Accessibility links

قصة قصيرة.. قصيدة تتصدرُ نشرات الأخبار


إعلان
إعلان

وجدي الأهدل*

أسكُنُ مع جزمتي في غرفةٍ واحدة، لسنا زوجين، ولكنها تُفضِّلُ النوم بجواري.

الغرفة – تُستخدم كمخزن – ضيّقة، لدرجة أنّ جزمتي أكثر رحابةً منها، وبالكاد أجدُ موضعًا يكفي لأمدَّ رجليّ.

ربما يبدو مستهجنًا أنْ تنشأ علاقة صداقة واحترام متبادَل بيني وبين جزمتي الموقَّرة، لكن هذا الاستهجان سيزول عندما تعلمون أنّ جزمتي المنحدِرة من أرومة بالغة العراقة والنُّبل، هي الصديق الوحيد لي في هذا العالم.

لم أجدْ إنسانًا يودّ حقًّا أنْ يصغي لي، لكن جزمتي على عكسكم أيها البشر، تُصغي بابتهاجٍ عندما أنشدُ قصائدي.

هي لا تُبالي إنْ كنت أكتب شعرًا موزونًا أو حرًّا، ما يعنيها أنْ أجلب جذوة مشتعلة من روحي، وهي أذكى من النُّقاد؛ لأنّ بشرتها تحسُّ بحرارة كلمات، وقد أقسمتْ بالربّ أنّ بعض قصائدي العاطفية سببتْ لها حروقًا سطحية من شدة لهيبها!

ربما تبدو جملة “لا أحد يفهمني” مستهلَكة، وفاقدة لمعناها المأساوي، ربما سيبدو ظلي على هذه الورقة مضحِكًا، لو صرحتُ أنّ هذا العالم يمضي في الاتجاه الخطأ، لأنه لا يفتتحُ نشرات الأخبار بالقصائد الجديدة!، أوليس ميلاد قصيدة بديعة حدثًا عظيمًا، ويستحق أنْ يتصدرَ نشرة الأخبار؟!، لماذا تقتصرُ نشرات الأخبار على أنباء الكوارث والحروب والمجازر؟؟، متى يفهم البشر أنّ نشرات الأخبار يمكنُ أنْ تبدأ بشيء إيجابيٍّ لغسل أرواحهم؟؟، لماذا نُصِرُّ نحن البشر على إيذاء مشاعرنا، وكأننا مازوخيون لا نستطيبُ العيش إلا بتعذيب أنفسنا؟؟، لكن حين تتصدرُ قصيدة رائعة نشرات الأخبار، عندئذٍ سيكون العالم قد اتخذ مساره في الاتجاه الصحيح.

لا بد أنْ نبذلَ الحبّ لأرواحنا أكثر من حبّنا لحبيباتنا وأمهاتنا وآبائنا وأولادنا؛ لأننا عندما نفعلُ ذلك سوف نتمكن من أنْ نحبَّ العالم بأسْره.

وكيف نستطيع أن نفعلَ ذلك دون معونة الشِّعر؟؟

ماذا لو أننا قرّرنا بشجاعة أنْ يستكشفَ كلٌّ مِنَّا الآخر بأرواحٍ مجردة من أسلحة الأذيّة والعِداء والغِلظة؟؟، ماذا لو أننا حذفنا من ذاكرتنا تلك الكلمات البشعة التي جعلتنا وحوشًا ضارية، وشيّدنا عالمًا مختلفًا لا يتكلم إلا لغة كلها مفردات طرية عذبة تفتحُ براعم القلوب؟؟

ماذا لو أخبرتكم عن الحكايات التي تحكيها لي جزمتي عن عالمكم الذي يطفح بالخزي؟؟ حين آوي إلى فراشي، وتدنو مني، وتُوشوش في أذني بأشياء يقشعرُّ لها البدن عن أفعالكم الشائنة؟؟، صدقوني حتى الجِزَم لا يُشرِّفها أنْ تنتمي لعالمكم.

هي عودتني على حكاية قبل النوم، وعلّمتني كيف أُنصِتُ إلى إشاراتها الغائصة في رحِم الغيب.

لكنها اليوم قررتْ أنْ تبوح لي بأسرارها.. اعترفتْ بأنها تتسللُ من غرفتنا، بعد أنْ أغُطّ في النوم؛ لتستمتع بوقتها مع أصدقائها الجِزَم – ادّعتْ الكذابة أنهم ينتمون للطبقة الارستقراطية – وتقضي الليل بطوله في التسكُّع ما بين دُور السينما وقاعات المسرح، وأماكن اللهو البريء.

وأسرّتْ لي، على استحياء، بأنّ ثمة علاقة حبٍّ بينها وبين جزمة ذات عنق طويل في ريعان الشباب، وأنّ هذا الشاب الوسيم قد تقدَّم بالأمس لخطبتها، ثم انقلبت على ظهرها، وأرتني المسمار الذي دقَّه في كعبها!، أوضحتْ أنها حضرت حفل زفاف باذخ، أقامه مليونير جزمة – كان يعملُ في مرفق من مرافق الدولة، وأُثري بطريقة مشبوهة – الذي وزع عليهم كرمًا منه مئات المسامير، وأوقيات من الغراء والقِطع الجلدية الفاخرة، والخيوط الحريرية المتينة، التي ستُنعِشُ المدعوِّين، وتُطيل أعمارهم، وتُحسِّنُ من ظروفهم المعيشية.

فسّر لي هذا الاعتراف الخطير، سرّ تلك القطعة الجلدية التي لم أعرف من أين جاءت، وعملت بكفاءة مشرفة على سدّ ثقب بروليتاري رث، كانت الأتربة تنتهزُ فرصة وجوده لتنشر دعاياتها الشيوعية بين أصابع قدمي.

تراجعتْ جزمتي عدة سنتيمترات للوراء، وهي تنظر إليّ بشكٍّ: “ماذا تكتب؟”.

ضحكتُ وقُلتُ: “سأكتبُ عنكِ قصة، كنوعٍ من المكافأة نظير ما قدمتِه لي من خدمات طوال عامين، ولكي أشكركِ – أيضًا – على جهودكِ الذاتية التي قُمتِ بها لإطالة فترة بقائكِ تحت خدمتي، على الرغم من أنّ هذا تطلّبَ منكِ التضحية بكرامتكِ على مذبح أولئك المحدثي النعمة، سامحيني لأني بخلتُ عليكِ بهذه الأشياء البسيطة التي كانت تَلزَمكِ”.

ناولتني بطاقة وردية معطرة: “ربما كان قدري البائس أنك اشتريتني من أول نظرة!، لكنني على كلّ حال فخورة بأنْ أخدمَ شاعرًا مرموقًا مثلك”.

ذُهِلتُ وأنا أقرأ الاسم المكتوب على البطاقة (الحاج جزمون بن خف آل شبشب).

قالت جزمتي: “هو المليونير الذي تزوّجَ بالأمس، وقد حدثته بشأنك، فوعدني بأنْ يجدَ لك وظيفة، وكلّ ما عليك هو أنْ تذهبَ إليه في مكتبه، وتُناوِله هذه البطاقة، مع طلب التوظيف”.

قلتُ، وقد نبت قوس قزح بين حاجبيّ: “حقًّا.. ياه، إنها المرة الأولى التي سأتعرف فيها على مسؤول مهم”.

قالت جزمتي: “آه لو رأيته في حفل زواجه كيف كان يبدو، وهو يرتدي جلد تمساح فاخر، وقد تزيّنَ بقلادتين ذهبيتين لكلّ فردة، كان في قمة الأناقة والجلال، وأما زوجته المراهقة ذات الكعب العالي، فكانت ترتدي سروالاً ضيقًا يُبرزُ مفاتنها”.

قلتُ: “يبدو أنها من محترفات الإغراء، وإلا لما استطاعت أنْ توقِعه في حبائلها”.

انكمش جلد جزمتي، قلت لها مخمّنًا السبب: “وأنتِ ماذا كنتِ ترتدين؟”.. ردت جزمتي بغضبٍ مفاجئ: “أنت السبب، أنت الذي أجبرتني على الظهور بموضة الرداء المفتوح إلى أعلى فخذيّ.. ثم إنه لولا هذه الفتحة الجريئة، لما تمكنتُ من مصادقة عِلية القوم!”.

تأملتها جيدًا، فإلى جانب الثقوب هنا وهناك، كانت ثمة فتحة أفقية تمتدُّ من أسفلها إلى وسطها، وربما أعلى قليلاً، قلتُ لها مؤنّبًا:

“عيب عليكِ أنْ تُشوِّهي سمعتي وسمعة الشعراء في هذا البلد على هذا النحو.. يا للعار”.

دافعتْ عن نفسها: “أنا أفضلُ حالاً من غيري.. آه لو تعرف ماذا كانت ترتدي جِزَمُ القصاصين”.

قلتُ لها، والفضول يأكلني: “تنورات قصيرة جدًّا؟”، ردتْ: “لا، بل مايوهات أبو خيط!”.

رُحتُ أضحكُ بخبثٍ مدة ساعة، متشفيًا فيهم، ولكن جزمتي اللئيمة قطعتْ عليّ نوبة الفرح بسؤالها: “هل تعرفُ، يا حضرة المحترم، متى ينبغي عليك الذهاب إلى الحاج جزمون بن خف آل شبشب ليعطيك الوظيفة؟”، على الفور انتابني الشكّ، وتكدرتْ ملامحي: “متى؟”.. قالت، وهي تنظر إليّ من طرف عينيها: “عندما تصير حذاءً!”.

حملتُ عصا غليظة ورُحتُ أطاردها، وهي تفرُّ مني بين الكراكيب، ولا تكُفُّ عن الضحك.

قاص وروائي يمني.

   
 
إعلان

تعليقات