Accessibility links

إعلان
إعلان

جمال الشريف

اختفت القطط الضالة من مدينتنا، ولم يكن اختفاؤها غريبًا عنّا، نحن الذين كنا نعرف الحكايا، ولن يكون غريبًا عنكم – أيضًا – بعد أن تعرفوها.

كان اختفاء القطط قد حدث عقب الحادثة التي وقعت لــ”أبو الرماد” في الصيف الماضي.. وبالطبع كلنا نعرف من هو أبو الرماد.. نعم، فأغلب سكان المدينة يعرفونه، فهو شخصية عجيبة، غامضة، ومحيرة..!!

كان أبو الرماد يملك (باص أجرة)، وكان يشتغل عليه في أرجاء المدينة، وكان، كما يقولون عنه: رجلاً عاقلاً.. عاقل جدًّا حدّ الجنون، وأيضًا حكيم، حكيم حد السخرية.. كان أبو الرماد يقول الشعر ويروي الحكايات الغريبة الممتعة، حكايات من الزمن الذي مضى، وكان ينظر إلى المستقبل نظرات ثاقبة، نظرات فاحصة يمتزج فيها التفاؤل بالخيبة.. وكثيرة هي المرات التي صدَقَت فيها نظراته وقراءته للآتي القريب والمستقبل البعيد.

كان أبو الرماد، كما يقولون عنه، رجلاً ذا فراسة.. لذلك ظن كثيرٌ من الناس به الظنون، ورسموا حوله الحكايات، وصوروا حياته بشتى الصور، فقالوا عنه ساحر يمتلك الكثير من الجان المسخّرة له، وبعضهم قالوا عنه إنه حكيم زمانه وفيلسوف عصره، وآخرون من الذين كانوا يعتقدون أنهم يعرفونه صرحوا بأنه أستاذ جامعي قدير هجر الجامعة بعد أن وجد التناقض واضحًا بين ما يلقنه لطلابه وما يلمسه على الواقع المعاش من المعاناة وإهمال كبير للمُثل العليا.. لذلك هجر الجامعة، واكتفى بحياة التقشف والبساطة واللا اكتراث.. فاتخذ لنفسه سبيلاً خاصًّا في الحياة، أسلوبًا صريحًا عاشه واقتنع به.

المهم في هذه القصة هي تلك الحادثة التي وقعت، والتي فيها فقد حياته واختفت على إثرها القطط من المدينة.

ففي ذلك النهاء الحار سقط أبو الرماد على الأرض ملطخًا بدمائه الحارة الغزيرة.. ترنّح وسقط بعد تلك الضربة القوية التي تلقاها على رأسه.. حدث ذلك الأمر بعد أن اشتد الجدل بينه وبين أحد من ركاب الباص الذين يرفضون دفع الأجرة، وبعد أن تحول ذلك الجدل إلى شجار وعراك سقط خلالها أبو الرماد، وحتى لم يمهله القدر ولا خصمه لحظة واحدة للوصول إلى حل ممكن، وفض الاشتباك، بل إن خصمه انهال عليه بقطعة حجر، فهشم رأسه، وسالت دماؤه، وتناثر دماغه على الأرض.. ووسط ذلك الذهول الذي انتاب الحضور في ذلك الوقت تسللت قطة ضالة في المكان، كانت – كما يبدو – جائعة وخائفة، التهمت جزءًا من الدماغ.. وعندما تنبه بعض المحتشدين لتلك القطة الجائعة نهروها بتقزز واشمئزاز وخوف وصرفوها؛ فتسللت هاربة بذلٍ وذعر، واختفت في أزقة المدينة.. بعد ذلك نُقل جسد أبو الرمال إلى المستشفى القريب، وبعد الفحص الطبي الشامل الذي قام به الدكتور توماس، رئيس البعثة الطبية التي كانت تزور المستشفى لإجراء بعض العمليات الدقيقة.. أعرب ذلك الطبيب باقتناعٍ كاملٍ بأن الرجل الذي فحصه كان بإمكانه أن يكون الرجل العبقري الأول في العالم،…..

ومن خلال تلك الفحوصات بالغة العناية أضاف بأن البشرية قد خسرت بموته منقذها المنتظَر نحو الخلاص من العديد من المشاكل والأزمات.. وكذلك أكد كل أعضاء البعثة المرافقة للطبيب «توماس» صحة تلك الطروحات التي لا ترقى إلى الشك والاستهتار بنتائجها، كما صادق على ذلك أطباء مدينتنا، وأيدوا تلك الفرضيات والمعطيات الموضحة بالإثباتات العلمية المبرهنة، والتي توصلت إليها الفرقة الطبية المشتركة.. وعند ذاك أكد الدكتور توماس على قدراته وإمكاناته على نقل دماغ أبو الرماد إلى شخص آخر متعافٍ ليستفيد العالم من تلك العبقرية، ولمّا لم يكن هناك شخص واحد في المدينة يقبل بتلك المجازفة في دخول المجهول أو التطوع لخدمة العلم وإفادة البشرية فإن اختيار قاتل أبو الرماد كان أمرًا عادلًا وبديهيًّا لإجراء عملية نقل الدماغ، وبدلاً عن عقوبة ما اقترفه.. ولكي لا يخسر العالم تلك العبقرية فقد صادق بالإجماع نواب المدينة على إجراء العملية، وبكل سرعة ممكنه ودون أي نقاش لقانون العقوبات المغطى بالتراب على رفوف المكتبات وأدراج المؤسسات الوزارية.. لكن المشكلة الوحيدة التي واجهت كل تلك الإجراءات الحاسمة والسريعة هي في ذلك الجزء من دماع أبو الرماد، والذي أكلته القطة، ولما كان العالم بحاجة ماسة لتلك العبقرية فقد تم وضع ذلك الدماغ في ثلاجة المستشفى، وجُعل عليه حراسة مشددة حتى يتم العثور على القطة الضالة، وعند ذاك تشكلت فرق البحث عنها.. لكن السؤال الصعب والوحيد الذي واجه تلك الفرق في عملية البحث هو: كيف سيعرفون تلك القطة التي يجري البحث عنها بين كثير من القطط؟.. وهنا صرح الدكتور توماس لوسائل الإعلام بأنه عندما يجدون القطة تقول شعرًا، فانهم بذلك يكونون قد عثروا على ضالتهم.

   
 
إعلان

تعليقات