Accessibility links

قراءة في كتاب “أيامي في الجزيرة العربية: حضرموت وجنوب الجزيرة” 2-2


إعلان
إعلان

وضاح عبدالباري طاهر*

وفي رحلات السيدة دورين إلى بوادي ووديان حضرموت، تبدي شعورها بالامتنان لحسن حظها بأنها لم تصادف إلا قليلاً جدًّا من البدو المشاكسين، لكنها أبدت انزعاجها من أحدهم، فقد كان يمطرها بكثير من الأسئلة الفضولية حتى عن تلك التي تتعلق بحياتها الشخصية مع زوجها هارولد، ومع ذلك، فقد خلصت في الأخير، أن رفاقها على العموم رفقاء، ظرفاء، ومسلين، وخدومين إلى أقصى ما في وسعهم.

وتقول: “وعندما أتذكر الآن تلك الأيام، أستغرب كيف أنه لم يخالجني أبدًا شعور بالخوف، وأنا وحدي معهم، مع أنني أتردد في عبور زقاق خالٍ في إنجلترا”.

“لقد كنت على يقين أنهم لا يمكن أن يقدموا على التعدي على امرأة، كما أنهم طبعًا لا يسكرون، ولذلك يخالجني إحساس أنني لم أكن لأتردد في اجتياز أي مفازة في صحبتهم”.

وعندما تتحدث عن فترة استقرارها مع هارولد في دار الضيافة بالمكلا، تشير إلى الجو المليء بالمؤامرات؛ للفوز بالحظوة والقرب من السلطان، وقد شبهت ذلك بما كان يدور في بلاط بعض الأسر المالكة في إنجلترا.

تتحدث عن تداعيات إطلاق قبيلة آل تميم بن يماني النار على سيارة الضابط بيتش التابع لفيلق المهندسين الملكيين، وهو في طريقه إلى تريم للقيام بعمل مسح لطريق السيارات قبيل عقد مؤتمر الصلح، وما أعقب ذلك من إلقاء سلاح الجو القنابل على مواطن آل تميم في فبراير1937، بعد إعطائه تحذيرات للسكان القاطنين بأن يبتعدوا مسافة كافية، ومع أن تلك القنابل لم تستهدف إلا المزارع، والبيوت الطينية الخالية من السكان كما تقول دورين، إلا أنها تتساءل، فتقول: “هناك شكوك تثار حول ما إذا كان ضرب الناس بالقنابل حتى يستسلموا مقبولاً من الناحية الأخلاقية، وكانت توجه أسئلة في البرلمان من وقت لآخر عن هذه الغارات التي تشن بين كل فترة وأخرى في محمية عدن”.

ثم تقول: “ولكني أشعر أن أي أعمال من هذا القبيل هي أعمال لا معنى لها، ولا جدوى منها؛ لأنه لم يكن يصاحبها إلا في النادر متابعة ومحاولة لإرساء سلام أكثر ديمومة…، وأنا أعلم أنه ربما توجد ممانعة شديدة لدى قبائل محمية عدن الغربية ضد التدخل في شؤونهم الداخلية، ولكن لو كانت قد شقت الكثير من الطرقات، وفتحت العديد من المدارس، وأعطيت فرصًا أكبر لأبناء المحمية للانتقال إلى عدن لمواصلة دراستهم الثانوية، فلربما نشأ جيل من شأنه أن يساعد في ردم الفجوة الكبيرة بين مواطني عدن، وسكان المحمية”.

وأثناء زيارتها لوادي عمد مثرى آل العمودي، لاحظت دورين عدم اختلاف نساء تلك المنطقة عن نساء البدو والقبائل إلا قليلاً، وأنهن يتمتعن باستقلال وحرية أكثر من مثيلاتهن في مدن شبام أو سيئون.

وتقول: “كانت النساء يدخلن إلى الغرفة التي أكون فيها أنا وعلوي [العطاس]، منهمكين في الحديث مع الرجال، ووجوههن مغطاة، ويجلسن على مبعدةٍ منا، وكن يشاركن أحيانًا في الحديث، ولكنهن لا يكن على سجيتهن إلا عندما يخلو المجلس من الرجال، وكان مبعث ارتياح لي أن أجد نساء وادي عمد يغلب عليهن الحديث بصوت لطيف وهادئ”.

ومن العادات الغريبة التي تذكرها عن زيارتها لوادي دوعن أن المرأة لا تذكر اسم زوجها، وإنما تشير إليه بالضمير(هو)، ككلمة himself عند الإيرلنديين، وفي «صيف»، يشار إلى الزوج بكلمة (والد).

وتقول: “كانت النساء يكنين بطرق مختلفة عند الحديث عن أزواجهن، وإذا سئلن عن أسمائهن، فلا بد أن يتولى الرد غيرهن؛ لأنه يعتبر من سوء الطالع عندهم أن تقول اسمك”.

“وهناك محظور يكاد يكون مشتركًا بين الكثير من قبائل البدو يتعلق بحلب الناقة من قِبل امرأة، وكانت لدى كل قبيلة تقريبًا كلمات أو عبارات معينة يحظر استعمالها على أبناء هذه القبيلة، ومن هذا القبيل ما أتذكره عندما كنا ذات مرة جلوسًا حول نار المخيم، وكان الرجال يحاولون بكل وسيلة أن يحملوا البدوي الذي كان يمسك إبريق القهوة على أن يستعمل كلمة (يصب)؛ لأنهم كانوا يعلمون أن تلك الكلمة بالنسبة له من الكلمات المحرمة، وبالنسبة لبدوي آخر يعتبر كلمة (قرد) من المحرمات”.

ثم الأكثر غرابة هو ما نقلته عن بعض مرافقيها عن قدرات البدو في قوة الحدس بالأشياء التي سوف تقع في المستقبل؛ فمنها تلك التي كان يرددها البدو في أزمان سالفة، ثم ظهر تحققها وذلك نحو قولهم: “طِر في الجو إلى قشن”، وذلك قبل ظهور الطائرات بفترة طويلة، أو قولهم: “سأملك بندقية تصيب خمسة”، أو عبارة: “البدو سيصبحون خليين”، والذي فسِّر بظهور السيارات، وحرمان البدو من مصدر رزقهم؛ إذ كانوا يسيّرون القوافل ويؤجّرونها ويقومون بخفارتها وحمايتها.

ويؤكد هذا الأستاذ نجيب باوزير، فيروي عن الأستاذ القاص عبدالله سالم باوزير في سيرته الذاتية (أنا والحياة، ص 157) شيئًا مشابهًا، فيقول متحدثًا عن جدته: “منذ وعيت نفسي، لربما وأنا في الخامسة من عمري، كنت كثيرًا ما أسمعها عندما تتشاجر مع بنتها، وتتضايق منها، تصرخ فيها قائلة: “قومي من قدامي طيارة تطير بش”.. تقول هذه الكلمات، وهي لم تسمع بالطائرة، ولم ترها في حياتها”.

وأخيرًا، نتركها، وهي تتحدث عن استضافة أسرة السيد حسين البار، وهي أسرة حضرمية تعيش في مصر – لها ولابنتها الحضرمية زهرة التي تبنتها، فتقول: “تلك هي الأسرة التي لقينا أنا وزهرة منها الحفاوة، وكرم الضيافة التي عندما أعود بذاكرتي إليها أجدها شيئًا يدعو إلى الدهشة.. ذلك أنني بعد مضي سنوات عديدة منذ عودتي واستقراري في إنجلترا، حيث أبواب البيوت المتقابلة دائمًا مقفلة، وحيث ينظر بعين الريبة إلى كل زائر غريب، خلافًا لما عهدناه في الجزيرة العربية من كرم الضيافة الذي كنا نلقاه أينما حللناه – لا أملك إلا أن أنظر بمزيد من التقدير والإكبار إلى دفء الحفاوة التي أحاطتنا بها أسرة البار”.

وهكذا أيضًا تحدثت عن كرم آل البقري، فقالت: “توقفنا قبالة بيوت آل البقري العالية التي كانت تتعملق وحدها مطلة على ذلك القفر الممتد من الرمال الذي يحيط بها.. كانت هذه الأسرة مشهورة بكرم الضيافة، وكان رجالها يطلقون النار باتجاه كل من يحاول المرور دون أن يعرج عليهم لتناول شيء من الشراب أو الأكل”.   

– ملاحظات:

لا شك أن من طالع هذه الرحلة بترجمة الأستاذ القدير نجيب سعيد باوزير يعرف مدى براعة وإتقان المترجم، وسعة اطلاعه، وقدرته اللغوية في نقل النص الإنجليزي في معرض بديع ومتقن، وبأسلوب عربي راقٍ ودقيق، وليس ثمَّ من ملاحظة سوى ملاحظتين اثنتين فرضتهما طبيعة الكتابة الإنجليزية، وعدم إلمام المترجم – ربما – بتفاصيل بعيدة عن موطنه.

أما الملاحظة الأولى، فلا تتوجه إلى المترجم، وإنما إلى ابنة الكاتبة، وهي الأستاذة ليلى انجرامز، إذ تضارب ما أوردته في مقدمتها عما أوردته أمها في رحلتها.

1-  ذكرت ليلى انجرامز في مقدمتها لكتاب والدتها أن التوقيعات على الصلح بلغت 1400 توقيع، بينما ذكرت دورين في رحلتها (ص94) أن ما يقرب من ألف ومئتي زعيم قبلي من وقّعوا على اتفاقية الصلح.

2- وقَع المترجم الأستاذ نجيب سعيد باوزير (ص203) في خطأ في اسم الشيخ علي الهمداني الذي دعيت دورين إلى منزله للاستحمام في أحد حماماته البخارية، فسماه الأستاذ باوزير «الحمداني».

3- وعند حديث دورين عن رحلتها إلى إب (ص206)، وقع المترجم في خطأ ثانٍ عند ذكر «السحول»، وهو حقل واسع يمتد من سفح جبل سمارة شمالاً إلى مدينة إب جنوبًا، فسماه المترجم «سهول»، وهذا من غريب الاتفاق، فالذي كان حقه الهاء في «الهمداني»، أعطاه المترجم للحاء، فصار الحمداني، وما كان حقه الحاء في «السحول»، أعطاه للهاء، فصار السهول. ولا بأس في ذلك، فربما عدم خبرة الأستاذ نجيب بشمال الوطن، ثم طبيعة الحروف الإنجليزية التي ليس فيها حرف الحاء هي سبب رئيس في هذا الالتباس الذي وقع فيه.

– ملاحظات من الدكتور صادق مكنون:

أرسل لي الدكتور صادق مكنون – نائب رئيس جامعة الأحقاف هذه التصويبات:

1- معاهدة الاستشارة مع القعيطي في أغسطس 1937، أما مع الكثيري قبل التوقيع على المعاهدة، ثم تجديد معاهدة عدن التي عقدت 1918، حيث أعطى التجديد استقلالاً للسلطنة الكثيرية عن السلطنة القعيطية، وتم التوقيع عليها في فبراير 1939، ثم في مارس 1939 تم التوقيع على الاتفاقية الاستشارة مع السلطان الكثيري.

2- لا علاقة مباشرة لدورين انجرامز بالتوقيع على الهدنة.. زوجها انجرامز هو الذي سعى بمساعدة أبو بكر الكاف، والسلطان علي بن صلاح القعيطي، وغيرهم في تجميع توقيعات زعماء القبائل على الهدنة.

 *كاتب يمني.

   
 
إعلان

تعليقات