Accessibility links

إعلان

وجدي الأهدل*

تُجمع المصادر التاريخية على أن قريشًا قبيلة عدنانية، وأن مكة مدينة حجازية، فهل هذه المعلومات صحيحة؟

كلنا درسنا هذه المعلومات في المناهج التعليمية، وقرأناها في الكتب التاريخية، لكنني هنا سأشكك في هذه المعلومات التاريخية الراسخة، وأقدم معلومات مختلفة مدعومة بالأدلة الجغرافية والشواهد من الأحاديث النبوية.

أولًا- الأدلة الجغرافية:

يسمى الساحل الغربي لشبه الجزيرة العربية “تهامة”، ويمتد هذا الإقليم من خليج العقبة شمالًا إلى باب المندب جنوبًا، ويحده من جهة الغرب البحر الأحمر، ومن جهة الشرق المرتفعات الجبلية.

وهذا ما جاء في موسوعة ويكيبيديا ننقله بالحرف:

“تِهَامَة منطقة تاريخية تعد أحد أقاليم شبه الجزيرة العربية الجغرافية الخمسة، وهي السهل الساحلي المحاذي للبحر الأحمر بين أقاليم الحجاز واليمن غرب شبه الجزيرة العربية. وأشهر مدن تهامة في الوقت الحالي: مكة، جدة، الليث، القنفذة، ينبع، رابغ، جازان، الحديدة، زبيد. وأهم مدن مرتفعات تهامة أو نجودها، والتي تعرف بصدر تهامة، وهي: المخواة، بارق، المجاردة، محايل عسير، محافظة أضم، رجال ألمع، الفرشة، فيفا، الملاحيط، حجة.

ويطلق على النبي محمد لقب النبي التهامي لكونه منها. قال أبو الفداء:

«والتهامي منسوب إِلى تهامة، وهي تطلق على مكة، ولذلك قيل للنبي تهامي لأنه منها، وتطلق على البلاد التي بين الحجاز وأطراف اليمن».

إن هذا الدليل الجغرافي على وضوحه، غاب عن بال المؤرخين العرب، وربما عن بال المؤرخين اليمنيين أيضًا، لأن هذا الدليل الجغرافي يميز بدقة أن مكة تخم من تخوم اليمن، فلا هي نجدية ولا عراقية ولا شامية.

ثانيًا- الشواهد من الأحاديث النبوية:

عن يزيدَ بنِ الأصمِّ العامري الهوازني قال أُهديَ لأم المؤمنين ميمونة بنت الحارث ضب أو ضِباب فأمَرتْ به فصُنع طعامًا فأتاها رجلان من قومِها فقدَّمته إليهما تتحفُهما به فدخل النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ فرحَّب بهما ثم تناول ليأكلَ فقال ما هذا فقال ضبٌّ أُهدِيَ لنا فقذفَه ثم كفَّ يدَه فكفَّ الرجلان، فقال لهما : «كلوه فإنكم أهل نجد تأكلونها، وإنا أهل تهامة نعافها».

وفي حديث آخر:

“كَانَ عُيَيْنَةَ بْنِ بَدْرٍ جَالِسًا عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَهُوَ يَعْرِضُ خَيْلا، فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَنَا أَبْصَرُ بِالْخَيْلِ مِنْكَ».

قَالَ لَهُ عُيَيْنَةَ: وَأَنَا أَبْصَرُ بِالرِّجَالِ مِنْكَ، قَالَ: «كَيْفَ؟» قَالَ: خِيَارُ الرِّجَالِ رِجَالٌ مِنْ أَهْلِ نَجْدٍ يَضَعُونَ سُيُوفَهُمْ عَلَى عَوَاتِقِهِمْ، وَرِمَاحَهُمْ عَلَى مَنَاسِجِ خَيْلِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: “كَذَبْتَ خِيَارُ الرِّجَالِ رِجَالُ أَهْلِ الْيَمَنِ وَالإِيمَانُ يَمَانٌ، وَأَنَا يَمَانٌ وَأَكْثَرُ الْقَبَائِلِ فِي الْجَنَّةِ”.

والأحاديث التي تثني على أهل اليمن معروفة، وتعزز الفرضية التي طرحناها.  

ويمكن أن نضيف المزيد من الأدلة إذا تتبعنا مسار هجرات القبائل اليمنية، فإن أول قبيلة استوطنت مكة هي قبيلة جرهم اليمانية، أما لماذا لم نسمع عن هجرة قبائل شامية أو عراقية أو نجدية إلى مكة؟ فذلك لأن مكة ضمن إقليم تهامة، وتهامة جزء من اليمن، فكأنها هجرات داخلية، داخل البلد الواحد نفسه، وهذا الذي رأيناه يحدث في يثرب التي استوطنتها قبيلتا الأوس والخزرج اليمنيتين.

وننوه أن الاسم القديم لإقليم تهامة بحسب ما ورد في النقوش السبئية هو “يمنات”.

نحن اليوم نعرف أن الوحدات الجغرافية الثلاث المشهورة (اليمن – الحجاز – الشام) مرتبة وفقًا لخطوط العرض، فاليمن تقع جنوبًا، والشام شمالًا، والحجاز تتوسطهما، لكن يبدو أن الترتيب في العصور القديمة كان وفقًا لخطوط الطول، فاليمن (يمنات) تقع جهة الغرب، أيّ الساحل الغربي لشبه الجزيرة العربية، والحجاز هي المرتفعات الجبلية التي تمتد من يافع جنوبًا إلى جبال السروات – مدين شمالًا، والشام تقع شرق شبه الجزيرة العربية، وهي حضرموت وعمان ونجد والساحل الشرقي.

وهكذا يبدو معقولًا أن توصف المرتفعات الجبلية بوصف “الحجاز” لأنها تشكل حاجزًا طبيعيًا بين الساحل الغربي والصحارى الشرقية.

وكذلك يبدو مفهومًا لماذا أطلق الجغرافي اليمني القديم وصف الشام القريب من الشؤم على الصحارىي القاحلة في شرق شبه الجزيرة العربية. وأما الشام التي نعرفها حاليًا فلا ينطبق عليها هذا الوصف. وكذلك إقليم الحجاز المعروف لدينا الآن بهذا الاسم لا يبدو مطابقًا تمامًا لاسمه.

لا نعرف متى حدث هذا الانقلاب والتبديل في المواقع الجغرافية، فحلت خطوط العرض محل خطوط الطول في تحديد التخوم اليمنية والحجازية والشامية.. أحد الاحتمالات الممكنة هو أنه بعد خراب سد مأرب عام 115 ق. م وهجرة القبائل من مأرب وما حولها إلى شمال شبه الجزيرة العربية، أدى هذا الحدث إلى تغيير اتجاه الشام من الشرق إلى الشمال، واليمن من الغرب إلى الجنوب.

استحوذ عرب الشمال على الرموز الإسلامية، ونفوا يمانية النبي ومكة، وجردوا أهل اليمن من تلك الامتيازات..

ولاحقًا دأب المستشرقون ومن جاراهم من العرب كعميد الأدب العربي طه حسين على نفي عروبة اليمنيين، وزعموا أن لسانهم أعجمي غير عربي! وكل هذه أباطيل تدحضها الحقائق الجغرافية والأحاديث النبوية التي أوردناها آنفًا.

إن مكة والنبوة وكل ما ترتب على رسالة الإسلام العظيمة من إنجازات ضخمة جزء لا يتجزأ من الحضارة اليمنية، فهي فرع من فروعها، والثمرة الناضجة التي أينعت في بستانها، وليس كما توهم نفر من المثقفين اليمنيين أن الإسلام قد طمّ الحضارة اليمنية وأنهى وجودها.

كل ما سجلته كتب التاريخ الإسلامي من تجاذبات وتنافر بين العدنانيين والقحطانيين مجرد هراء غير علمي.. ثرثرة عقيمة جرى اجترارها في المجالس ثم في بطون الكتب. وأما الحقيقة العلمية التي يجب أن نتيقن منها فهي أن نشوء الإمبراطورية العربية – الإسلامية العظمى التي امتدت من حدود الصين شرقًا إلى حدود فرنسا غربًا، لم تأتِ من فراغ كما نظن، وظن أسلافنا، وتوهم ذلك المستشرقون أيضًا، وإنما هي تطور أصيل من حضارة قديمة، هي حضارة اليمن، والشكل الجديد الذي اتخذته للنمو، ومن ثم الانتشار إلى جهات العالم الأربع.

يجب تصحيح الاتجاه التأريخي الذي يفصل حضارة الإسلام عن حضارات اليمن القديمة.

الحضارة الإسلامية هي حركة تاريخية تمتد جذورها العميقة في الحضارات اليمنية القديمة: المعينية والقتبانية والسبئية والحميرية.

ظهور الإسلام كحدث تاريخي زلزل العالم، لم ينشأ فجأة.. سنن التاريخ لا تعمل بهذه الطريقة.

ربما حان الوقت لنستيقظ وندرك حجم المساهمة اليمنية الروحية والمادية في العالم القديم والمعاصر.

* روائي وكاتب يمني.

   
 
إعلان

تعليقات