطبوع الموسوم بالدر المكنون لذوي العقول والفهوم (القاهرة الطبعة الثالثة 1377ه/ 1957م)، على سبع وعشرين حمينية مفرقة في تضاعيف الديوان على غير نظام، ويستعمل المصطلح (فصل) في هذه الموشحات مرادفًا للمصطلح الأعم (بيت)، ومما يجدر ذكره موشحه المشهور (ص 94 – 99) وارد باستهلال مضاف في العطاس (القصائد الأنفاس من أنفاس السادات الأكياس)، بومباي 1312ه، ص30- 32”.

ولسنا ندري هل للديوان اسم آخر هو الدر المكنون؛ إذ أن الديوان المطبوع مشهور بعنوان “الدر المنظوم لذوي العقول والفهوم”، أم أن الدكتور جعفر سها في عنوان الديوان؟! 

 

مختارات من ديوان الحداد:

*ليس هذا بعجيبِ   منك يا ظبي الكثيبِ 

يا شبيهًا بقضيبٍ    هزه ريحُ الجنوبِ

تتخلى عن جنابي    وهو مأوى للغريبِ

وتصافي من جفاني   من بعيدٍ وقريبِ

(فصل)

يا رعى الله زمانًا   مر بي في شعب عامرْ

وسقى الله ليالٍ     بين هاتيك المشاعرْ

والمعاهد والمشاهد    والمعابد والمآثرْ

هل ترى عيشًا تقضى   عائدًا لي عن قريبِ؟!

….

*يا ساكنين نعمان   عطفًا على المكروبْ

الهائم الولهان        الذاهل المغلوبْ

من دمعهُ شنان     في خده مسكوبْ

من فرقة الأوطان     والشادن الرعبوبْ

(فصل)

متى متى يا صاح    تُقضى لنا الأوطارْ

من راحة الأرواح    أنس الحمى والجارْ

وتكمل الأفراح       وتنجلي الأكدارْ 

يا رب يا رحمن   فرج على المحنوبْ

(فصل)

واجبر له كسره         واصلح له أمره 

واطلق له أسره        واشرح له صدره

واشدد له أزره         واغفر له وزره

يادائم الإحسان      شكرك علينا دوب

…..

*ياصاح قلبي ما سلا ولا طاب    من بعد ما فارق الاحباب

وحل بين الباديه والاجناب        والبعد عن ألافه والاصحاب

رعى الله أوقات الوصال يا صاح            أيام كنا في سرور وافراح 

نسقى بكاسات الهنا من الراح            ما نختشي من النصب والاوصاب

(فصل)

يا سعد سر بي نحو ربع حبي        فالشوق قد قطع نياط قلبي

فليس يبرد حر نار قلبي          إلا نزولي بين تلك الاطناب

(فصل)

الله جاري من جفا الحبايب       إنه مصيبة دونها المصايب

فهل ترى تصفو لي المشارب      من بعد طول البعد والتغراب؟!

(فصل)

أرجو إلهي ذا الكرم والافضال   يفتح على قلبي سني الأحوال

مما منح أوتادها والابدال       واغواثها وافرادها والاقطاب

(فصل)

أولئك الأقوام هم مرادي         ومطلبي من جملة العبادِ 

وحبهم قد حل في فؤادي         أهل المعارف والصفا والادابْ

 

وفي الأخير

هذه لفتة عابرة، وطيافة سريعة على سيرة يصعب الإحاطة بفصولها ومآثر صاحبها، وإشارة إلى ديوان مليء بالتصاوير الجميلة، والتعابير المليحة، والمعاني العميقة، خاصة فيما يتعلق بالتصوف التي لا يدركها إلا أهلها وأربابها، وأتمنى كما تمنى قبلي المؤرخ والعلامة الجليل محمد بن أحمد الشاطري أن تكتب عن هذا الديوان أطروحة دكتوراه تخوض في لججه، وتستجلي محاسنه للشادين المتطلعين للآداب والفنون.

*كاتب يمني.

   
 
إعلان

تعليقات