Accessibility links

إعلان
إعلان

شائف علي الحسيني* 

الصديق العزير الأستاذ أحمد الأغبري في كل إصدار من إصدارته الكتبية يدهشنا بالجديد من المواضيع والأفكار والرؤى التي تتنقل بين الطبيعة والإنسان، بين الفكر والأدب والتاريخ. 

في كتابه الأول، الصادر في 2021م “أجنحة الكلام …وفضاء الأسئلة”، رصد حركة الأدب والفكر فيما أنجزه اليمن المعاصر، حتى غدا الكتاب تاريخًا سجل فيه أسماء الأدباء والشعراء والروائيين والمفكرين ومنجزاتهم الأدبية والفكرية في سفر تجاوز 400 صفحة من القطع المتوسط، حاور المفكرين والكتّاب الشعراء والفنانين، وشمل بذلك خارطة اليمن الإبداعية، على امتداده وتنوعه من الغرب إلى الشرق، ومن الشمال إلى الجنوب، وكان عملاً إبداعيًّا أشاد به الكثيرون من أساتذة كبار ومفكرين أجلاء، منهم الدكتور عبدالعزيز المقالح، الذي قال في مقدمة الكتاب “وهو جهد مبدع لا يضاهيه إلا تلك الكتب التي أنجزها المبدعون في الشرق والغرب, وقدموا فيها شخصيات متنوعة في الآداب والفنون، وكان لهم في تلك الكتب دور لا يُمحى، ولا تزال من الكتب التي تنال إعجاب القارئ وتقديره لمؤلفه”.

وقال عنه الأستاذ العزير المفكر عبدالباري طاهر – أطال الله في عمره “إن كتابه (أجنحة الكلام.. وفضاء الأسئلة) يعطي الدلالة، ويؤشر للمعنى، ولعل أجنحة الكلام مستوحاة من الحكمة العظيمة التي أرسلها الفيلسوف العربي ابن رشد كردٍّ على إحراق كتبه، فقال للحزانى من أتباعه: إن للأفكار أجنحة، وهي أجنحة تطير وترتفع إلى أعلى عليين”. 

ولا شك من يقرأ ذلك السفر (أجنحة الكلام.. وفضاء الأسئلة) سيجد فيه جمال الكلمة ومعانيها وأبعادها، فهو بعمقه وتنوعه يشكّل خارطة الوطن الموعود الذي يحلم فيه كل أبناء اليمن، من الحرية والعدالة والمساواة والحداثة والأمن وغيره.

وقد أهداني أحمد الأغبري قبل أيام كتابه الجديد “اليمن من الداخل” – نسخة إليكترونية، فأجدني أقارن بين عملين متميزين شكّلا صورة الوطن، الأرض والإنسان, الأول في الفكر والفلسفة والأدب, والثاني في المكان والزمان، والتاريخ والحضارة، فصار بذلك لمن يقرأهما كتابًا واحدًا يمكن مجازًا تسميته (اليمن) يجمعهما الوحدة الفكرية والجغرافية والتاريخية والحضارية، إنه صورة إبداع متجدد وهدف نبيل وعقل مستنير.

حديثي هنا سيكون حول كتابه الأخير (اليمن من الداخل) الصادر في 2022م، فقد قرأته بشغف ومحبة، ووجدت فيه متعة الترحال الذي جال في ربوع الوطن العزيز، سهوله وبحاره وجباله، وما أدهشني كذلك في كتابه الجديد أنه ذلك القلم البارع في تصوير المكان  والمعمار والشخوص، فقد حول ما نعتقده نحن جمادًا إلى أرواح حية أجاد ببراعة التعبير والتصوير وانتقاء الكلمات وتوظيفها فمنح الكتاب الحيوية، وكأنه يشيد قصرًا بديعًا حجرًا فوق حجر يترافق معه في رحلته المكانية والزمانية أينما توجه، وكأنه صديق حميم، يتأمل المباني والشوارع والنوافذ والأبواب، وينداح كلامًا أرق من نسيم الصباح.

والكتاب يحمل كذلك بين دفتيه رقة الشاعر وحساسيته، ويد الرسام وتجلياته.. وحين تقرأ كتابه هذا وغيره تتمنى أن يكون لك شيئًا من مواهبه وقدراته في لغته الرفيعة وجزالة ألفاظه, ورسائله التي تحمل مضامين عميقة في ثنايا الكتاب, وأيضًا صبره وبُعد نظره في أمور وشؤون كثيرة.

 استنطق المكان فعلاً في رحلة ممتعة وجعلنا نعيش حالة وجدانية مع المدن والوديان والجبال والبحار، يأخذ الصورة الكلية للمكان والزمان ثم يجزئها ويتحاور معها لتعطي المعني الذي يحقق غايته ويريح قارئه.

وصَف المباني والأحجار والجبال والنوافذ والأبواب والأسوار في  صور باهرة  تجعل القارئ يعيش لحظة بلحظة مع نغمات قلمه الرشيق الممتع الذي لا يبلغه سواه بعزف رائع يحمل كل قيم الجمال وسيمفونية الحياة، ويحبب إلى النفس بشغف الجغرافيا والتاريخ.

وصف صنعا ء بعبارة عاشق متيم قائلاً: “إنها صنعاء المدينة القديمة، التي تنتظرك في حوانيت أسواقها لتكشف لك عن أسرار مَلاحتها، هناك في سوق (الملح) إحدى أسواقها التقليدية, تطل بنوافذها الخشبية المتوجة بعقود زخرفية جصِّية مملوءة بزجاج ملون يسمح بنفاذ ضوء الشمس أشبه بضوء القمر، ولهذا تسمى (القمرية)، التي تعد أبرز ملامح مبانيها المترعة برشاقة معمارية ساحرة، المفعمة بلونها الأرجواني، المطرزة بنقوش وتشكيلات تظهر معها تلك المباني كعرائس في ليلة زفافها” ص 33. 

“هنا في سوق الملح لتغسل عينيك رؤية مَلاحتها في فصوص العقيق، ونكهة البن، ومذاق العنب، ولذة عصير الزبيب، وسحر مصوغات الفضة، وبريق مسكوكات النحاس، ورائحة البخور والتوابل وأعشاب تطبيب العطارين، ومهارة النجارين، وبراعة الحدادين، وطِيبة الشارين وبساطة البساطين…” ص 38.

ثم رحل أحمد الأغبري إلى (إب) المدينة والمحافظة، وصوّر لنا من هناك جمال مناظر (إب) الطبيعة الخلابة وتكوينها الجغرافي المتميز والتاريخي العريق، قائلاً: “من قمة جبل سمارة يمكن للزائر الإحاطة بتفصيلات الكرنفال.. كل شيء هنا يدعوك لتسمع منه القصة، قصة جمال اخترقت أسطورته قسوة المرتفعات لتكون واقعًا حيًّا في الوديان حيث ثارت الحياة لتضوع بعطرها تضاريس كل شيء، لترسم في وجه كل شيء ضحكتها.. هذه الضحكة التي تبدأ خريطتها من بطون السهول والوديان.. هذه الوديان التي تنساب ممراتها منحدرة غربًا وشرقًا، فأما التي في شرق المحافظة فتصب في سهل تهامة، وأما التي في غربها فتصب في خليج عدن، ومن فرط جمال هذه الوديان فقد تغنى بها العديد من الشعراء والفنانين..” ص20-21.

في كتابه (رحلة  داخل اليمن) لا يتوجه إلى مكان إلا وقد صب فيه مشاعره ووجدانه شعرًا ونثرًا، محبةً وأشواقًا، كيف لا والوطن في روحه متّقد على الدوام بشماله وجنوبه لا يبرح عنه منذ قرأنا له كتبه ومقالاته خالدًا أبدًا.

تعالوا لنرافقه في رحلة إلى عدن، هو الآن يُحلّق في أجوائها، ويسير في رحابها، بعد أن غادر صنعاء, وإب، وكانت وجهته الجديدة إلى عدن، وهناك يفتتح كلامه عن عدن، فيقول: “عدن مشرقة، باسمة دومًا، لها طلعة لا تمل، ورؤية لا تحتوى، وتعيش فيها متعة لا تروى، وذكريات لا تنسى لما تكتنزه من فرائد المدن وأسرار المواقع والأماكن.. مدينة وقعت في أحسن موقع وألطف موضع، محمية بسور من الجبال البركانية يفتحها على البحر، فتطل على مشارف البحر العربي، مدينة فريدة في كينونتها، وحيدة في هيئتها، مسكونة بالطمأنينة، متوحدة مع القيمة الإنسانية للمكان، ممتطية صهوة القيمة الاقتصادية للموقع الطبيعي الجذاب للسياحة والملاحة، والذي جعل من حركته التجارية دائبة منذ غابر الأزمان، فكانت نافذة من نوافذ الزمن اليمني الجميل، وثغرًا باسمًا من ثغور حضارته” ص 47.

ويضيف: “وأنت في (كريتر) ستغمرك حالة وجدانية مفعمة بإحساس جميل تنتشئ معه روحك بالألفة.. يزيد من تفاعل وانفعال هذا الإحساس ما تلمسه في مجتمع المدينة من انسجام يتجاوز الانسجام المتوفر في مفردات معمارها وتصميمها المديني إلى بساطة الناس، وتعاملهم الرفيع مع المكان والإنسان ما غمر حياتهم ومدينتهم بالسكينة والطمأنينة، التي تنثال على الزائر قبل أن يشعر بها في عاداتهم وتقاليدهم، ويقرأها في مفاهيم أسواقهم ومجالسهم وأسمارهم، إلخ” ص 51.

ومن عدن يرتحل إلى شبام حضرموت، وهناك وقف وشاهد الأسطورة واقعًا في بيوتها الطينية وهندستها العجيبة وصمودها طوال هذه الأزمنة ستمئة سنة برغم العاديات والتقلبات.

ربما أنها أول ناطحات سحاب في العالم.. يقول عنها: “لن تتمالك نفسك وأنت بين يدي تلك البنايات شاخصًا ببصرك إلى أعلى، فيدهشك ما هي عليه من تطاول  وشموخ وتعاضد كالبنيان المرصوص، ويزيد من دهشتك وأنت تتنقل ببصرك بين تفصيلاتها وتقاسيمها الجمالية، وما هي عليه من تناسق وانتظام دقيق” ص 59.

ويعود أحمد الأغبري من شبام حضرموت إلى (ثلاء) شمال غرب العاصمة صنعاء، فيبهرك بوصفها وجمال موقعها وإطلالاتها على ما حولها من السهول والجبال، ثم يعود إلى حضرموت مرة أخرى، وكأنه قد رُبط بحبال المحبة هناك كلما بعُد شدّ ليعود، وفي هذه المرة  زار مدينة الهجرين في حضرموت، التي أسماها ديار امرئ القيس، ووصفها قائلاً: “وينتصب أمامك الجبل حيث أطلال (دمون الهجرين)، والتي قال فيها امرؤ  القيس: تطاول الليل علينا (دمون) إنّا معشر يمانيون | وإنا لأهلنا محبون”، “المكان مخطوطة تاريخية لحكاية لم تكتب فصولها بعد، فصول وحكايات تنتظرنا لنقرأها ونرويها، وهي رؤية مفتتحها هذه المدينة، مدينة يتضوع الشعر بين أرجائها، ويمشي الفن على قدميه بين أحيائها” ص70, 78.

ثم يفرد جناحه ليطير إلى وسط اليمن، إلى مدينة (دمت) محافظة الضالع، التي وصفها بمدينة البحيرات المعلقة، قائلاً: “إنها مدينة نائمة على بحر من النار المتدفق في كل ارجائها  عبر عدد من الينابيع المعدنية الحارة، وهي على الرغم من ذلك تستلقي على بساط من المروج الخضر الخلابة، حيث تتلاقى الجداول الجوفية الدافئة بالعيون العلاجية الساخنة… إلخ” ص79.

والقارئ للكتاب لا يعلم ما في نفس الكاتب من محبة متجددة لحضرموت خاصة، حتى يشك أنها محل مولده، أو هي منبع أصل جدوده، فيعود إلى هناك عاجلاً، إلى (تريم)، وهناك يترنم بحضارتها ومساجدها وبأهلها، ويقول: “كأن التاريخ والجغرافيا قد عزفا فيها لحنًا انداحت منه لطافة مكانًا وإنسانًا”، ثم يعود مرة أخرى إلى الطويلة في شمال الوطن ويصفها بقوله: “إنها مدينة من عالم الأساطير، حتى مناخها يشهد تحولات يومية تنتقل معه من مدينة شمسية إلى مدينة غيوم تقترب حد لثم بيوتها” ص 98.

ثم يعرج إلى بيت بوس في ضواحي صنعاء، ثم مرة أخرى يعود إلى حضرموت إلى قرية (حيد الجزيل)، ويقول فيها كلامًا كأنه الدر المكنون سجله في متن الكتاب، ثم يعود إلى رداع  وسط اليمن، حيث المدرسة العامرية أعظم أثر علمي للدولة الطاهرية، قبل خمسمائة وأربع وثلاثين سنة (910 هجرية 1504 ميلادية)، حيث فيها درس الدارسون العلوم المختلفة، وأتوا إليها من أرجاء اليمن والعالم الإسلامي, وكانت إحدى رموز اليمن العلمية في ذلك العصر الذي تميز بنشر العلوم والمعارف.

ومن هناك، من العامرية برداع شده الشوق مجددًا إلى قصر (سيئون) في حضرموت قصر السلطان ليستكمل المشهد القصر، كما قال: “الذي يعد درة مدينة سيئون وعنوانها، وأحد أبرز معالمها التاريخية، وهو فوق ذلك يمثل تحفة معمارية غاية في الجمال” ص140. 

صار الكاتب في هذا التنقل والترحال حالة متوحدة بالمكان، نصفه هناك ونصفه الثاني هنا، ربما أنه أراد  بذلك التداخل والتمازج القول: كيف يفصل الجسد الواحد؟

وهنا في صنعاء مرة أخرى ساقه الترحال إلى دار الحجر الذي كما قال تتجلى روعته في خصوصية التكوين على رأس صخرة تعلو المكان، ومن دار الحجر يفرد جناحه ليطير إلى جزيرة الأحلام  (سقطرى)، التي قال عنها العلماء: إن الآثار المكتشفة فيها ترجع إلى ما يقرب من مليون سنة… إلخ”، وفيها تراث إنساني خالد، فهي موطن الإنسان الأول، وفيها الحياة على طبيعتها بأشجارها وطيورها وحيواناتها المتنوعة دون أن يُحدِث فيها البشر الخراب.. إنسان سقطرى حافظ على التراث وحافظ على البيئة وتحلى بالبساطة والأخلاق العالية، ولهذا صارت موردًا لكل عشاق الطبيعة في العالم. تحدث عن الطبيعة بآفاقها الرحبة، وعن اليمن الكبير عرضه وطوله وتاريخه.

ومن حديث المحميات، رحل إلى محمية عتمة، قائلاً: “هناك ينبسط جمال الطبيعة ببذخ يفترش الأرض متوجًا وصاعدًا إلى المرتفعات بمدرجاتها الساخرة، وهابطًا في الوديان بامتداداتها الباسمة ضمن بيئة فريدة يكسوها الاخضرار معظم أيام السنة” ص178.

وفي ختام الرحلة كما قال عاد إلى شارع المطاعم… منتهى الملتقى في العاصمة قلب ميدان التحرير من حيث أشرقت أنوار 26 سبتمبر 1962م، هنا في هذا المكان يتجمع الأدباء والناس من جميع أنحاء اليمن ليشكلوا مجتمعًا صغيرًا لوطن لو يعلمون كم هو رائع وعظيم.

الكتاب بتجلياته المختلفة معجم تاريخي ولغوي وجغرافي، ووطني يستحق القراءة والتأمل والتمعن في مضمونه ومعانيه, فهو جهد لا يمكن القول عنه سوى أنه مضنٍ ومكلف، ولكن كما تبين أن محبة الكاتب أحمد الأغبري لوطنه وأهله جعلت ذلك أسمى من التعب والتكلفة.

لك المحبة ودوام الصحة والعافية أيها الصديق العزيز الوطني والمبدع.

 * كاتب يمني.

   
 
إعلان

تعليقات